بين الصخور: الهوية الكيميائية للأحجار الكريمة

للجمال قدرة على الذهاب بالروح في رحلة استشفائية يتوقف فيها الزمن، تاركًا المجال لجلال المشهد بغمر النفوس المرهقة وبعث الحياة فيها. تمكنت الطبيعة باستمرار من صنع العديد من اللوحات التي ما إن يشهدها الإنسان حتى تأسره في ثنايا جمالها، سواحل تطل على مياه متدرجة الألوان، صحاري وجبال ووديان وسهول منبسطة. مع هذا، يبقى الحجر الكريم هو المثال الأعظم على رصانة الصنعة ومدى إغراء الألوان. يقول بلينيوس الأكبر إن النظر للزمرد الأخضر يعيد النشاط لحاسة البصر التي أرهقها طول الاستخدام في حياة المرء، ذاك الاعتقاد الذي كان شائعًا لدى الرومان وحذي بإمبراطورهم الشهير نيرون لارتداء نظارة من الزمرد أثناء مشاهدته لمباريات المصارعة التي كانت تجرى دوريًا في روما.

الهوية والأصل

http://gty.im/495582954

يعود إطلاق لقب «كريم» على حجر ما إلى ثلاث خصائص أساسية تتمثل في الجمال، المتانة ومقاومة التلف والكسر، وأخيرًا الندرة. يتبدى من ذلك أن كون الحجر كريمًا من عدمه هي مسألة نسبية، فالجمال أمر قد يختلف عليه كثيرون بين محب للألوان المتعددة المتداخلة في التورمالين أو الأوبال، وبين محب للصفاء والنقاء المميز للياقوت الأحمر والأزرق. كذلك فإن الندرة لا يمكن التعامل معها بشكل مطلق أو حتمي. يصدق القول بإن الألماس نادر بالنسبة للكوارتز لكنه ليس كذلك بالنسبة للياقوت أو الزبرجد.

ولأن الأحجار الطبيعية تتفاوت عند مقارنتها ببعضها من حيث الخصائص الآنف ذكرها، فقد ولدت تصنيفات عامة للأحجار بين كريم ونصف كريم وغير كريم رغم احتمال أن يعود أصلها إلى نفس المادة ونفس الأصل الكيميائي. فإذا ألقينا نظرة على الكوارتز مثلا فإنه لا يعتبر حجرًا كريمًا لشيوعه الشديد في حين أن السترين والجمشت amethyst –وهما أنواع من الكوارتز – يعتبران أحجارًا نصف كريمة. زد على ذلك أن الأوبال يصنف كحجر كريم. كل هذه الأحجار هي في الأصل أكسيد سيليكون SiO2. بما يتميز أحدها عن الآخر إذن؟.

يتأتى اختلاف قيمة الأحجار وشكلها ولونها من التضمين inclusions؛ أي اختلاف الشوائب التي تتضمنها بلورات كل حجر. قد تكون هذه الشوائب قد تكونت بالفعل قبل أن يتم امتصاصها في بلورة أخرى ما زالت تنمو وهنا يطلق عليها Protogenetic، وقد تكون سوائل تم حبسها في البلورة النامية فبقيت سوائل أو تحولت لفقاعات غاز محبوسة وهنا تسمى Syngentic، وأخيرًا فقد تكون شوائب مكونة بعد نمو البلورة أو ناتجة عن حادثة ما أدت لتغيير في قلب البلورة كالانحلال الإشعاعي لأحد عناصر البلورة وتعرف هذه المتضمنات باسم Epigenetic.

ترتبط نوعية التضمين بنوعية الصخرة التي نما فيها البلور؛ نارية، متحولة أم رسوبية. يحد كذلك مكان نمو البلورة من احتمالات وجود الشوائب بها، فالألماس لا يمكن أن يحتوي على شوائب سائلة لأن تكوينه يتطلب ضغطًا وحرارة شديدين لا يمكن أن تتواجد المياه فيهما أثناء تبلر الكربون. أيضًا قد تحتوي بلورة ما على شائبة من نفس نوعية البلورة –من أكثر أنواع الشوائب شيوعًا في الألماس هو الألماس– تختلف معها في طور وسرعة النمو ثم يتداخلان فيظهر الشكل المميز للحجر الكريم.

ملونة، لماذا؟

http://gty.im/543872158

يمكننا تصنيف الأحجار الطبيعية إلى صنفين عامين هما الأحجار التي لم يسبق لها أن كانت حية، والأحجار ذات الأصل الحي. أما الأحجار التي لم تحيَ يومًا فهي تلك الأحجار «غير العضوية»؛ أي التي لم تنبثق عن أصل نباتي أو حيواني. من بينها يذيع صيت عائلتان خاصتان هما عائلة البيريل التي تضم الزمرد الأخضر والأكوامارين الأخضر المزرق، وعائلة الكورندم التي تضم الياقوت الأحمر ruby والأزرق sapphire. عادة ما تكون الأحجار غير العضوية عبارة عن سيليكات؛ أي مجموعات من أكسيد السيليكون مرتبطة معًا بطرق مختلفة تعطيها درجات مختلفة من الصلابة. توجد أيضًا –على قلتها- بعض الأحجار التي تتكون من أكاسيد وكربونات.

تصدر ألوان مجموعة البيريل من وجود ذرات الكروم والمنجنيز والحديد والفناديوم كشوائب في البلورة الأم المكونة من بيريليوم وألمونيوم ومجموعات السيليكا على الصيغة Be₃Al₂Si₆O₁₈. في حالة الزمرد نجد أن اللون الأخضر ينتج خصيصًا عن شوائب من الكروم والفناديوم حلت محل الألمونيوم، بينما يرتبط الأخضر في الأكوامارين- الذي يتحول إلى الأزرق بالتسخين– بوجود أيونات الحديد الثنائي، وقد يتحول للأصفر إذا صادف تواجد أيون الحديد الثلاثي أيضًا. لعنصر انتقالي آخر وهو المنجنيز القدرة على إضفاء لون وردي على بعض خامات البيريل مثل المورجانايت Morganite.

يختلف التضمين في الزمرد حسب اختلاف مصدر الخام المحتوي للبلورة. يحتوي زمرد كولومبيا –الأفضل عالميًا والأكثر جمالًا- على متضمنات سائلة وشوائب من البيريت والألبيت والهاليت تعطيه شكله المميز، بينما يحتوي الزمرد الآتي من جبال اليورال على شوائب أكثريتها من الكوارتز والأكتينوليت والتورمالين. يتشابه الزمرد المصري المستخرج من جبل سكيت/سقاية في البحر الأحمر منذ عهد الرومان والبيزنطيين مع هذا الأخير.

على صعيد آخر نجد عائلة الكورندم، مجموعة من الأحجار التي تتكون في الأساس من أكسيد الألمونيوم وتدين بألوانها لشوائب من الكروم والتيتانيوم والحديد. يتواجد الكورندم بشكل أساسي في الصخور المتحولة – الحجر الجيري والدولومايت –والنارية ذات المحتوى المنخفض من السيليكا.

تتميز أحجار الياقوت – التي تنتمي لهذه العائلة – بقوة ظاهرة التلونية Pleochorism فيها، يعني هذا ظهور حجر ما بلون مختلف عن لونه عند النظر إليه من زاوية مختلفة. فالياقوت الأحمر يظهر باللون البنفسجي المحمر والأحمر البرتقالي حسب الزاوية التي ينظر إليه منها، كذا يظهر الياقوت الأزرق بالأزرق البنفسجي والأزرق المخضر، ويتجه الياقوت البرتقالي نحو اللون الأصفر المائل للبني والبرتقالي المائل للشفافية.أما من حيث الإنتاج، فتستقر بورما وتايلاند وسريلانكا على عرش إنتاج الياقوت الأفضل في العالم.

http://gty.im/53234787

أحيانًا ما تكون ألوان الحجر الكريم معرضة للزوال، ويأتي الأوبال على رأس الأحجار التي يعد فقدانها لألوانها مأساة جمالية بكل المقاييس. يتكون الأوبال في الأصل من السيليكا كما الكوارتز، إلا أن الأوبال يحتوي في بلورته على جزيئات من الماء تؤدي لوجود فراغات منتظمة بين كل بلورة وجارتها مما ينتج عنه انكسارات متعددة متتالية للضوء ينشأ عنها مظهر الألوان المتشابكة المميزة للأوبال. يعني هذا أن تسخين الأوبال يفقده لونه المميز ويجعله حجرًا أبيض أو أسود –على حسب نوعه – مصمت. يحدث الأمر ذاته في بلورات العقيق وتسمى الظاهرة Play of color. على هذا فإن الاحتياط والحرص الشديدين لازمان للحفاظ على مثل هذه العروض اللونية المثيرة.

للزبرجد Peridot لون أخضر فاتح يكفي النظر إليه للشعور بموجة من الانتعاش العميق يرجع إلى احتوائه على الحديد بنسبة 12-15%. تتكون البلورة الأصلية للزبرجد من الأوليفين وهو محلول متصلب من سيليكات الماغنيسيوم وسيليكات الحديد، أما إذا احتوى الزبرجد على شوائب من بلورات الإسبينيل spinel والكروميت فإنه يسمى حينئذ «ورقة اللوتس».

العائلة الأخيرة من السيليكات هي عائلة الكوارتز التي تتضمن أحجارًا من كل الألوان تقريبًا تتدرج بين الجمشت ذي اللون البنفسجي المشتق من أيون الحديد الثلاثي إلى السترين المصبوع بلون هيدروكسيد الحديد الثلاثي الأصفر. تضم عائلة الكوارتز أيضًا أحجارًا زرقاء تعود لشوائب من الروتيل وأحجارًا وردية بسبب شوائب أكسيد التيتانيوم. أخيرًا نجد الكوارتز ذا اللون الدخاني والناتج عن استبدال الألومنيوم لذرات السيليكون في بلورة الكوارتز.

http://gty.im/524986356

من الأحجار ما كان في الأصل جزءًا من كائن يعيش ويتنفس ويحيا مثلك أنت، أشهرها الكهرمان وهو مادة صمغية أنتجتها أشجار صنوبرية منقرضة تعود إلى العصر الأوليجوسيني. ولأنه مادة عضوية أتت من الأشجار فإن التضمين هنا يختلف جذريًا عن الأنواع السابق ذكرها. يحتوي الكهرمان على متضمنات من الخنافس والنمل والحشرات المختلفة تم حفظها بعد حبسها في بلورة الكهرمان، إلا أن المتضمنات في هذه الحالة ليست شائعة في كل الأحجار كما في الياقوت. إذا أردت شراء قطعة كهرمان خالية من الحشرات فإن بوسعك فعل هذا رغم كون الكهرمان المحتوي على جثة حشرة محنطة منذ ما يقرب من 30 مليون سنة أكثر إثارة.

يضاف للكهرمان في هذه الفئة حجر كربوناتي مثل اللؤلؤ والكائنات اللافقارية مثل كوارليوم نوبيل وكوراليوم روبروم، تلك التي تقوم ببناء الشعاب المرجانية الرائعة بإفرازاتها من كربونات الكالسيوم وتهبنا الأحجار الحمراء المميزة للمرجان.

كانت تلك -بالإضافة للتوباز والفيروز/ التركواز وهو حجر هيدروكسيدي يتكون من بلورات تناسقية مرتبطة معًا على الصيغة CuAl₆(PO₄)₄(OH)₈ – هي الأحجار الطبيعية الأشهر والأغلى قيمة والتي كانت من أوائل الأحجار التي شاغل جمالها الإنسان وحاول فهم كيفية ظهورها طبيعيًا ليتمكن من صنع أحجار مستنسخة مقابلة لها تغص بها الأسواق حاليًا.