تحرير الجينوم: طموح إنساني أم طمع استثماري؟
صارت تقنية تحرير الجينوم تثير الكثير من الجدل، ليس في المجتمع العلمي فحسب، ولكن أيضًا في المجتمع البيئي، وقد كانت ردود فعل نشطاء المجتمع البيئي التوعوي مثيرة بالنسبة لي، مما دفعني إلى البحث بعمق عن هذه التقنية، وتكوين وجه نظر خاصة.
لذلك، يأتي هذا المقال كاستجابة للقلق المُثار وللحيرة الناتجة عن انقسام الآراء بين مرحب بهذه التقنية باعتبارها ثورة علمية قادمة، وبين رافض لها بشدة؛ فما هي تلك التقنية؟ ولماذا تثير هذا الجدل؟
ما هو تحرير الجينوم؟
تحرير الجينوم هو مجموعة تقنيات تمنح العلماء القدرة على تغيير الحمض النووي للكائن الحي، وتسمح هذه التقنيات بإضافة صفات مرغوبة أو إزالة صفات معينة في مواقع محددة في الجينوم. بمعنى آخر تُمكِن تلك التقنية من إجراء تغييرات على الحمض النووي، بما يؤثر على ظهور أو محو صفات محددة في الكائن الحي، مثلًا إزالة الجينات المسئولة عن اللون البني في الفطر، أو إنتاج طماطم بلا بذور، أو إنتاج قمح لا يحتوي على مادة الجلوتين، أو التحكم في حجم الثمار.
يعود ظهور مصطلح تحرير الجينوم إلى عام 2009، ولكن كانت تطبيقاته تُجرى –حينئذ- في نطاق ضيق. ومع عام 2012 تم اكتشاف نظام «كريسبر-كاس9»، وهو نظام يعمل مثل المقص يقطع الحمض النووي في مكان معين، حيث يمكن للعلماء إزالة أو إضافة أو استبدال الحمض النووي. ويعد هذا النظام أسرع وأرخص وأكثر دقة من التعديل الوراثي التقليدي الذي يُطبَّق على المحاصيل الزراعية، والذي يحتاج إلى تهجين يمتد عبر عدة أجيال.
يمكن للتحرير الجيني أن يكون مفيدًا للغاية في الزراعة، وذلك لإنتاج محاصيل زراعية أكثر مقاومة للإجهاد الذي تُسبِّبه تغيرات المناخ، وكذلك لإعطاء النباتات مقاومة فطرية لبعض الأمراض الشديدة. ولم يقتصر التحرير الجيني على منح ميزاته للنباتات فحسب، وإنما توسعت تلك التقنية في وهب ميزاتها للحيوانات والإنسان كذلك.
من المتصور أن تدخل تقنية التحرير الجيني في الوقاية من الأمراض لدى البشر وعلاجها؛ حيث إن أدوات تعديل الجينوم لديها القدرة على المساعدة في علاج الأمراض ذات الأساس الجيني، مثل التليّف الكيسي والسكري.
لماذا إذن تثير هذا التقنية كل ذلك الجدل؟
مع انتشار مؤسسات وحركات الوعي البيئي، تخضع هذه النوعية من التقنيات لموجات كبيرة من التقييم والنقد وإلقاء الضوء على آثارها ومخاطرها على البيئة، ثم أن التوسع في النشاط الاستثماري لتقنية تحرير الجينوم قد أيقظ النقاشات و الجدل حول تلك التقنية.
طموح إنساني أم طمع استثماري؟
تعطي الشركات الاستثمارية الكثير من الوعود التي أجدها من منظوري مجرد وعود وردية. تدور تلك الوعود حول مزايا تطبيقات تقنية تحرير الجينوم على المحاصيل الزراعية، مثل المساهمة في تحقيق طموحنا في الزراعة المستدامة، وحل مشكلة الجوع في إفريقيا وآسيا، أو الجوع المحتمل الذي سيواجه الكوكب في السنوات القادمة. وهنا لا بد أن نتساءل: هل هي وعود حقيقة؟ أم وعود من أجل جذب عدد أكبر من المستثمرين وكتم الأفواه التي تُعيِق تقنين التوسع في تطبيقات تلك التقنية؟
من المتصور أن تقوم شركات المحاصيل الزراعية والتكنولوجيا الحيوية بتطوير محاصيل تجريبية مُعدَّلة جينيًا للاختبار في البلدان النامية، حيث تكون الحاجة للغذاء أكبر من الإرادة السياسية لحماية المستهلكين، ولا يمكننا أن نغفل أن مثل هذه الممارسات تُمارَس تحت غطاء الإنسانية أو شعارات مثل القضاء على الجوع في إفريقيا، غير أن الأمر ربما يكون برمته اختبارًا لمحصول مُعدَّل داخل معمل بشري كبير.
كما أن إنتاج شركات التكنولوجيا الحيوية للبذور المعدّلة وراثيًا ونجاحها في ذلك وحصول البعض منها على براءة اختراع بسبب حداثة تلك البذور، يُمكِّنهم وحدهم من التحكم في استخدام وتداول تلك البذور المعدّلة، كما يمنحهم حقًا رسميًا في مقاضاة المزارعين الذين يستخدمون البذور المعدّلة في حقولهم، حتى لو تلوثت حقولهم عن طريق حبوب اللقاح من الحقول المجاورة بالخطأ، وذلك قد يضر بصغار المزارعين ويُعرِّضهم لأزمات قانونية. وذلك على غرار الجدل الذي أثارته شركة «مونسانتو» حول ملكية بذورها.
والخطر الآخر الذي يُهدِّد مصلحة المزارعين الصغار، في أوروبا والدول النامية على حدٍ سواء، هو عدم قدرتهم على المنافسة والصمود أمام شركات المحاصيل الزراعية الكبرى. فعلى سبيل المثال، سوف تزيد معدلات استخدام المحاصيل المحلية المُعدّلة في الدول الغربية بدلًا من الصادرات من البلدان الأقل تقدمًا، وهذا من شأنه أن يؤثر على حجم صادرات المحاصيل العربية للغرب.
الوجه السيئ لتحرير الجينوم
في يوليو/تموز 2018، وجد علماء من معهد «ويلكوم ترست سانجر» في المملكة المتحدة، أن تقنيات الهندسة الوراثية الجديدة مثل «كريسبر» قد تُسبِّب «فسادًا وراثيًا»، وذلك من خلال حدوث عمليات حذف وإعادة ترتيب معقدة في الحمض النووي، تستهدف مواضع لم يقصدها العلماء.
يثير التحرير الجيني بعض التساؤلات والمخاوف الأخلاقية، بما في ذلك مدى سلامة استخدامه لعلاج المرضى، وهل من المقبول استخدامه لتلبية رغبات شخصية غير مهمة، مثل الطول ولون العينين؟ هل ستكون العلاجات الجينية باهظة الثمن وبالتالي تكون حكرًا على الأثرياء فقط؟ وهل في المستقبل مع انتشار تقنيات تحرير الجينوم في العلاج الطبي، سيكون احتمال قبولنا أقل للأشخاص المولودين بأمراض وراثية؟ هل سيقضي التحرير الجيني على التنوع والثراء البيولوجي في مقابل التصميم الهندسي الحيوي والتفضيل الشخصي؟
تثير مثل هذه التقنيات أسئلة حول مدى قدرتنا على تصميم أجنّة حسب الطلب. في الحقيقة، إن الحصول على أطفال مُصمَّمين جينيًا في الوقت الراهن هو احتمال بعيد، لأن العلماء لم يستطيعوا بعد تحديد الجينات المسئولة عن ظهور صفات مثل الطول والذكاء.
هناك أسئلة وقضايا عديدة لم تتم الإجابة عليها، تقف في طريق القبول الكامل لتطبيقات تقنية التحرير الجيني من قبل الجمهور. في كل مرة تنحرف فيها تجربة معملية عن مسارها، تحدث ردة فعل إعلامية عنيفة وواسعة النطاق، مما يزيد من تأجيج النقاش حول الحكمة من استخدام هذه التقنيات.
تتلخص المطالب في التأسيس لنظام إشرافي وتنظيم صارم من قِبل حكومات الدول، على أن يتم سن قوانين وتشريعات تُنظِّم بإحكام عمليات تطبيق تحرير الجينوم، بحيث تكون الأولوية لمصلحة الإنسان والبيئة عن أي مصالح استثمارية أخرى.