عبقرية جمال حمدان: كيف نسجت الجغرافيا «شخصية مصر»؟
كان جمال حمدان يعشق الجغرافيا، ودائماً ما كان يربطها بالحياة، فكان يقول: «إن الجغرافيا هي تلك التي إذا عرفتها عرفت كل شيء عن نمط الحياة في هذا المكان أو ذاك».
كان هذا هو النهج الرئيسي الذي اعتمد عليه المفكر الكبير «جمال حمدان»، فقد استطاع من خلال قراءة تاريخية متعمقة ودراسة جغرافية رصينة أن يُنجز عملاً موسوعياً، قادراً على استيعاب الواقع في مصر إلى الآن. فبعد حوالي نصف قرن، نعود إلى موسوعة «شخصية مصر» حتى يُمكننا فهم الحاضر وتفسيره.
عن جمال حمدان وموسوعته
كان جمال حمدان أحد أفذاذ عصره، فهو لم يكن مجرد جغرافي بارع، ولكنه كان مُفكراً مُبهراً، تميَّز من خلال قراءته المتعمقة للتاريخ، وقدرته على ربط الجغرافيا بالتاريخ، وإضفاء الطابع الاستراتيجي على أفكاره وتحليلاته، الأمر الذي منحها العمر المديد، والقدرة على التعايش مع تقلبات السياسة بعد مرور كل هذه الأعوام.
فهو من أصدر عام 1964 كتاباً بعنوان «بترول العرب» ليلقي الضوء – لأول مرة – على أهمية البترول من الناحية السياسية والاستراتيجية، وهو ما استفاد منه زعماء الدول العربية بعد ذلك بـ 9 أعوام في حرب أكتوبر 1973. وكذلك تنبأ بانهيار الاتحاد السوفيتي في كتابه «استراتيجية الاستعمار والتحرير» عام 1968، وهو ما حدث بالفعل بعد 21 عاماً.
ترك جمال حمدان حوالي 29 كتاباً و79 بحثاً ومقالة، منها «جغرافيا المدن» و«أنماط من البيئات» (1958)، و«الاستعمار والتحرير في العالم العربي» و«بترول العرب» و«أفريقيا الجديدة» و«المدينة العربية» (1964)، و«اليهود أنثروبولوجيا» (1967)، و«استراتيجية الاستعمار والتحرير» (1968).
أمَّا عمله الأشهر، الذي ما زال ينبض بالحياة إلى الآن، موسوعة «شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان»، فكانت شراراته الأولى هي هزيمة 1967. فقد صدمته الهزيمة، ورأى أن من واجبه في هذه الفترة توعية الشعب المصري، فقال:
«إننا في هذه المرحلة في حاجة ماسة إلى فهم كامل لوجهنا ولوجهتنا لكياننا ومكانتنا، لإمكاناتنا وملكتنا، لنقائضنا ونقائصنا، وكل أولئك بلا تحرج أو تحيز، ولا هروب، فليس كتابي هذا دفاعاً عن مصر، ولا هو محاولة للتمجيد، إنما هو تشريح علمي موضوعي يقرن المحاسن بالعيوب على حد سواء، ويشخِّص نقاط الضعف والقوة».
صدرت النسخة الأولى في 318 صفحة عام 1967؛ ثم أعاد كتابته بشكل أكثر توسعاً في ثلاثة كتب متوسطة الحجم، وأخيراً أعاد كتابتها في أربعة أجزاء كبيرة، تقترب من أربعة آلاف صفحة، صدرت مجلداتها الأربعة بين عامي 1980 و1984.
ولم يتحدث حمدان في موسوعته عن مصر على أنها مجرد موقع جغرافي متميز، فلم يدرس الجغرافيا بمعزل عن التاريخ، ومن خلال هذا التفاعل حلَّل ملامح شخصية مصر من خلال تاريخها وجغرافيتها النابضة بكل المتناقضات.
ففي الجزء الأول من الموسوعة يشير حمدان ببراعة إلى جغرافيا مصر، مؤكداً أنها شديدة البساطة، ثم قام بمزج بساطة الجغرافيا بتعقيد التاريخ. واستطاع حمدان تقديم أصعب أجزاء الجغرافيا في شكل وإطار درامي مُبهر، فيما عُرف بـ «الجدل في الطبيعة»، حيث تخيل أن كل هذه المتناقضات الطبيعية تدخل مع بعضها في حوار.
أمَّا في الجزء الثاني، فنلمح شخصية مصر الحضارية، وهو هنا يشير إلى صلة الفكر الأوروبي في القرن الـ 19 بتطور الحياة، ثم تناول مصر من خلال السلطة الدائمة لنهر النيل ودوره في التطور الحضاري. وكيف خلق النيل تجانساً وتناغماً حضارياً بين كل أقاليم مصر من شمالها لجنوبها.
وفي الجزء الثالث، يركِّز حمدان على شخصية مصر الاقتصادية، وهنا طرح فكرة الانتقال من اقتصاد المعيشة إلى اقتصاد الفائض الهامشي، وهي قائمة على الابتعاد عن العقلية القانعة التي ترضى بالخضوع والقليل والواقع والمقسوم، وضرورة الطموح في الوصول إلى مجتمع الرفاه والمعيشة الأفضل.
أمَّا في الجزء الرابع، فقد قدَّم مفاتيح الشخصية المصرية، وهذه المفاتيح هي ملكة الحد الأوسط وملكة الامتصاص، حيث إن المصري يمتص كل ما يرد إليه من ثقافات ويصهر كل ما يمتصه ويُخرِج ذلك في إطار وسطي، يُمكِّنه من الاستمرار من دون أن يتأثر بأي ثقافة بعينها، أو بأي تيار عقائدي، لذلك يقول إن الشعب المصري رغم تعدد حضاراته وثقافاته من فرعوني إلى قبطي إلى إسلامي، بقي صامداً، وله ثقافته المستمرة، التي ربما تتغير في شكلها لكنها ثابتة في جوهرها.
أبعاد الشخصية المصرية
رأى حمدان أن مصر تحتل مكاناً وسطاً، سواء من حيث الموضع أو الموقع، وسطاً بين خطوط الطول والعرض وبين القارات والمحيطات، حتى بين الأجناس والسلالات والحضارات والثقافات، وليس معنى هذا أن المصريين أمة نصف، ولكن بمعنى أمة وسط، متعددة الجوانب والأبعاد والآفاق والثقافات، مما يُثري الشخصية القومية والتاريخية ويبرز عبقرية المكان.
من حيث الموضع: فإن التربة المصرية كبيئتها منقولة من منابع النيل في قلب أفريقيا إلى عتبة البحر المتوسط، وتداخلت فيها خطوط العرض المتباعدة والمتفاوتة، وهي تُمثل في النهاية حالة نادرة من تراكب البيئات. كما أن الإيراد المائي لمصر يأتي معظمه من نهر النيل، وهكذا أخذت مصر مائية الموسميات دون أن تأخذ منها مناخها القاسي أو رطوبتها. وتتميز مصر بمحاصيلها الزراعية المعتدلة، حيث تجمع بين محاصيل البحر المتوسط والمدارية، ويمكن القول إن زراعتها الشتوية تجعلها في نطاق البحر المتوسط، بينما الصيفية تنقلها إلى النطاق الموسمي. أمَّا مناخها، فيلخصه المقريزي في «مصر متوسطة الدنيا، سَلِمت من حر الأقاليم الأول والثاني، ومن برد الأقاليم السادس والسابع، ووقعت في الإقليم الثالث، فطاب هواؤها وضعف حرها وخف بردها وسلم أهلها من مشاتي الأهواز ومصايف عمان وصواعق تهامة ودماميل الجزيرة العربية وجرب اليمن وطواعين الشام وحمى خبير».
أمَّا من حيث الموقع، فإن تعدد الأبعاد في موقع مصر حقيقة واضحة، فمصر حلقة وصل بين العالم المتوسطي وبين حوض النيل، كما أنها وسط بين المشرق والمغرب؛ ولذلك نجد لمصر خمسة أبعاد أساسية (البعد الآسيوي والأفريقي والنيلي والمتوسطي والعربي)، وهي تتداخل فيما بينهما مثل البعد النيلي والأفريقي، هذا فضلاً عن أن الأبعاد الأربعة تتداخل في الإطار العربي الكبير، لأنه ليس مجرد بُعد توجيهي، ولكنه كتلة الجسم الأساسية وكيان وجوهر في حد ذاته.
وتحدث حمدان بتوسع عمَّا يُسمى بـ «جغرافية مصر الاجتماعية»، وربط بين الطبيعة النهرية لمصر وحضارتها، بفكرة المركزية السياسية بها، ومن ثَمَّ شيوع «الطغيان السياسي».
وكانت البداية بتأكيده الحقائق الطبيعية غير الخلافية، وهي أن مصر بيئة فيضية لا تعتمد على المطر الطبيعي في حياتها وإنما على ماء النهر، ومن هنا يبدأ كل الفرق في حياة المجتمع النهري وطبيعته. ففي البلاد التي تعيش على الأمطار مباشرة يختزل المجهود البشرى إلى حده الأدنى، فبعد قليل من إعداد الأرض والبذر يتوقف العمل أو يكاد حتى الحصاد. أما في بيئة الري، فليس هناك زراعة ولا تعمير إلا بعد إعداد مصارف المياه ومجاريها، أي لا بد من تأسيس شبكة غطائية كثيفة من الترع من كل مقياس ابتداءً من قنوات الحمل وقنوات التغذية إلى مساقي الحقول، فحتى تزرع إذن لا بد لك أولاً من أن تعيد خلق الطبيعة.
وزراعة الري – بهذا النمط – تخلق تضارباً في المصالح بين الناس، وتضعهم في مواجهة بعضهم البعض، لتكون المحصلة إذن واضحة: بغير ضبط النهر يتحول «النيل النبيل» إلى شلال حطام جارف، وبغير ضبط الناس يتحول توزيع الماء إلى عملية دموية، ويسيطر على الحقول قانون الغاب والأدغال، ومن هنا يصبح التنظيم الاجتماعي شرطاً أساسياً للحياة، ويتحتم على الجميع أن يتنازل طواعية عن كثير من حريته ليخضع لسلطة أعلى لتوزيع العدل والماء بين الجميع، ليتألف في النهاية ما يُطلق عليه «المجتمع الهيدرولوجي النموذجي» الذي تنسج خيوطه من ثلاثية: الماء، والفلاح، والحكومة.
كما يرى حمدان أنه إذا كانت تلك هي ضرورات وطبيعة البيئة النهرية والري من الداخل، ينبغي ألا نغفل عاملاً هاماً خارجياً من حولها، فالبيئة الفيضية، كواحة صحراوية، معرضة لأطماع وغارات الرعاة البدو باستمرار، وهذا في ذاته يستدعى تنظيماً سياسياً قوياً متماسكاً في الداخل، وهو وحده جدير بأن يعطى الحكومة سلطة قوية.
لذلك، في مصر الفرعونية، فقد وضع الحاكم نفسه ضلعاً أساسياً في مثلث الإنتاج إلى جانب الضلعين الطبيعيين: الماء والشمس، فتحول الحاكم (الفرعون) إلى الملك–الإله، فهو «ضابط النهر» والملك–المهندس. ولم يكن غريباً بعد ذلك أن العقد الاجتماعي كان قائماً على الماء. لذلك كانت المركزية السياسية، ومن ثَمَّ الطغيان السياسي، طابعاً أساسياً لطبيعة الحكم في مصر عبر التاريخ.
الفرعونية السياسية
في معرض حديث حمدان عن المركزية السياسية في تاريخ مصر وجغرافيتها، كان لا بد من الحديث عن فكرة «الطغيان السياسي». حيث أشار إلى أن الدولة المركزية، والمركزية العارمة ملمح مُلح وظاهرة جوهرية في شخصية مصر، وبالتالي فرضت المركزية السياسية والإدارية ثم الحضارية نفسها فرضاً، وذلك في شكل حكومة طاغية الدور، فائقة الخطر، وبيروقراطية متضخمة متوسعة أبداً، وعاصمة كبرى صاعدة إلى أعلى صاروخياً وشامخة فوق البلد غالباً. يصدق هذا منذ الفرعونية حتى اليوم وبلا استثناء تقريباً.
على أن السمة الأكثر سلبية والمرض المدمر حقاً إنما هو تردي المركزية إلى الاستبداد والطغيان، ومهما اختلفت التسميات بين الطغيان الفرعوني أو الإقطاعي، وسواء عُدَّ هذا قطاعاً عادياً من الاستبداد الشرقي بنمطه المعروف أو عُدَّ قمته وأعتى صوره كما يرى الكثيرون، وأياً كانت النظريات المطروحة في التفسير، فإن الطغيان والاستبداد الغاشم الباطش هو من أسف حقيقة واقعة في تاريخ مصر من بدايته إلى اليوم، مهما تبدلت أو تعصرت الواجهات والشكليات.
وسواء كانت مصر أم الدنيا أو أم الديكتاتورية، أو كان حاكم مصر هو أقدم أمراضها كما يذهب البعض، فلا شبهة في أن الديكتاتورية هي النقطة السوداء الشوهاء في شخصية مصر بلا استثناء، وهي منبع كل السلبيات والشوائب المتوغلة في الشخصية المصرية حتى اللحظة، ليس على مستوى المجتمع فحسب ولكن الفرد أيضاً، لا في الداخل فقط ولكن في الخارج كذلك.
ولقد تغيرت مصر الحديثة في جميع جوانب حياتها المادية واللامادية بدرجات متفاوتة، إلا نظام الحكم الاستبدادي المطلق بالتحديد، والفرعونية السياسية وحدها، فهي لا تزال تعيش بين (أو فوق) ظهرانينا بكل ثقلها وعتوها، وإن تنكرت في صيغة شكلية ملفقة هي الديمقراطية الشرقية أو بالأحرى الديموكتاتورية.
وجاء حمدان ليؤكد أن مصر المعاصرة لن تتغير جذرياً ولن تتطور إلى دولة عصرية وشعب حر، إلا حين تدفن الفرعونية السياسية مع آخر بقايا الحضارة الفرعونية الميتة.
ويشير حمدان بوضوح إلى أن «الشعب فاعل والحاكم مفعول به وليس العكس. وأن الطغيان لا يصنعه الطاغية وإنما الشعب هو الذي يصنع الطاغية والطغيان معاً. فمصر أعرق دولة سياسية في التاريخ، ولكن واأسفاه أعرق دولة في الديكتاتورية أيضاً».
استكشاف حمدان لـ سيناء
برع حمدان في حديثه ووصفه لسيناء، حيث يقول: «تبدو سيناء كثقل معلق، أو كسلة مُدلاة على كتف مصر الشرقي، في أقصي الشمال، ولا تلتحم بها إلا بواسطة برزخ السويس». وكان دقيقاً في وصف وبيان طبوغرافيتها وثرواتها ورمالها فيقول: «سيناء ليست مجرد صندوق من الرمال كما يتوهم البعض، وإنما هي صندوق من الذهب مجازاً كما هي حقيقة استراتيجية، فنحن نعلم أنها كانت منذ الفراعنة منجم مصر للذهب والمعادن النفيسة».
يصف حمدان سيناء طبوغرافياً، فيقول إن مجموع سواحل سيناء بلغ حوالي 700 كيلومتر من 2400 كيلومتر هي مجموع سواحل مصر، فسيناء (61 ألف كم مربع) تشكل 6.1% من مساحة مصر، وتستأثر بنحو 29.1% من سواحل مصر، لهذا ينخفض معامل القارية في سيناء كثيراً إذا ما قورن بنظيره في مصر ككل، ذلك أن سيناء تمتلك كيلومتراً ساحلياً لكل 87 كيلومتراً مربعاً من مساحتها، وكيلومتراً لكل 417 كيلومتراً مربعاً في مصر بشكل عام.
وعن ثرواتها النباتية، يقول حمدان إنه رغم الطبيعة الصحراوية لسيناء، فإنها تتميز بالثراء الشديد في الأنواع النباتية، حيث تضم 527 نوعاً من الأنواع النباتية، ربعها على الأقل لا وجود له في أي منطقة أخرى. كما يعتبر حمدان سيناء أقدم المناجم المعروفة في التاريخ. ويُدلل على ذلك بآثار وبقايا عمليات التعدين التاريخية، التي ما تزال شاهدة شاخصة حتى الآن، أحياناً ببوتقاتها وقوالب السبك وكسر الرخام وذلك من الذهب إلى الفيروز والنحاس، ومن المغارة إلى سرابيط الخادم.
لم يفت حمدان تناول مأساة سيناء كأرض معركة في الصراع العربي-الإسرائيلي، وأثر تهجير العديد من أبنائها إلى داخل وقلب الدلتا، وإقامتهم في القرى النيلية واختلاطهم بالفلاح المصري، مما علمهم الزراعة والاستقرار، وهذا انعكس على حياتهم في سيناء بعد العودة إليها.
وحول السؤال الذي كان مطروحاً أكاديمياً هل سيناء آسيوية أم أفريقية؟
يقول حمدان إن سؤال «أفريقية أم آسيوية» محسوم علمياً، ولا مبرر لحيرة أو لتناقض. فسيناء، على المستوى الطبيعي، أفريقية أكثر مما هي آسيوية، مصرية أكثر منها عربية. هذا على مستوى الجيولوجيا والجغرافيا والأرض، أما في التاريخ فتلك قصة أخرى، وكل ما يمكن أن نقوله هنا هو أن مصر كما هي في أفريقيا بالجغرافيا فإنها في آسيا بالتاريخ. وفي هذا المفهوم فإن مصر تزداد آسيوية بالضرورة كلما اتجهنا شمالاً بشرق، فالصحراء الشرقية أكثر آسيوية إلى حد ما من الغربية، وسيناء في النهاية لا تزيد آسيوية ولا تقل أفريقية عن مصر. إنها بكل بساطة جزء لا يتجزأ من مصر، كما تذهب تذهب.
العاصمة الإدارية الجديدة
تحدث حمدان بتوسع في موسوعته عن «المركزية الحضارية»، وأكَّد أن أهمية العاصمة تزداد في حضارة الأنهار، بل وصل إلى أن تاريخ مصر يكاد يكون هو تاريخ العاصمة، وهذا ما أكده الجبرتي، ومن قبله السيوطى، وهذا لا يلغي دور بعض أقاليم الحدود تاريخياً في بعض المواقف، ابتداءً من المنصورة ودمياط، أيام الحملة الصليبية، إلى رشيد والإسكندرية وبورسعيد، ضد فرنسا وإنجلترا.
ولذلك تعتبر القاهرة من أكبر مدن العالم منذ العصور الوسطى، وفي معظم تاريخها، حجم سكان القاهرة يمثل الثقل البشري الأكبر عبر التاريخ، هذا من حيث عدد السكان، ولكن عند حساب الوزن الفعلي، أو القوى البشرية الناعمة، فالقاهرة تضم ما لا يقل عن 50% من علماء وخبراء وفناني مصر بوجه عام، وكذلك الثروة المادية، والأهم أن صمود القاهرة ضد أي غزو في التاريخ، كان يعكس صمود مصر كلها، وسقوطها يعكس سقوط مصر.
وقد ركَّز حمدان في التحليل على قضية الجهاز الحكومي والإدارة في مصر، والتي رأى أنها سر النجاح أو التخلف، مما يؤكد أن مشكلة مصر هي مشكلة إدارة في المقام الأول، وليس مشكلة موارد. فحاجة مصر بحكم طبيعتها لجهاز إداري كبير، وبيروقراطية في العمل، يصعب إنكارها، في ضوء العوامل البيئية الحاكمة، ولكن بالطبع يمكن الحد من مشكلاتها، وتحسينها نسبياً. فجغرافية مصر، في حاجة لجهاز حكومي، يعكس وجود دولة مركزية قوية قادرة على إشباع الحاجات الأساسية لمواطنيها، ولا يمكن وجود دولة قوية في مصر بدون حكومة مركزية قوية.
والقاهرة بالنسبة لحمدان هي «مصر الصغرى»، ليس فقط لحجم سكانها، ولكن لأن صفوة القوى الناعمة تلجأ للقاهرة، بل رآها عاصمةً للعرب، حيث يجتمع فيها علماء وفنانو الوطن العربي بوجه عام، ولذلك فالمواطن المصري البسيط، عندما يكون في الصعيد أو سيناء، يقول: «هنزل مصر»، ويقصد بذلك القاهرة، فهو يلخص مصر في القاهرة بعفوية بسيطة.
لذلك عارض حمدان بشدة مشروع إنشاء عاصمة جديدة لمصر عندما طُرح في سبعينيات القرن الماضي، وقام بتفنيد الاقتراح من الناحية العملية، وأكَّد أنه سوف ينتهي كما بدأ، مجرد مشروع آخر يضاف إلى قائمة المدن الحفرية، وأشباح المدن والعواصم الميتة التي يحفل بها التاريخ والتخطيط.
فقد رأى أن التفكير في ترك عاصمة قائمة مسألة ليست بالهينة وتحتاج إلى مراجعة معمقة جداً لحساب الأرباح والخسائر من كل النواحي. فموقع القاهرة، هو المحصلة النهائية لآلاف السنين من التجربة والخطأ، والنجاح والفشل، كنتيجة لعملية انتخاب جغرافي وجيبولوتيكي قاسية ومُفعمة طولها 5 آلاف عام، وعرضها هو 1000 كيلومتر، أي امتداد الوادي.
كما رأى أن المواقع الصحراوية البكر التي يحاولون اختيارها لتكون عاصمة جديدة لمصر تعني أن المشروع يبدأ من الصفر المطلق، وفي الفراغ المحض، هو الأمر الذي يتطلب إنفاقات أولية فادحة بل فاحشة، تنوء بها أغنى الدول، وقد تكفي في حالة مصر لإعادة خلق الريف والقرية المصرية جميعاً خلقاً جديداً على أرفع مستويات العصر، فالمشروع من الناحية التمويلية البحتة فضلاً عن الناحية الطبيعية غير اقتصادي من البداية، وقد يتحول في النهاية إلى قطعة من المضاربة العقارية الفاشلة الخاسرة.
ويعود فيؤكد أنه في جغرافيا المدن تنقسم العواصم السياسية إلى نوعين أو نمطين: العواصم الطبيعية والعواصم الاصطناعية. الأولى نبت ونمو تاريخي طبيعي، وتعد مركز النواة البشرية العمرانية الحقيقية في الدولة، أما الاصطناعية، فهي عواصم بالأمر، بلا جذور تاريخية أو سيادة اقتصادية، فهي مدينة سياسية صرف، ومن ثَم مُختلة التوازن اقتصادياً، وبوضوح كامل، فليس في مصر مكان تحكم وتدار منه أصلح من موقع القاهرة.
وقد يكون من المناسب ختام هذا الموضوع بالخاتمة التي أرادها حمدان لموسوعته:
«إن انطلاق مصر نحو الدولة العصرية التكنولوجية الصناعية المتقدمة كفيل في ذاته بأن يحل المعادلة الصعبة في التجارة بين العرب، وهي أنها تجارة طاردة مركزية أكثر منها جاذبة مركزية، لأنها رغم تزايدها أخيراً، محدودة حتى الاختناق بتشابه اقتصاد الخامات، بل حتى تشابه الخامات الزراعية والمعدنية. والقومية العربية، ولو أنها علاقة مصير قد تعلو على الماديات والاقتصاديات، إلا أن الاقتصاد هو غذاء القومية مثلما هو عصب الوطنية والوحدة الاقتصادية بين العرب، طريق محقق إلى الوحدة السياسية … غير أنه إذا كانت القيادة والزعامة مسئولية تُمارس وواجباً يُحقَّق، فلعل الاختيار النهائي لزعامة مصر يرفد من أن ترتقي إلى مسئوليتها عن استرداد فلسطين للعرب. وإذا صح أن نقول أن لا وحدة للعرب بغير زعامة مصر، فربما صح أن نقول إنه لا زعامة لمصر بين العرب بغير استردادها فلسطين للعرب؛ لأنه لا وحدة للعرب أصلاً من دون استرداد فلسطين».