ما تفعله الطفرات الجينية بالأجنة: 8 حالات طبية نادرة
في العام 1984، وُلدت «نيللي شاهين» بأعراض مرضية ظهرت على بشرتها في صورة تشققات غريبة على الجلد. وفي مستشفى أمير المؤمنين في زابل – إيران، وضعت سيدة تبلغ من العمر 31 عامًا طفلة في وقت مبكر من ولادتها، تزن 2.1 كجم، ويبلغ محيط رأسها 44 سم، وطولها 29 سم. هذه الطفلة كانت الطفلة الثالثة للعائلة، وبالرغم من أن شقيقيها الآخرين يتمتعان بصحة جيدة إلا أن الطفلة ظهرت عليها علامات غريبة مثل الجلد السميك وتشققات عميقة، وزيادة تشكل الكيراتين العام، وعينين وأذنين غير كاملتي النمو، انقلاب في شفة الفم، وبطء في نبضات القلب والتنفس.
في كلتا الحالتين؛ هؤلاء الأطفال وغيرهم ممن يولدوا بأشكالٍ غير مألوفة؛ يُطلق عليهم الناس «الأطفال المعجزة»؛ لكن إذا ما دققنا في الأمر من جانب طبّي بحت؛ سنجد أن الأمر أبعد عن أن يكون معجزة على الإطلاق.
نستعرض اليوم بعضًا من الحالات الطبية النادرة التي تُوضح ما تفعله الطفرات الجينية في الأجنة والمواليد.
متلازمة حورية البحر
Sirenomelia أو «متلازمة حورية البحر – Mermaid syndrome» هي مجموعة من المشاكل الطبية التي تحدث في الأطفال الرضّع أثناء التخليق في الرحم؛ نتيجة لتشوهات في الهيكل العظمي والعمود الفقري؛ والتي تؤدي إلى التحام الساقين والقدمين تمامًا وتبدو في النهاية وكأنها ذيل حورية بحر.
سبب حدوث تلك التشوهات:
هذه المشاكل هي اضطرابات وراثية مميتة تحدث في الجزء السفلي من الجسم، وترتبط بالعديد من العيوب الخلقية الأخرى؛ مثل الوضع الشاذ في الكلى والأعضاء التناسلية والأمعاء.
بجانب أنه اضطراب وراثي إلا أنه حتى الآن لا يزال السبب الرئيسي مجهولاً، وتفسّره عدد من الدراسات الطبية القليلة أنه يحدث نتيجة خلل في إمدادات الأوعية الدموية من الشريان الأورطي أسفل رحم الأم.
كما أن هناك مسببات أخرى لحدوث هذا الاضطراب مثل عوامل بيئية مختلفة، وخلل جيني تفسره بعض النظريات الطبية أنه خلل يحدث في نظام الدورة الدموية في الجسم داخل الجنين في فترة مبكرة، والذي يتسبب في انصهار -التحام- الساقين والقدمين. وأكثر الأمهات عرضة لهذه الاضطرابات هن اللواتي يعانين من مرض السكري.
المعالم المميزة التي تصاحب هذه الاضطرابات:
بخلاف شكل القدم والسيقان المتلاحمة، يُصاحب الأطفال الرضّع المصابين بهذه الاضطرابات اختلافات في ملامح الوجه؛ مثل عيون شبيهة بعيون البرمائيات وأذن مرنة. بالإضافة لذلك، يعاني المواليد من أمراض كثيرة مثل أمراض الجهاز الهضمي، والجهاز البولي المتمثلة في عدم تخلّق الكلى بشكلٍ كامل ونقص في مجرى البول والمثانة، أيضًا هناك أمراض في الجهاز التناسلي بشكلٍ سيئ ومنظم، بجانب انسداد الشرج.
نتيجة لجميع تلك الأعراض والتشوهات يعيش المواليد حياة قصيرة للغاية، إذ يتوفى الطفل بعد الولادة بمدة زمنية لا تدوم لأكثر من 24 ساعة.
التصقلب أو التحام العينين
أو ما يُعرف بـ «Synophthalmia أو Cyclopia» وهي حالة طبية نادرة تحدث في الأطفال الرضّع أثناء التخليق في الرحم، تُظهر تشوهًا كبيرًا في ملامح الوجه، مُتمثلة في انعدام العينين، ووجود عين واحدة فقط للرضيع تقع في منتصف جبهته عند جذر أو بداية الأنف.
أما الأنف في هذه الحالة إما أن يُفقد تمامًا، أو يظهر في شكل طرف أنبوبي صغير أو خرطومي بطول الإصبع للشخص البالغ يقع فوق العين مباشرة. تأتي التسمية من الأساطير الإغريقية نسبة لـسايكلوب وهم كائنات جبارة عملاقة أحادية العين.
سبب حدوث تلك التشوهات:
يحدث هذا التشوه نتيجة عيب خلقي مُتمثّل في اندماج مُقدم الدماغ، وفشل الدماغ الأمامي الجنيني في تقسيم المحجرين في الدماغ إلى تجويفين.
انعدام الدماغ
Anencephaly أو مايعرف بـ «انعدام الدماغ»، وهو اضطراب وعيب خُلقي خطير يحدث في الجهاز العصبي المركزي في الدماغ حيث يتلف الجزء العلوي من الدماغ وفروة الرأس ويتقلص جزئا المخ والمخيخ أو ينعدمان تمامًا، أما الجزء الخلفي للدماغ المعروف باسم «Hindbrain» فيظل موجودًا.
سبب حدوث تلك التشوهات:
سببه حدوثه هو فشل الأنبوب العصبي (NTD) في الانغلاق في الأسبوع الثالث أو الرابع من حمل الأم؛ مما يؤدي إلى فقدان الجنين، أو ولادة جنين ميت، أو وفاة الأطفال حديثي الولادة بعد الولادة.
بعض الحالات قد يكون سبب اضطراب انعدام الدماغ ناتجًا عن شذوذ في الكروموسومات، أو أنها قد تكون جزءًا من عملية أكثر تعقيدًا تتعلق بخلل في جين معين، أو اضطراب في «الكيس الأمينوسي – amniotic membrane» الذي يحيط بالجنين. أيضًا من ضمن مسببات هذه التشوهات هي عوامل بيئية تؤثر على عمل الجينات في الأجنة، متمثلة في وجود موانع أو مضادات لحمض الفوليك «antimetabolites Folate» أو فيتامين B.
أيضًا ضمن المسببات لهذا التشوه؛ هو إصابة الأم بمرض السكري، أو البدانة، والسموم الفطرية في وجبة الذرة الملوثة، والزرنيخ، وارتفاع درجة الحرارة والضغط أثناء تخليق الجنين.
السماك الصفاحي
أو ما يسمى بـ Lamellar Ichthyosis، وهو اضطراب وتشوه كبير يؤثر بصورة رئيسية في الجلد في الأجنة أثناء التخليق في الرحم.
سبب حدوث تلك التشوهات:
يوجد في الخلية جينٌ يسمى «TGM1» يعمل على تكون إنزيم الـ «1transglutaminase» في البشرة، والذي يساهم في تشكيل غلاف الخلية المتقرنة؛ وهي عبارة عن هيكل يحيط خلايا الجلد، ويساعد على تشكيل حاجز وقائي بين الجسم وبيئته.
هذا الجين -TGM1- يتعرض للعديد من الطفرات تؤدي إلى انخفاض حاد في انتاج الإنزيم أو عدم إنتاجه كليًا، والذي يحول دون تشكيل غلاف الخلية المقترن، والتي بدورها تعمل على تدمير خلايا الطبقة الخارجية للجلد (البشرة).
تعتبر هذه الطفرات في الجين -TGM1- مسؤولة عن ما يقرب من 90% من حالات المرض.
المعالم المميزة التي تصاحب هذه الاضطرابات:
الأطفال الذين يعانون من هذه الحالة عادة ما يولدون بغشاء مشدود يغطي بشرتهم بالكامل يسمى «غشاء الكولوديون – collodion membrane». هذا الغشاء عادة ما يجف ويتساقط أو يُقشّر خلال الأسابيع القليلة الأولى من الولادة، ويصبح لدى الأطفال ما يشبه قشورًا جلدية. أما الجفون والشفاه فتنقلب للخارج، وتظهر القشور على جسد الطفل وتغطيه بالكامل بما يشبه قشور السمك.
يعاني الأطفال المصابون بهذا التشوه من العديد من الأعراض المرضية الأخرى؛ مثل خسائر كبيرة في سوائل الجلد الذي يتسبب لهم بالجفاف، ومشاكل في الجهاز التنفسي. كما يعانون أيضًا من أعراض تظهر عليهم بوضوح مثل؛ تساقط الشعر بغزارة أو الصلع، نمو الأظافر بشكلٍ غير طبيعي أو ضمورها في الجلد، انخفاض القدرة على التعرق حيث لا يوجد مسام، زيادة الحساسية للحرارة، سماكة الجلد على راحتي اليدين وأخمص القدمين «تقرن الجلد»، احمرار الجلد، وتشوهات أخرى مثل التقلصات.
يموت الأطفال الرضّع الذين يولدون بتلك التشوهات في فترة ما بين 10 – 14 أسبوعًا بعد الولادة.
الوليد المهرج
أو Harlequin، وهو اضطراب وراثي شديد يحدث في جين البروتين في الجلد، ويؤثر بصورة مباشرة على جلد الرضيع، إذ يتسبب في ظهور طبقة كرياتين سميكة تغطي معظم جسده. هذا الاضطراب مشابه للحالة السابقة Lamellar Ichthyosis حيث يستهدف طبقة الجلد للطفل.
سبب حدوث تلك التشوهات:
يوجد في الخلية جين يدعى «ABCA12» مسؤول عن تخليق بروتين ABCA12، والذي يعمل على التطور الطبيعي لخلايا الجلد، ويلعب دورًا رئيسيًا في نقل الدهون في الطبقة الخارجية من الجلد (البشرة). تحدث بعض الطفرات في الجين ABCA12 والتي تمنع الخلية من تكوين البروتين ABCA12.
هناك طفرات أخرى تؤدي إلى إنتاج كميات صغيرة جدًا وغير طبيعية من البروتين، والذي لا يمكنه نقل الدهون بشكلٍ صحيح. يعمل فقدان البروتين ABCA12 على الإخلال بوظيفته حيث يعطل التطور الطبيعي للبشرة، مؤديًا في نهاية المر إلى تصلّب الجلد وسماكته.
المعالم المميزة التي تصاحب هذه الاضطرابات:
يمتلك الرضيع جلدًا سميكًا مصحوبًا بتشققات عميقة. هذه التشققات تفصل الجلد إلى قطع متعددة تتخذ أشكالاً مربعة أو مثلثة، وتؤثر بقسوة على شكل العيون والأنف والفم والأذنين، والحد من حركة الذراعين والساقين، وتقييد حركة الصدر الذي يمكن أن يؤدي إلى صعوبات في التنفس، وفشل نهائي في الجهاز التنفسي.
الشيخوخة المبكرة
الشيخوخة المبكرة، في الأعلى خلية سليمة، وفي الأسفل خلية مشوهة
Progeria or Hutchinson-Gilford Progeria هي حالة وراثية نادرة لكنها معروفة، ويُطلق عليها اسم «الشيخوخة المبكرة»؛ حيث تحدث في الأطفال، ويظهر على الطفل ملامح الشيخوخة السريعة في مرحلة طفولته.
يبدو الأطفال المصابون بهذه الحالة في حالة طبيعية عند الولادة وفي مرحلة الطفولة المبكرة؛ لكن بعد ذلك يبدأ نموهم بشكلٍ أبطأ بكثير من الأطفال الآخرين، ولا يحدث تغير في معدل زيادة الوزن مع النمو ويعرف ذلك بـ «فشل النمو».
سبب حدوث تلك التشوهات:
يوجد في الخلية جين يُدعى «LMNA» مسؤول عن إنتاج بروتين lamin A الذي يلعب دورًا هامًا في تحديد شكل النواة داخل الخلايا، وداعم مُكوّن للتراكيب الأساسية للغلاف النووي في الخلية، وهو الغشاء الذي يحيط بالنواة. تتسبب الطفرات التي تحدث في الجين LMNA في إنتاج نسخة غير طبيعية للبروتين lamin A، والذي يعمل على إحداث تغيرات وأضرار غير مستقرة في الغلاف النووي، وتدريجيًا تحدث هذه الأضرار تدريجيًا في النواة. يؤدي ذلك إلى تعريض الخلايا للوفاة قبل أوانها.
المعالم المميزة التي تصاحب هذه الاضطرابات:
أبرز المعالم تظهر في ملامح الوجه المتمثلة في العيون البارزة، وأنف صغير يتخذ شكل منقار، شفاه رقيقة، ذقن صغيرة، وآذان كبيرة بارزة. يتسبب هذا الاضطراب أيضًا في فقدان الشعر (الصلع)، البشرة المتجعدة، تشوهات وفقدان الدهون تحت الجلد.
ما يجعل هذا الاضطراب هينًّا نوعًا ما هو أنه لا يؤثر على النمو العقلي أو تطوير المهارات الحركية للطفل؛ مثل الجلوس والوقوف، والمشي.
انعدام/انقسام الأصابع
Ectrodactyly or Split hand/Split foot أو ما يُعرف بـ «انعدام/ انقسام الأصابع»: هي حالة طبية نادرة وعيب خلقي في الأجنة يتسبب في ولادة أطفال مصابين بتشوهات في أصابع القدمين واليدين.
سبب حدوث تلك التشوهات:
يمكن أن يتسبب عدد كبير من الطفرات الجينية في انعدام الأصابع؛ مثل طفرات في الكروموسوم 7، وتلك الطفرات تؤدي إلى متلازمة تعرف باسم «الجينات المتجاورة» التي تضم عددًا من الأعراض مثل ضعف النمو، صغر الرأس، والمظهر القحفي، الفتق، فقدان السمع، والتخلف العقلي.
المعالم المميزة التي تصاحب هذه الاضطرابات:
يتميز المصابون بهذه الحالة بأعراض تشوه واضحة في أصابع القدمين واليدين؛ حيث يُفقد الإصبع الوسطى، وتلتحم الأصابع البقية حيث يكون كل إصبعين معًا، بينهما مسافة واضحة. ومن غير المحتمل أن يؤثر هذا التشوه على الصحة العامة للطفل؛ لكنه يبقى عيبًا وتشوهًا خلقيًا أحدثته الطفرات الجينية.
استسقاء الدماغ
Hydrocephalus أو ما يعرف بـ «استسقاء الدماغ»؛ وهو حالة مرضية تحدث عندما يتراكم السائل في الجمجمة، ويتسبب في انتفاخ الدماغ.
يمكن أن يتسبب هذا الاستسقاء بتلف في الدماغ نتيجة لتراكم السوائل فيه؛ بالتالي يؤدي إلى ضعف النمو والإدراك المادي والفكري، لذا يتطلب علاجًا وتدخلاً سريعًا لمنع حدوث مضاعفات خطيرة. يحدث الاستسقاء بشكلٍ رئيسي في الأطفال، والبالغين أيضًا ممن تزيد أعمارهم عن 60 عامًا، ويُقدر المعهد الوطني للاضطرابات العصبية والسكتة الدماغية (NINDS) أن 1-2 من كل 1000 طفل يولدون مع استسقاء الدماغ.
سبب حدوث تلك التشوهات:
يتدفق السائل النخاعي (CSF) عبر الدماغ والحبل الشوكي في الظروف العادية. وفي ظروف معينة تزيد كمية السائل النخاعي في الدماغ مُسببة انتفاخ الرأس. هذه الظروف التي تتسبب في زيادة كمية السائل الدماغي كالآتي:
- انسداد يعمل على منع السائل النخاعي من التدفق بشكل طبيعي.
- انخفاض في قدرة الأوعية الدموية على استيعاب تلك الكمية.
- إنتاج الدماغ لكميات كبيرة من السائل.
تعمل كمية السائل الكبيرة على وضع الدماغ تحت الكثير من الضغط الذي يتسبب في تورمه؛ مؤدية في نهاية الأمر إلى إتلاف نسيج الدماغ. في بعض الأحيان يولد الأطفال مصابين باستسقاء الدماغ؛ نتيجة للأسباب التالية:
- عيب خلقي في العمود الفقري.
- طفرات وراثية.
- بعض الإصابات التي تحدث أثناء حمل الأم؛ مثل الحصبة الألمانية.
يمكن أيضًا أن تحدث هذه الحالة في الأطفال الرضع، أو الأطفال الصغار والأطفال الأكبر سنًا نتيجة للأسباب التالية:
- التهابات الجهاز العصبي المركزي؛ مثل التهاب السحايا، وخاصة في الأطفال الصغار.
- نزيف في الدماغ أثناء أو بعد فترة قصيرة من الولادة؛ خاصة في الأطفال الذين يولدون قبل أوانهم.
- الإصابات التي تحدث قبل، أو أثناء، أو بعد الولادة.
- صدمات الرأس العنيفة.
- أورام الجهاز العصبي المركزي.
أخيرًا، هناك الكثير من الحالات الطبية النادرة الأخرى التي تتسبب بها الطفرات الجينية نتيجة لعوامل مختلفة بيئية أو وراثية، والتي تُظهر لنا مدى دقة وصعوبة عمل الوظائف في الجسد، إذ لا مجال لخطأ واحد في أيّ من عناصره.