أنفاق غزة: الوجه الآخر للمدينة
ما أن يتفجر الصراع بين فصائل المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، لا يكف الحديث إلا عن أمرين؛ الصواريخ العابرة لحدود القطاع وقُدرتها على بلوغ المدن الإسرائيلية، والأنفاق التي تعتبرها حماس سلاحها الاستراتيجي الذي يعطيها أملاً في التفوق على اليهود.
الحديث عن خطر الأنفاق الفلسطينية متكرر ويكاد لا ينتهي، أُفردت له عشرات الدراسات والأبحاث، التي لا تتمكن بالطبع من بلوغ الصورة كاملة لاعتبارات أمنية بديهية، لكنها على الأقل تكشف حجم تعقد هذا السلاح الاستراتيجي النوعي الكائن تحت أرض غزة، والذي بلغ ذروته في الإعلان الإسرائيلي منذ أيام عن تدمير أجزاء سلسلة أنفاق حمساوية، من فرط تعقيدها واتصالها ببعضها وصفها الجيش الإسرائيلي بـ«شبكة المترو».
فما قصة هذه الأنفاق؟ وكيف حوّلتها قوة فلسطينية محاصرة منذ سنوات إلى سلاح يؤرق مضاجع أقوى جيش في العالم؟
الوجه الآخر للصراع
لا يكفُّ الصراع الفلسطيني عن إدهاشنا بحجم تناقضاته الكائنة على تلك الرقعة المحدودة التي تستضيف أخطر صراعات العالم منذ عقود طويلة، والحافلة بأكوامٍ من التناقضات؛ عرب ويهود، احتلال وأصحاب أرض، قوة عسكرية غاشمة ونشطاء مناضلين، وأخيرًا ذلك الصراع الكائن تحت الأرض في كلتا المنطقتين؛ ملاجئ يزيد عددها على المليون في كل أنحاء إسرائيلين تحفظ الحياة لأهلها، وأنفاق تنتشر في أعماق غزة تُعين مناضليها على رفع رايات المقاومة ضد المحتل، لتعبر كلٍّ منها عن جوهر الصراع؛ فالإسرائيليون يحاولون بكل ثمن الحفاظ على حياتهم ولو قضوا أيامهم تحت الأرض، والفلسطينيون لن يوقفهم شيء عن بناء دولتهم، ولو ماتوا أجمعين أسفل ترابها.
يقول الخبير العسكري إيادو هيشت في أطروحته «الأنفاق في غزة»، إنه بالرغم من أن الفلسطينيين درجوا على استعمال الأنفاق منذ فترة زمنية طويلة جدًا، ربما تعود إلى عام 1948م فإن استعمالها اقتصر على تهريب البضائع والتوغل داخل الأراضي لأغراض غير قتالية كتجاوز نقاط التفتيش وزيارة الأقارب وغيرها (اكتشفت إسرائيل أول نفق لتهريب البضائع عام 1983م)، ولم تُستخدم في النواحي العسكرية إلا في عام 2001م، ففي ـ26 من سبتمبر من هذا العام استخدمت جماعة فلسطينية نفقًا لزرع قنبلة أسفل نقطة حدودية للجيش الإسرائيلي، وبهذه العملية دخلت الأنفاق إلى الترسانة العسكرية الفلسطينية للمرة الأولى.
بينما يوضح الباحث نيكولا ويتكينز في أطروحته «الحفر داخل إسرائيل»، إن انتفاضة الأقصى التي بدأت في سبتمبر من عام 2000م، شهدت السعي الفلسطيني الأول لاستخدام الأنفاق عسكريًا، وأن انسحاب إسرائيل الأحادي من غزة أفسح المجال لمهندسي فصائل المقاومة الفلسطينية من أجل حفر شبكة أنفاق «أطول وأعمق داخل غزة» لاستخدامها في النواحي القتالية.
هذا الاستخدام الذي تكرّر لاحقًا في 26 فبراير عام 2004 لمهاجمة معبر (بيت حانون/ إيريز) الذي أسفر عن مصرع حارس المعبر الإسرائيلي، ويبقى النجاح الفلسطيني الأعظم يوم 25 يونيو 2006م، حين استغلت المقاومة نفقًا لمهاجمة موقعين عسكريين إسرائيليين أسفرا عن مقتل جنديين إسرائيليين وأسر جندي واحد هو جلعاد شاليط، الذي بقي محتجزًا داخل القطاع لمدة 5 سنوات، ولم يُفرج عنه إلا بموجب صفقة قياسية أتاحت لـ1027 أسيرًا فلسطينيًّا أن يخرجوا من السجون الإسرائيلية.
من وقتها لم تكف حماس عن اعتبار الأنفاق سلاحًا استراتيجيًا بالغ الفعالية، ولم تتوقف إسرائيل عن السعي لمقاومة هذه الأنفاق في ظل عدم توفر أي وسيلة تكنولوجية ناجحة، حتى الآن، تستطيع اكتشاف النفق وتقضي عليه، وهو ما يحاول الجيش الإسرائيلي تعويضه بالقصف الجوي والعمليات العسكرية الميدانية أو استعمال الرادارات الحساسة والأقمار الصناعية وغيرها من وسائل الاستطلاع المباشر التي تنضوي على مخاطر جمّة.
في عام 2016م، أعلن الجيش الإسرائيلي أن الأنفاق هي «إحدى الأولويات الرئيسية للجيش»، وخصص قرابة مليار شيكل (250 مليون دولار حينها) للبحث عن حل لهذه المعضلة، وهو السعي الذي تواصل عبر الاستعانة بالخبرات الأمريكية في هذا الصدد لاستنستاخ نموذج القبة الحديدية، وبالفعل أقر الكونجرس عددًا من القوانين التي وفرت التمويل لتسريع الأبحاث العسكرية المشتركة لحل هذه المعضلة (خصصت الولايات المتحدة قرابة 40 مليون دولار لهذا البند في موازنة عام 2016م).
أبرز علامة على فداحة هذا الكابوس الأنفاقي الذي ينخر في العقلية الإسرائيلية خلال الفترة الأخيرة، أنه لا يكاد الحديث عنها ينقطع بوسائل الإعلام الإسرائيلية من فترةٍ لأخرى عن اكتشاف نفق وإبطال فاعليته سواء بالإغراق بالمياه أو بتدمير مدخله، لكنها لم تمنع أبدًا من تواصل مسيرة حماس في بناء شبكة معقدة من الأنفاق تُعينها على توجيه ضرباتٍ مركزة لإسرائيل من وقتٍ لآخر، ليتواصل الصراع بين الطرفين، ليس فقط فوق الأرض وإنما تحتها.
مدينة الظلال
في مارس من عام 2014م، خرج القيادي الحمساوي البارز إسماعيل هنية وخطب في جمعٍ غفيرٍ من الفلسطينيين قائلاً «إن الأنفاق تُدشن استراتيجية جديدة في الصراع مع العدو».
سريعًا، اتضح كم كان هنية صادقًا، ففي يوليو من ذات العام تجدد النزاع العسكري بين حركات المقاومة الإسرائيلية وإسرائيل، واتضح خلال أعمال القتال أن حماس باتت أكثر براعة في استخدام الأنفاق، ليس فقط لتنفيذ عمليات قتالية، وإنما لعشرات الاسخدامات التكتيكية المتنوعة كاجتماعات القيادة لبحث شؤون الحرب وتخزين السلاح وإيواء المطلوبين أمنيًا من السُلطات العبرية ومهاجمة المواقع الصهيونية القريبة من الحدود أو حتى الاستعانة بأنفاق صغيرة تأوي منصات إطلاق الصوارخ الصغيرة وغيرها من الاستخدامات التي منحت حماس مرونة كبيرة في معركتها مع إسرائيل.
على هامش العمليات، أعلن الجيش الإسرائيلي أنه اكتشف خلال العمليات قرابة 30 نفقًا لا تقتصر على حدود غزة وحسب، وإنما تمتد إلى عُمق الأراضي الإسرائيلية، وتُمكن مستخدميها من الوصول لعددٍ من المدن المتاخمة لقطاع غزة.
المواصفات الفنية لهذه الأنفاق تبقى عسيرة التحديد لصعوبة حصر النمط البنائي لكافة هذه الأنفاق، لكنها وفقًا لتقدير الخبراء العسكريين الذين اطلعوا على بعض الأنفاق التي عُثر عليها، فإنها تكون ذات جوانب وسقف مدعمة بالخرسانة، وتحتوي على فتحات تهوية، كما يؤكد إيادو هيشت في أطروحته، أن بعض المداهمات الإسرائيلية المحدودة لهذه الأنفاق كشفت عن تزويد حماس لها بكافة المعدات اللازمة لقضاء وقتٍ طويل بها كأجهزة الإضاءة وأسلاك الهاتف وكميات من الطعام والشراب، بما فيها دراجات نارية في نهاية النفق تعين النشطاء على سرعة الهرب حال وقوع أي مداهمة للمكان.
قدّر الجيش الإسرائيلي، في عام 2014م، أن الفلسطينيين استخدموا قرابة مليون طن من الخرسانة لبناء الأنفاق، واعتبروا أن النفق الواحد بشكله المتطور يستلزم قرابة 50 ألف طنٍّ من الأسمنت، وتبلغ تكلفته نحو مليون دولار (تشمل مصاريف الحفر والتشغل والصيانة).
ويضيف الباحث نيكولا ويتكينز في أطروحته «الحفر داخل إسرائيل»، أن تنفيذ مثل هذا المشروع المعقد يتطلب تضافر العديد من الخبرات الفنية في مجالات الهندسة والجيولوجيا والتعدين والهندسة الكهربائية، وأن إسرائيل تثق في أن حماس تستعين بخبرات إيران وحزب الله في هذا الصدد.
ووفقًا لأطروحة هيشت البحثية، فإن قادة حماس يسعون لتمويه مداخل هذه الأنفاق بأشكالٍ متعددة كتغطيتها بالنباتات أو بأغطية البالوعات، أو الحفر من داخل منازل مدنية بريئة، ومع ذلك يتم الاحتياط لاحتمال أن هذا الاحتيال من قِبَل إسرائيل، فيجري تفخيخ هذه المداخل أغلب الأحيان لتفجيرها حال كشفها من قِبَل عيون الاحتلال، وعادةً ما تخضع هذه المداخل لرقابة صارمة.
ويضيف نيكولا، أن هناك العشرات من التدابير الأمنية التي تتبعها حماس لضمان عدم اكتشاف النفق خلال أعمال الحفر، مثل استخدام معدات يدوية هادئة بدلاً من الآلات ذات المحرك التي تصنع المزيد من الضجيج، وكذلك حثِّ الحفارين على تغطية وجوههم واستعمال الأسماء الرمزية، والتخلص من بقايا الحفر من رمال وصخور بحرصٍ لا يلفت الانتباه، وتتراوح تكاليف الحفر فقط مبدئيًا ما بين 60 ألفًا و200 ألف دولار.
يتعيّن على هؤلاء الحفارين البقاء تحت الأرض لفتراتٍ طويلة في هذا العمل الشاق، والاستعانة بكميات الطعام المعلبة التي تقيم أودهم تحت الأرض، وعادة ما يكونون من صفوة الوحدة الهندسية من كتائب القسام، ويتعرضون وقتٍ لآخر لمخاطر جمة كالانهيارات الأرضية أو إصابات العمل التي قد تودي بحياتهم. في النهاية يستطيع الحفار أن يزيح قرابة 4- 5 أمتار في اليوم الواحد، وهو ما يجعل مدة حفر النفق الواحد تصل إلى 9 أشهر، لكن الأمر بالطبع يختلف مع أنفاق أخرى أطول وأكثر تعقدًا قد يجري عليها العمل لعامين كاملين.
هذه المساعي التي لم تتوقف أبدًا، حتى قُدِّر أن أحشاء قطاع غزة باتت تأوي مدينة كاملة مخفية عن الأنظار تحت الأرض، مدينة لا يعرف تفاصيلها إلا قادة حماس، وهي التفاصيل التي تزداد تعقيدًا كلما زادت المداهمات الإسرائيلية لعددٍ من هذه الأنفاق، بعد ما تبينوا أن البراعة الفلسطينينة في تدشينها أُضيف إليها الهاجس الأمني التضليلي بعدما باتت الأنفاق متعددة الفروع متشعبة الأرجاء كشبكة عنكبوت وهو ما يُقلل الخسائر حال كشف إحدى أذرعها، ويمنح فصائل المقاومة المزيد من القُدرة على الاستغلال الأمثل لها في عملياتها القتالية.
وفي أغسطس من العام ذاته، اصطحب عددٌ من مقاتلي حماس مراسل رويترز إلى جولة داخل أحد الأنفاق، سُمح له بتصويرها والحديث عن تفاصيلها. كشفت الصور النادرة عالية الجودة لمحتوى الأنفاق عن تحصينها الجيد بالأسمت، وأن بعضها يتسع لرجل قصير القامة، وأنها تكفل للجنود الفلسطينيين السير بأريحية نسبية تُمكنهم من بلوغ أهدافهم بنسبٍ نجاحٍ عالية، وكان أهم ما خرج به مراسل رويترز من هذه التجربة عبارة لافتة قالها له جندي حمساوي بأنه داخل النفق «يشعر بأنه في منزله».
وسائل إعلام إسرائيلية بارزة تحدثت أكثر من مرة أن المسؤول الأول عن شبكة الأنفاق المعقدة تلك، هو محمد ضيف القائد الحالي لكتائب عز الدين القسام، وهو الاسم الأكثر ترددًا على الساحة الفلسطينية هذه الأيام بعدما رفع المقدسيون شعار «احنا رجال محمد الضيف» في مظاهرات اجتاحت المسجد الأقصى، لتكون المفارقة الأبرز أن الرجل الخفي/ الظل هو المسؤول الأول عن مدينة الظلال الفلسطينية، ويترادف أكثر شيئين يرعبان إسرائيل معًا في بوتقة واحدة، وتكون «أنفاق ضيف» أثمن سلاح استراتيجي امتلكه الفلسطينيون منذ عقود.