جورج أورويل: سيرة مثقف لم يمت
ولد إريك آرثر بلير، المعروف باسمه الأدبي: جورج أورويل، عام 1903 لأسرة بريطانية بسيطة تعمل في الحكومة البريطانية في الهند. أمل والداه أن يصبح محاميًا أو طبيبًا، فأرسلوه إلى مدرسة ابتدائية إنجليزية، ثم تنقّل بين المدارس المختلفة حتى حصل على منحة لجامعة إيتون حيث درس هناك شهورًا قليلة قبل أن يجبره مزيج من الظروف المادية الصعبة وكراهية الدراسة الأكاديمية على ترك الدراسة والالتحاق بالشرطة.
اختار أورويل العمل في الشرطة البريطانية الموجودة ببورما، وكانت وقتها تابعة للتاج البريطاني، قبل أن يصاب بحمى الدنج ويرجع إلى بريطانيا في أجازة شعر خلالها بعدم السعادة في مسار حياته الحالي، فقرر الاستقالة من الشرطة البورمية والبقاء في بريطانيا والتفرغ للكتابة. لاحقًا كتب واصفًا هذه المرحلة من حياته بأنه «شعر بتأنيب الضمير من دوره في العمل لصالح الإمبراطورية البريطانية».
بعد عودته إلى بريطانيا، تنقّل أورويل بين الوظائف، فتارة يعمل في مكتبة، وتارة يعمل كمدرس في مدرسة صغيرة، حتى نشر أول أعماله الروائية «أيام بورما»، وصف فيها مظاهر السلطة البريطانية القمعية في بورما ومعاملتها للسكان الأصليين هناك في شكل روائي بسيط مستندًا إلى تجربته في الشرطة البورمية. يعتبر كثيرون أن هذه الرواية تمثل أولى علامات اهتمام أورويل بالسياسة، وأول تجليات أسلوبه المميز في الكتابة.
لاحقًا، سافر أورويل إلى شمال بريطانيا الفقير، بناء على اقتراح من صديق له، للتحقيق في الوضع الاقتصادي للسكان وعمال المناجم الفقراء. دخل أورويل منازل العمال وشاركهم نمط حياتهم اليومي، واكتشف أن هناك كثيرًا من الفقر المسكوت عنه. أصدر أورويل كتابه الثاني «الطريق إلي ويجن باير» بناء على هذه الرحلة. تضمن الكتاب، بجانب وصف دقيق لمعاناة السكان الفقراء فى الشمال، آراء صريحة من أورويل حول انتمائه الاشتراكي واقتناعه بأن الاشتراكية تقدم الحل لمشاكل الفقر في المجتمع البريطاني؛ لكن الكتاب أيضًا تضمّن انتقادات حادة للمجموعات اليسارية التي قابلها أثناء رحلته. ستصبح هذه علامة مميزة لآراء أورويل السياسية فيما بعد.
أورويل في الحرب الأهلية الأسبانية
في عام 1936، اندلعت الحرب الأهلية الاسبانية بين الحكومة الجديدة ذات الميول اليسارية ومجموعات القوميين التي تشكّلت من منشقين عن الجيش بعد تحالفهم مع مجموعات يمينية كاثوليكية. وعلى الفور، سافر أورويل إلى أسبانيا ليشارك في الحرب بجانب قوات الحكومة اليسارية المدعومة من الاتحاد السوفيتي ضد تحالف القوميين المدعوم من ألمانيا هتلر وإيطاليا موسوليني.
كانت المناطق الخاضعة لسيطرة المجموعات اليسارية أثناء الحرب تشبه جنة الاشتراكية. انتفض الفلاحون ضد أصحاب الأراضي وشكّلوا تعاونيات تولّت إدارة أراضيهم. تمت مهاجمة الكنائس والقضاء على سطوة رجال الدين، وتم تأميم كل المحلات و المصانع الخاصة لصالح العمال. حتى وسائل النقل تم تأميميها بحيث لم يعد هناك ملكية خاصة للسيارات ما جعل أورويل يكتب: «حتى ولو لم يعجبني كل هذا، فإنه يستحق القتال من أجله».
لكن سرعان ما وقعت الخلافات بين قادة المجموعات اليسارية التي انقسمت مطلقةً حربًا أهلية داخل الحرب الأهلية. في جانب، كان هناك الحزب الشيوعي المدعوم من الاتحاد السوفيتي، وقد سعى إلى وضع المناطق الثورية تحت قيادة مركزية لتوحيد جهود الحرب ضد الفاشيين، وعملا بسياسة ستالين الشهيرة بتوحيد الحركات الشيوعية حول العالم تحت قيادة الحزب الشيوعي الأم. فى الجانب الآخر، كانت هناك المجموعات الأناركية وتنسيقيات العمال التي رأت أن محاولة الحزب الشيوعي للسيطرة لا تعني إلا قتل التجربة في مهدها وخضوع الثورة كلها لسيطرة موسكو.
في البداية، و قبل اندلاع الاشتباكات، كان أورويل متعاطفًا مع الحزب الشيوعي نظرًا لإيمانه بضرورة تنسيق جهود الحرب بشكل مركزي. لكن حينما وقعت الاشتباكات، حارب في صف الأناركيين معللا ذلك في خطاب إلى صديق له أنه «شعر بالتعاطف معهم نظرًا لكونهم لا صوت لهم؛ ففى الصحافة الرأسمالية لا أحد يكتب عنهم، وفي الصحافة الشيوعية لا يكتب عنهم إلا الأكاذيب».
في النهاية، حارب أورويل في جانب الأناركيين، وهو أمر سيعرضه لانتقادات ومشاكل عديدة فيما بعد حتى أصيب برصاصة في حلقه كادت تودي بحياته، مما أدى إلى ابتعاده عن القتال لفترة. وحينما تعافى، كانت قوات الاناركيين قد انهزمت وصارت بقاياهم مطاردة وعرضة للاعتقال ما دفع أورويل إلى الهرب خارج أسبانيا والذهاب إلى المغرب للاستشفاء ثم العودة منها إلي بريطانيا، لينهي تجربة ستشكل، هي ورحلته إلى شمال إنجلترا، الأساس لفكره السياسي.
بعد عودته إلى إنجلترا، عانى أورويل بسبب اختلاف آرائه عن السائد فى بريطانيا. فمن ناحية، لم يوافق الناشرون الرأسماليون على النشر لكاتب اشتراكي يدعم الفقراء ويدعو لإنهاء الرأسمالية. ومن ناحية أخرى، رفضته دور النشر الشيوعية نظرًا لموقفه من الحرب الأسبانية وانتقاداته المتكررة لنموذج ستالين الاشتراكي. لكنه فى النهاية، تمكّن من العثور على ناشر يتفق معه في وجهات النظر، فاستمر في كتابة بعض المقالات الأدبية حتى اندلعت الحرب العالمية الثانية. وبعد أن حاول التطوع في القتال ضد ألمانيا، ولم يسمح له بسبب حالته الصحية، قرّر المشاركة في الحرب عن طريق العمل في هيئة الإذاعة البريطانية BBC، وكانت في ذلك الوقت تبث دعاية ضد النازية.
بحلول نهاية الحرب، صدرت له إحدى أشهر رواياته «مزرعة الحيوانات» التي حازت شهرة عالمية واسعة، وترجمت إلى عدة لغات، وتناولت الثورات التي تنقلب على أصحابها، وتصبح في النهاية مجرد نسخة مما ثارت عليه، بحيث شكّلت نقدًا للرأسمالية، وكذلك للاشتراكية الستالينية، في صورة بسيطة وسهلة وقابلة للتداول والفهم من عامة الناس غير المثقفين.
بعدها بعدة أعوام، قدّم أورويل آخر أعماله وأشهرها على الإطلاق؛ رواية «1984» التي تحدثت عن عالم مستقبلي تحكمه حكومة مركزية تقوم بعملية خداع شاملة لضمان ولاء مواطنيها. تتضمن عملية الخداع السيطرة على اللغة والإعلام والفكر وحتى التاريخ، من أجل تطويع المواطنين لخدمة الحزب الحاكم. نال أورويل شهرة كبيرة إثر نشر الرواية، ولكن لم يسعفه القدر أن يعيش ليشهد النجاح الباهر لروايته إذ توفي بعد نشرها بعام واحد قضى معظمه في معاناة مع مرض السل، لينهي حياة حافلة بالأحداث قدّم خلالها أعمالا صارت من كلاسيكيات الأدب الانجليزي والعالمي، وخاض خلالها نضالاً بكل الوسائل من أجل ما آمن به.
الفلسفة السياسية لأورويل
في عالم كان مستقطبًا بشدة بين شيوعية ديكتاتورية وبين ديمقراطية مستغلة، مثّل أورويل الطريق الثالث. كان أورويل يعرّف نفسه، تارة جادًّا وتارة ساخرًا، بأنه «أناركي محافظ»، وهو تعبير متناقض لكن كان له الأثر المطلوب في وصف حالته الدقيقة، حيث أنه لم يكن شيوعيًا أو أناركيًا كاملا، ولم يكن رأسماليًا أيضًا، وإنما كان متعاطفًا مع الفقراء ومدافعًا عن الحريات الفردية ضد سيطرة الدولة الشاملة في الوقت ذاته.
لم يقبل أورويل التضحية بالحريات الفردية للوصول للحلم الشيوعي في عالم بلا فقراء، ولم يقبل أيضًا إدعاءات الرأسمالية أن النظام الحالي عادل، وأن المعادلة هي بين الحرية والفقر. ظل يتأرجح في القتال على الجبهتين، فتارة يواجه الرأسمالية في «الطريق إلي ويجن باير»، وتارة يواجه الديكتاتورية الشيوعية في «1984».
كما أن أورويل كان نموذجًا نادرًا من المثقفين الذين أخذوا على عاتقهم الدفاع عن ما آمنوا به بكل الوسائل، سواء بالقلم أو بالسلاح، ويشهد على ذلك سفره لأسبانيا للوقوف ضد الفاشية القومية المدعومة من هتلر وموسوليني، وتشهد أيضًا أعماله الأدبية التي كرست نفسها للدفاع عن القيم الفردية، وضد السيطرة على عقول وإرادة الناس، وللتحذير من مخاطر الديكتاتورية.
كما كان لانحياز أورويل لعامة الناس أثره العظيم على أعماله. ففي «الطريق إلى ويجن باير»، يختلط أورويل بالفقراء وعمال المناجم ويعيش معهم ويكتب عن أحوالهم اليومية وعن الفقر المدقع الذي يعيشون فيه، مطالبًا بتحسين أوضاعهم، ويهاجم النظام الرأسمالي الذي يتسبب في أوجاعهم. وفي «1984»، يكتب دفاعًا عن حريتهم الفردية ضد سلطة الدولة التي تتحكم في أقوالهم وأفعالهم. ولكن الأهم هو أن أورويل وجّه كتاباته إلى عامة الناس، وليس إلى المثقفين، بأسلوبه السهل والبسيط، وباستعارات يمكن أن يفهمها أبسط الناس.
كان أورويل مؤمنًا بأهمية «المواطن العادى» الذي لم ينل حظه من التعليم أو الثروة، بل إن أورويل كتب مقالة يهاجم فيها تعمد المثقفين استخدام مصطلحات معقدة في كتاباتهم، واتهمهم بالتسبب في جهل الناس. وحاول في المقالة أن يشرح، بطريقة بسيطة وسهلة، كيفية كتابة مقالات بدون استخدام كلمات معقدة حتى يتسّني لأي شخص التعبير عن نفسه وأفكاره.
وعلي النقيض، واجه أورويل انتقادات عديدة سواء في حياته أو بعد مماته. اتهمه بعض النقّاد بسذاجة أفكاره وسطحيتها، وأنه حالم أو رومانسي. فمثلا، كان أورويل في انحيازه للأناركيين على حساب الشيوعيين، يتخذ موقفًا لاعقلانيًا بالفعل، لأن محاولات الفوز بالحرب ضد جيوش نظامية كجيش القوميين كانت شبه مستحيلة بالاعتماد على مجهودات فردية لانظامية كمجهودات الأناركيين.
تذهب اتهامات السطحية الموجّهة لأورويل أعمق من هذا بسبب تجاهله مثلا لمعضلات أساسية كمعضلة إيجاد الإطار الجامع بين الحاجة إلى اقتصاد اشتراكي موحد، والحاجة للحفاظ على مجتمع قوي في مواجهة سلطة الدولة لحماية الحريات الفردية. دافع اورويل عن الحريات السياسية والاشتراكية كل على حدة، لكنه لم يقدم أبدًا أي حلول للمشكلات الناجمة عن دمجهما سويًا.
الانتقادات طالت حتى دعوته لاستخدام لغة بسيطة في كتابة المقالات حيث أن تعقيد اللغة هو مجرد مرآة لتعقيد المفاهيم التي تشرحها، ومحاولة تبسيط ذلك تؤدي إلى اختزالها وسطحيتها. كما طالته أيضًا اتهامات بمعاداته للسامية في مذكراته ورواياته. لكن كل هذا لم يُخل بمكانته المعترَف بها كأحد أفضل أدباء القرن العشرين.
الآن، وبعد مرور حوالي 70 عامًا على وفاة أورويل (1950)، لا تزال أعماله تطبع وتنشر حول العالم للتحذير من مخاطر الديكتاتورية، ولا تزال بعض الدول تمنع مجرد الإشارة إلى أعماله خوفًا من تأثيرها على الأنظمة الحاكمة. وما زال العالم بحاجة لأمثال إريك آرثر بلير ربما أكثر من ذي قبل.