محتوى مترجم
المصدر
aeon
التاريخ
2018/02/16
الكاتب
إدوارد بي ويسترمان

كثيرًا ما دارت الرحى في اتجاه الحديث عن الهولوكوست، لكن هذه المرة يقدم الكاتب صورة ربما لم تُطرح قبلًا، كيف كان الخمر عاملًا مشتركًا بين كل عمليات القتل الجماعي، ربما يستحق ذلك السؤال أن يُطرح.

كان ذلك بعد ظهر أحد الأيام في بدايات العام 1942، حيث ولج «يوهان جرونر» إلى مقر القيادة الألمانية بمدينة «نوي طارج» البولندية لتناول الغداء، وكموظفٍ بدرجةٍ متوسطة في بولندا المحتلة، فقد استمتع بمميزات السلطة، وبفرص ترقية درجته الوظيفية، التي صاحبت أداء واجبه في الشرق. كان المقر الألماني مزيجًا من مركز ثقافي وحانة، وقد كان واحدة من الميزات التي يستمتع بها المحتلون. كلما دخل يوهان المبنى سمع أصوات احتفالاتٍ صاخبة بداخله.

دخل عبر البوابة الأمامية أحد ضباط الغيستابو – بدا بوضوح أنه ثمل – ثم عبر من عند مشرب الجعة، وقد كُتب على قميصه الرقم 1000 بخطٍ أحمر، خاطب الشرطيُّ الثمل جرونر بتفاخرٍ: «يا رجل، إنني احتفل اليوم بتنفيذي الإعدام رقم 1000».

قد تبدو الحادثة التي وقعت في المبنى الألماني، وللوهلة الأولى، مجرد انحراف غريب من قاتل نازي فاسد، لكن تلك الاحتفالات كانت منتشرة بشكل كبير في الأراضي الشرقية المحتلة، وكان عناصر مجموعة «شوتز شتافل» سيئة السمعة – مجموعة عسكرية تابعة للحزب النازي كانت مهمتها حماية هتلر – وأفراد من الشرطة الألمانية، يشاركون فيها بشكل معتاد بعد عمليات القتل الجماعي.

في الواقع، كان الإفراط في شرب الكحوليات شائعًا بين مجرمي عمليات الإبادة، سواء في أماكن القتل أو الحانات أو القاعات العسكرية المنتشرة في بولندا والاتحاد السوفيتي. وفي حادثة أخرى مروعة، أحرق رجال الشرطة جثث 800 يهودي وملؤوا بها البراميل، وعندها نال أحد الرجال ويُدعى «مولر» شرف إحراق «اليهود الخاصين به»، ثم جلس هو وأصدقاؤه حول النيران يحتسون الجعة!

استدعت امرأة يهودية ذكرياتها بعد حادثة قتل مشابهة وقعت في «برزيميسل» في بولندا: «لقد شممت رائحة الأجساد المحترقة، ورأيت عناصر الغيستابو مُشعلي الحريق يغنون ويشربون الخمر». إن احتفالات النصر بالنسبة لهم تثبت إنهاءهم لمهام اليوم، واستمرارهم في كل عمليات القتل والتحرر من اليهود.

إن الدور الذي لعبه الكحول في مجازر النازيين بحق يهود أوروبا يستحق الاهتمام الأكبر، فبينما أظهر كثير من أبحاث العلوم الاجتماعية رابطًا بين شرب الكحوليات والقتل والعنف الجنسي، إلا أن الرابط بين القتل الجماعي وتناول الكحول ما زال ينقصه البحث. قدّم الكحول كثيرًا من الخدمات للجناة النازيين: تشجيع ومكافأة القاتل، تعزيز وتحفيز عملية القتل، ويعمل كآلية للتأقلم.

في مجال دراسات الهولوكوست، اشتملت تفسيرات دوافع الجناة على مجموعة متنوعة من العوامل المؤثرة والعاطفية، بدايةً من الرجال العاديين الخاضعين لتأثير الأقران وطاعة السلطة والطموح الشخصي، وصولًا إلى مجرمي القتل العمد المتشبعين بمعاداة السامية والكراهية العنصرية، ومع ذلك فإن تعاطي الكحول سهّل أعمال القتل والفظائع، سواء للرجال العاديين أو الجناة الكِبار.

استخدم القس «باتريك ديسبويز» في بدايات الألفية الجديدة آلية البحوث الباليستية، للعثور على مقذوفات الأسلحة النارية، من أجل رسم خريطة للمناطق التي قامت فيها الـ«شوتز ستافل» وفرق الشرطة بقتل جماعات يهودية كاملة في أوكرانيا. وخلافًا للاعتقاد السائد، وجد أن العديد من أماكن القتل كانت في وسط المدن على مرأى ومسمعٍ من الجميع. لم تكن تلك المذابح فقط هي ما جرت في الأماكن العامة، لكن الشهود غير الأوكرانيين غير اليهود، عادة ما كانوا يتذكرون تعاطي القتلة لمشروبات الكحول.

شاهدت «هانا سينكوفا» وهي طفلة، عملية إعدام جماعي من قِبل قوات الأمن والشرطة في مسقط رأسها بمقاطعة «رومانفيكا»، وبعد وصول الألمان، أُجبرت عمتها على طهو الطعام لمأدبة كان القتلة قد أمروا بتجهيزها قبل الشروع في المذبحة، وقد عقد القس مقابلة مع سينكوفا ذكرها في كتابه «الهولوكوست بالرصاص» عام 2008، وفيها قالت:

لم يرغبوا في أكل شيء سوى قطع اللحم الكبيرة.. قام بعض منهم بقتل اليهود فيما كان الآخرون يأكلون ويشربون. ثم جاء من أطلقوا النار لتناول الطعام وخرج من كانوا يأكلون لإطلاق الرصاص مجددًا على اليهود.. كانوا يأكلون الطعام ويغنون، كانوا ثملين، كانوا يطلقون النار في الوقت ذاته. كان بإمكان المرء رؤية الأذرع والسيقان تتطاير من حافة الحفرة.

في حادثة مشابهة، كان المفوض النازي في أوكرانيا «ويليام ويسترهيد»، والذي شارك في مذبحة استمرت أسبوعين قُتل فيها 15 ألف يهودي. كان ويسترهيد غارقًا في تناول الخمر أثناء إطلاق النار مع بعض النساء الألمانيات، كانوا يأكلون ويشربون وسفك الدماء مستمر، وقد سُمعت الموسيقى في الخلفية، بينما حفلة القتل السريالية مستمرة كما وصفها «ويندي لوير» في كتابه «أحقاد هتلر – Hitler FURIES» في 2013. وبذلك، استخدم القتلة الكحول لخلق صداقات حميمية، وإزالة العوائق من طريق مهمتهم الشنيعة.

في حين احتفلت فرق الموت بين قبور ضحاياهم، كانت الحانات والمطاعم بمثابة أماكن للاحتفال بالقتل الجماعي، حيث كان شرب الخمر مُصاحبًا للأغاني التي تعزز الفكر الذكوري النازي من صلابة وصداقة حميمية وعنف. وفي إحدى الحانات في بلدة «فيتشيروفو» البولندية، شهد أحد الموجودين هناك، كيف أن مجموعة من رجال «شوتز ستافل» جاءوا من إطلاق نار كما بدا عليهم، وكانوا يتجادلون حول كيف كانت أدمغة الضحايا اللعينة تتطاير في كل مكان.

وشهدت «ماريانا كازمبيرزاك» – وهي فتاة تبلغ من العمر 17 عامًا، وكانت تعمل في مطعم في زاكارزيو – أن عناصر «شوتز ستافل» كانوا يجتمعون بشكل اعتيادي لتناول الجعة والخمور، والاحتفال بعد عمليات القتل الجماعي في خريف 1939. وفي شهادتها عن الحرب والاستعمار والقتل الجماعي، والتي نشرها «جورغن ماتيوس» و«يوكن بوهلر» و«كلاوس مايكل مالمان» في 2014، قالت:

لم يكونوا ثملين تمامًا، كان مزاجهم مرحًا كما لو كانوا مخمورين تمامًا، غنوا ورقصوا.. وكانت نوبات الشرب تلك تتكرر بعد كل عملية قتل جماعي، والتي كانت تتكرر أحيانًا عدة مرات في الأسبوع. كانت نوبات الشرب تستمر حتى ساعات متأخرة من الليل.

في نهاية المطاف، كان الشرب والغناء بمثابة طقوسٍ للاحتفال، كما أنها كانت آلية لتعزيز الترابط بين توطيد الشعور بالرجولة، وبين كونهم مجموعة إبادة جماعية. في مثل هذه الحالات، كان الخمر جزءًا من مكافأة القاتل، ومُعززًا لشعور الرجولة ووسيلة للتأقلم. بعد انتقالهم إلى وارسو في يناير/ كانون الثاني من العام 1942 أنشأ أفراد الكتيبة 61 من الشرطة حانةً خارج الجيتو اليهودي. لم تكن حانة «كروشمالنا» مجرد مكانٍ للشرطة من أجل سهرات الخمر خارج الخدمة وحسب، لكنه كان أيضًا موقعًا للاحتفال والمنافسة بين الذكور فيما يتعلق بالقتل.

كان أفراد الشرطة يتنافسون في عدد اليهود الذين قتلوهم، ويتفاخرون بالأرقام التي حققوها. لم يكن هؤلاء وحسب من تتبعوا أعداد قتلاهم، فقد شهد شرطي سابق من الكتيبة 9 بعد الحرب: «إن هناك العديد من الرجال حفظوا بدقة عدد من قتلوهم بالرصاص».

كانوا يتنافسون أيضًا في الأرقام، ففي حالة الكتيبة 61، كانت البوابة الأمامية للحانة بمثابة جدول الحصيلة، مع حوالي 500 حزمة عددية في مجموعات من خمسة عناصر، وقد كانت تلك هي أعداد اليهود الذين قتلهم أفراد الكتيبة. وخلال التحقيق في أنشطة الوحدات بعد الحرب في وارسو، علق أحد أعضاء النيابة العامة قائلًا: «إن الاحتفالات كانت جزءًا من الطقوس الاعتيادية للاحتفال بعد عمليات القتل الجماعي».

لم تكن العلاقة بين الكحول والفظائع والطقوس الاحتفالية أمرًا استثنائيًا بالنسبة للجبهة الشرقية، فخلال الإبادة الجماعية في رواندا، أجرى الصحفي الفرنسي «جان هاتزفيلد» مقابلة مع مجرمي «الهوتو» – مجزرة الإبادة في رواندا – وذكر في كتابه «موسم الخناجر» أهمية الحانات المحلية كأماكن التقاء اجتماعي، وكمكان للتخطيط والتنظيم والاحتفال بالعنف ضد ضحايا «الهوتو» و«التوتسي» المعتدلين. ألمح أحد مجرمي «الهوتو» قائلًا:

كان القتلة يتحركون معًا، يتشاركون في العمل الميداني والشرب في الملهى على حدٍ سواء، خلال الإبادة الجماعية عرفت حصاد ما قامت به المجموعة من اليوم الأول وحتى الأخير.

وصفت شاهدة أخرى نهب ممتلكات الضحايا والاحتفالات الليلية، قائلة:

غنى الرجال، وشرب الجميع، بدلت النساء فساتينها ثلاث مراتٍ في هذه الليلة. كان المكان أكثر صخبًا من حفل زفاف، وكان الاستمتاع بالشرب كل يوم، على الأقل بالنسبة لهؤلاء الرجال والنساء، كانت أماكن القتل والحانة بمثابة ملتقيات اجتماعية وأماكن احتفال بعد عمليات القتل الجماعية.

في حين أن الثمول ليس شرطًا مُسبقًا للإبادة الجماعية، إلا أنه من الواضح أن طقوس تناول الكحول كانت عاملًا مشتركًا بين كل الاحتفالات بمذابح القتل الجماعي في الشرق النازي، سواء جاء ذلك من طاولة عليها نقانق مُدخنة وفودكا، أو من ثملٍ على حافة الخندق، أو حفلة قتل بعد تناول الجعة. لم يكن احتفال عضو «شوتز ستافل» بقتيله الألف راجعًا لثمالته في حزبه نفسه، وإنما لثمالته بشعور القتل في حد ذاته.

Aeon counter – do not remove