نساء غزة: اقتحام غير مسبوق لمهن الرجال
في مشهدٍ لا يبدو مألوفًا في المجتمع الغزي، تمكنت بعض النسوة من تحقيق اختراقات ناجحة في ممارسة مهن الرجال، إحداهن تقف خلف طاولة قص الخشب تُشكل بعضا من قطع الأثاث والتحف الفنية، وأخرى تجدها تُثبت قدميها على مركبٍ صغير وتُعاند بمجدافيها موج البحر لتُخرج منه رزق أسرتها، وثالثة وجدت في السياقة سبيلًا للخروج من أزمة النفقات لمشروعها الصغير، ورابعة تطرق بعنفوان على الحديد الساخن فتساعد زوجها في تشكيل بعض الأدوات الحادة كالسكاكين والسواطير والفئوس.
ترى تلك النسوة أن ما امتهنه من حرف مجرد فرص عمل أُجبرن على خوضها رغم قسوتها لتأمين لقمة العيش لأسرهن في ظل وضع اقتصادي مُزرٍ وارتفاع ملحوظ لمعدلات الفقر والبطالة في قطاع غزة بسبب الحصار والانقسام الممتدين منذ أحد عشر عامًا سابقين.
«آمال أبو رقيق» النجارة الأولى في قطاع غزة
في ورشةٍ صغيرةٍ بمدينة النصيرات وسط قطاع غزة، وبعد تدريبٍ مكثف نفذه مركز تمكين المرأة والمجتمع التابع لوزارة العمل، ذاع سيط «آمال أبو رقيق»، كان ذلك في أوائل الألفية الثالثة حين أصرت على العمل بمجال النجارة وإنتاج قطع الأثاث والديكور، فقط من أجل إعالة نفسها وتأمين احتياجات ابنتها “هديل” التي تُعاني من إعاقة دائمة.
واستطاعت «أبو رقيق» وحدها من بين 20 سيدة أن تُكمل مراحل التدريب على مدى 3 أشهر، وأن تستمر في صقل هوايتها حتى حولتها إلى حرفة تكسب منها رزقها بكد يمينها، ومن ثمَّ بات يُشار لها بالبنان باعتبارها السيدة الأولى في قطاع غزة التي نزعت ثوب الاحتكار التقليدي لمهنة النجارة من قبل الرجال وعملت بها منذ مطلع الألفية الثالثة.
قالت: «إن خوضها رحلة تعليم النجارة كانت تعويضًا عمليًا لحلمها الكبير ورغبتها الجامحة في دراسة الفنون الجميلة»، إذ حُرمت من ارتياد الجامعة بفعل الظروف الاقتصادية الصعبة، فيما شكل نجاحها وتميزها رافدًا لها للاستمرار بإبداع كبير، إضافة إلى رغبتها في الاعتماد على نفسها لتأمين متطلبات ابنتها هديل من الرعاية الصحية والاجتماعية خاصة بعد انفصالها عن زوجها.
ومنذ العام 2000 جاءت «أبو رقيق» من مدينة الرملة بالأراضي المحتلة في زيارة إلى أهلها في قطاع غزة، لكنها لم تستطع العودة نظرًا لعدم حصولها على تصريح أو معاملة لم شمل، ما اضطرها إلى الطلاق، ومن ثمَّ في عام 2003 بدأت خوض غمار تجربة النجارة لتكون عملًا تجني منه رزقًا يُعيلها ويُعيل ابنتها.
وعلى مر السنوات الـ14 الماضية اجتهدت «أبو رقيق» في تطوير مهاراتها في إنتاج قطع الأثاث أو التحف الفنية، ما أهلها لعرض منتجاتها في المعارض المحلية، تقول: «إن المعارض فرصة ذهبية لتسويق الإنتاج في ظل حالة الركود التي يُعاني منها القطاع بسبب الحصار والإغلاق»، وتُضيف أنها بدأت تنفيذ بعض الديكورات الخشبية الممزوجة بالمطرزات التراثية الفلسطينية في إنتاجها، أملًا في جذب الزبائن وتحسين دخلها، كما دأبت على تدريب ذوي الاحتياجات الخاصة على المهنة في إطار التمكين والدمج في المجتمع.
لا ترى «أبو رقيق» أن مهنة النجارة «مُهدرة» لأنوثتها أو «منتقصة» لدورها الاجتماعي، فهي تؤكد أن المرأة بإمكانها أن تؤدي أي مهمة ما دمت تتحلى بالثقة والإرادة والقدرة على التحمل وشددت على أنها استطاعت بمهنتها أن تُؤسس لحياتها بعيدًا عن ذل الحاجة والسؤال، غير أن المجتمع الغزي والمجتمعات العربية عمومًا مازالوا يرون أنه «اقتحام غير محمود» لمهن الرجال.
«سلوى سرور» سائقة باص رياض أطفال
في تحدٍ واضح لثقافة المجتمع وعاداته وتقاليده اخترقت «سلوى سرور» (42 عامًا) مجال العمل الذكوري في مهنة قيادة المركبات، ليس ابتداعًا أو طلبًا للاختلاف، بل حُبًا بها وبغية توفير بعض المصاريف الخاصة بمشروع رياض الأطفال الذي افتتحته وشقيقتها ليكون سندًا لهما في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة في القطاع.
تؤكد «سرور» أن الوضع الاقتصادي الصعب بالإضافة إلى عدم تحلي بعض السائقين بالمسئولية تجاه مهنتهم دفعها لأن تخوض التجربة بكثير من الرغبة، وبحسب المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان فإن نسبة البطالة في قطاع غزة فاقت الـ65% في وقتٍ تجاوزت فيه نسب الفقر 80%.
وجدت «سرور» في سياقتها لحافلة أطفال الروضة سبيلًا عمليًا للتخلص من المشكلات مع سائقين سابقين كالإهمال أو التأخير عن المواعيد، سواء في فترة الذهاب أو العودة، لكنها أبدًا لم تسلم من نظرة المجتمع الذي أنكر عليها المهنة الجديدة وانهال عليها بالانتقادات والتعليقات الساخرة، تقول: «تحمّلت الكثير وكنت أرفض أن تُعجزني تلك النظرات المثبطة عن هدفي، آمنت بنفسي وبعملي كثيرًا».
ومع مرور الوقت نجحت «سرور» في أن تُغير نظرة محيطها الاجتماعي بمهنتها الجديدة كـ «سائقة حافلة رياض أطفال»، فهي لم تترك سبيلًا للنقاش مع منتقديها إلا وخاضته لتُثبت صحة عملها وعدم تعارضه مع قيم المجتمع الإنسانية والأخلاقية، الآن تمتلك «سرور» قائمة طويلة من الأصدقاء الذكور في ذات مهنتها يحفزونها على الاستمرار ويُقدمون لها المساعدة سواء في الطرقات أو محطات الوقود بمنحها الأولوية.
أهالي الأطفال الذين تُقلهم «سرور» في حافلتها صبح مساء بدوا أكثر ارتياحًا لوجودها مع أبنائهم، فهم يعتبرونها أكثر حرصًا على سلامة أطفالهم وقيادتها للحافلة تتسم بالهدوء والاتزان من حيث السرعة، ولم يحدث أن عرضت أطفالهم لأذى الطرقات، ما تقول.
ولعل المُلاحظ لحال الطرقات في قطاع غزة يجد أن المرأة حاضرة في مجال السياقة وقيادة المركبات، وتُقدر نسب النساء الحاصلات على رُخص قيادة بـ 18% وتتزايد أعدادهن في كل عام، لكن عددا ضئيلا جدًا لا يُجاوز أصابع اليد الواحدة منهن يُمارسن القيادة كمهنة، وذلك بسبب الرفض الاجتماعي والمشاكل التي يضج بها المجتمع الغزي كانعدام الأمن ما يجعل انتشار المهنة غير مألوف.
«عائشة حسين» في مواجهة الحديد والنار
هناك في ورشة تتكون أرضيتها من الرمل فيما جدرانها وسقفها من قطع القماش البالية، كانت الأربعينية «عائشة حسين» تطرق بكل طاقتها على سطحٍ معدني لتوه خرج من لهيب النار، وما إن تجعله مستويًا تُحيله إلى زوجها إبراهيم ليُشكله آلات حادة كالسكاكين والسواطير.
حين تسألها عن التحاقها بالمهنة، لا تترد في إلقاء الإجابة، فقد جاءت من مصر مع زوجها الفلسطيني إلى قطاع غزة، لكن ضيق العيش حرمها وأسرتها من الحياة الهانئة، وكان عليها أن تتحمل المسئولية مع زوجها لتتمكن من توفير احتياجات أبنائها الثمانية، تقول: «زوجي ورث المهنة عن أبيه وجده ولا يعرف سبيلًا للعمل إلا بصنع الآلات الحادة التقليدية كالسكاكين والسواطير وغيرها».
ومنذ الشهور الأولى لزواجهما لم تجد «حسين» حرجًا في مساندة زوجها، وبدأت تتعلم منه المهنة شيئًا فشيئًا حتى باتت تُتقنها مثله، ما جعل إنتاجهما يزيد وكذلك أرباحهما، تجدها تُصر على العمل بجد برفقة زوجها طيلة أيام الأسبوع، وتصنع أنواعًا مختلفة من الآلات الحادة التقليدية والتي يطلبها الزبائن، وما إن يُشرق صباح الجمعة حتى يذهبا بإنتاجهما إلى سوق اليرموك وسط مدينة غزة، ولا يعودان إلا وقد نفدت.
تؤمن «حسين» أن مهنة الحدادة لم تعد تقتصر على الرجال فقط؛ بل بإمكان المرأة أن تؤديها على أكمل وجه، وتقول: «إن المرأة إذا امتلكت الإرادة والتصميم تتمكن من تحقيق النجاح بجدارة»، لكن في المُقابل يُبدي الكثير من الزبائن استغرابهم حين يرونها تعمل يدًا بيد مع زوجها في تصنيع الآلات الحادة ومواجهة لهيب النار وقسوة الحديد.
«مادلين كلاب» ابنة البحر
منذ نعومة أظافرها ارتبطت بالبحر، وفطنت إلى حركة أمواجه وتعبيراتها، علّمها ذلك والدها الذي امتهن الصيد أبًا عن جد، لكنها في عمر الـ 13 وجدت نفسها مُجبرة على معاندة أمواجه لتكسب قوت اليوم الذي عجز والدها عن الإتيان به بعد أن أعياه المرض، هي «مادلين كلاب»، ابنة أبيها الفتاة الفلسطينية الأولى التي امتهنت الصيد.
رغم صغر سنها فإنها لم تعبأ بالعادات والتقاليد الاجتماعية التي تحظر عليها ركوب البحر، وبدأت اختراق المهنة بنجاح، ساعدها على ذلك والدها الذي منحها خبرته وكذلك وجودها في البحر منذ كانت طفلة لم تتجاوز ربيع عمرها السادس، تقول: «كان الصيد بالنسبة لي هواية أشغف بممارستها لكنه مع الوقت أضحى مهنة».
وتُعاني «مادلين» وآلاف الصيادين في قطاع غزة من ممارسات الاحتلال وحصاره البحري، إذ يمنع منذ العام 2006 الصيادين من الوصول لمسافة تزيد عن ستة أميال وأحيانًا 9 أميال وفقًا للحالة السياسة واتفاقات الهدنة، لكنها سرعان ما تتراجع وتمارس غضبها في عرض البحر تارة بالمطاردة والاعتقال، وتارة أُخرى بإلحاق الأذى بمراكب الصيد والشباك والمُعدات، تؤكد الفتاة أن تلك الممارسات تدفع غالبية الصيادين إلى العزوف عن ركوب البحر وممارسة مهنة الصيد.
مؤخرًا وبعد افتتاح ميناء غزة كمتنزه سياحي، عمدت «مادلين» إلى شراء مركب آخر ليس للصيد، وإنما للسياحة في عرض البحر مقابل بعض المال، تؤكد أنها بهذه الحيلة تتجاوز مأساة ضياع موسم الصيد بسبب إجراءات الاحتلال الذي لا يسمح لهم بالدخول إلى أكثر من 6 أميال وكثير من الأحيان يبدأ مطاردتهم في مياه الـ 3 أميال، تقول: «نحاول تعويض الخسائر التي يُلحقها بنا الاحتلال».
تفتخر «مادلين» بأنها الفتاة الأولى التي اخترقت مهنة الصيد الذكورية، وتأمل أن تكون مثالًا لكل فتاة لأن تُحارب الظروف الصعبة وتُفتش عن مكنونات الطاقة لديها لتكون فردًا فاعلًا ومؤثرًا ليس على المستوى الأسري الضيق وإنما على المستوى الاجتماعي العام.