ثمن الكلمة: صحفيو غزة في أرض النار
أن تكون مراسلًا صحفيًّا أو مصوِّرًا في منطقة ملتهبة كقطاع غزة، فأنت بالتأكيد معرض للموت، بدون أدنى مسئولية على الجاني.
لا خوذة تحمي، ولا سترة نجاة تقي، ولا حتى سيارة مخصصة للصحفيين تحمل كلمة «press»، الكل في مرمى الخطر، حتى إن لجأ الإعلامي إلى مكتبه واختبأ خلف حوائط الأسمنت، فلن يأمن أبدًا ألَّا يناله صاروخ إسرائيلي من طائرة مقاتلة.
في العدوان الأخير على القطاع دمَّرت إسرائيل أكثر من 20 مقرًّا لوسائل إعلامية فلسطينية، بالإضافة إلى نسف برج الجلاء الذي آوت شققه مكتب شبكة الجزيرة في غزة ومكتب وكالة أسوشيتد برس الأمريكية، وعددًا من الإذاعات المحلية، سعيًا لحرمان ناقلي الكلمات من حقهم في فضح الحقائق أمام العالم، ولم ينجحوا.
حالة التعاطف الكبيرة التي نالتها غزة حول العالم بأسره تدين فيها بكثيرٍ من الفضل لعشرات الجنود المجهولين من الصحفيين الذين عملوا في أوضاع نارية، وتحملوا مشاق التغطية الإعلامية لتفاصيل الحرب، حتى يعرف العالم بأسره حجم الهمجية الإسرائيلية التي لم ترحم أحدًا.
مراسل «الأنباء الفرنسية»: لا توجد صورة تساوي حياتك
هكذا بدأ محمد عبد، مصور صحفي في وكالة الأنباء الفرنسية بقطاع غزة، حين طلبنا منه الحديث عن تفاصيل تغطيته اليومية داخل القطاع وما يتعرض له من مخاطر وصعوبات خلال أدائه مهام عمله.
قبل خروجه من منزله يرتدي «محمد» سترته الواقية التي تحمل شارة «press» وخوذته حاملًا حقيبته وفيها جميع معدات عمله، تركض ابنته خلفه محاولة منعه عن الرحيل، قائلة: «بلاش يا بابا إحنا عاوزينك، خليك بتغطي يوم تاني»، ولكنه يطمئنها هي ووالدتها بأنه «دارس الوضع كويس»، وسيكون في مكان آمن، محاولًا تخفيف الخوف الذي ينتابهما من المصير القاتم الذي قد يتعرض له.
يضيف محمد عبد، خلال حديثه لـ«إضاءات»، أن «الحرب كلها مشاهد مأساوية ودمار وقتل وخوف ورعب والمشاهد مستمرة، أطفال عبارة عن أشلاء وسيدات استشهدن في الطرقات، وآخرون هُجِّروا من بيوتهم إلى أماكن الإيواء، الكل في مرمى النيران وتحت طائلة الموت المجاني … مشاهد يومية نتعرض لها ومؤذية نفسيًّا تجعلنا نشعر بانفصام في الشخصية عندما نذهب إلى بيوتنا في نهاية اليوم، غير مستوعبين ما شاهدنا من مأساة خلال اليوم؛ فتشعر أنك عاجز ومحطم من داخلك».
ويكشف لنا جزءًا من كواليس الرعب الذي يخوضه يوميًّا، موضحًا أن القصف الجوي خطير جدًّا لأنه يأتي من أعلى إلى أسفل، وبالتالي لا تتوقع الضربة متى وأين، وما هو مصيرك، فأنت مقدر لك الموت في أي لحظة ومن أي اتجاه.
يضيف محمد عبد: «على الرغم من اتخاذ كل احتياطات الأمن والسلامة المهنية، فإنك معرض دائمًا للخطر، وهذا يشكل ثقلًا كبيرًا على الصحفي، خاصة المصور؛ لأنه دائم التنقل، ويتواجد أينما وقع الحدث، على عكس الصحفي الذي يمكنه أن يتناول الأحداث عبر مجموعات الواتس آب على سبيل المثال».
يظل محمد مستيقظًا حتى وقت متأخر، فهو يبدأ من الساعة السادسة صباحًا بوضع برنامج اليوم، حيث يسير هو وزميله في الوكالة وفق الأحداث التي جرت ليلًا لتغطية الأحداث المهمة، مثل الجنازات وهدم البيوت وقصف مراكز الإيواء، ويعتمد في التنقل على المواصلات الخاصة؛ لأنه في وقت الحرب لا توجد مواصلات عامة.
ويواصل الصحفي: «بعد يوم شاق مليء بالأحداث وجمع المعلومات، سواء المصورة أو المكتوبة، نذهب إلى المكتب لإرسالها، وهنا نجد مشكلة كبرى، وهي انقطاع الكهرباء بصفة مستمرة في قطاع غزة، وبالتالي انقطاع الإنترنت، حيث يستهدف الطيران الحربي الإسرائيلي البنية التحتية، وللتغلب على هذه المشكلة نشتري مولد الكهرباء لإنهاء عملنا».
ونظرًا لاشتعال الحرب الدائرة في قطاع غزة، يضطر «محمد» للمبيت في المكتب التابع للوكالة التي يعمل فيها، فيقول: «خلال 10 أيام زرت أهلي لمدة ساعتين؛ لتفقد أحوالهم وهل ما زالوا على قيد الحياة أم لا، ففي غزة لم يعد هناك مكان آمن».
وعن أصعب المواقف التي مر بها في عمله يتذكر أنه بعد قصف الطيران الإسرائيلي مباني شارع الوحدة ليلًا ومقتل عدد كبير من المدنيين إثر ذلك – جميعهم من النساء والأطفال – ذهب لتغطية الحدث، فرأى شابًّا فوق ركام القصف يسترق النظرات بين الحطام وينادي على أمه وأخته آملًا أن تسمعه إحداهما، وظل ينادي ويصرخ ويجهش بالبكاء، متمسكًا بطرف «ريحة حياة» منهما، ولكن الأوان قد فات، تاركًا في نفسه غُصة لا يمكن أن ينساها.
«لا توجد صورة تساوي حياتك»، هذه هي الوصية التي يسمعها «محمد» من أسرته وهم يطالبونه بالتواجد دائمًا في الأماكن الآمنة، مضيفًا: «لا السترة بتحمينا ولا حتى العربية المكتوب عليها press، أنت في وضع حرب، وكلنا تحت طائلة القتل والموت المجاني».
مراسل جريدة اليوم: مهر القدس غالٍ
أما زياد عبد الهادي، مراسل جريدة اليوم الإخباري بقطاع غزة، فقال:
ويوضح «زياد»، في حديثه لـ«إضاءات»، أنه عند الخروج من البيت يوميًّا يواجه عدة صعوبات، أولها أنه «وحيد أهله»، وهذا يضاعف حجم الخوف والحرص لديهم، ما يدفعهم لمطالبته بعدم الذهاب إلى الميدان؛ خوفًا عليه من رصاصة إسرائيلية تسرق حياته، وأيضًا تدمير الشوارع الرئيسية ومفترقات الطرق ما يعيق حركة سيارات الصحفيين.
ويذكر أن نسبة حماية السترة للصحفي ضئيلة؛ لأن الاحتلال مجرم ويستهدف المدنيين والصحفيين، ولا يحترم القانون الدولي لحماية الصحافة، على حد وصفه.
ويتابع: «من أصعب المواقف التي مرت عليَّ أنه عندما استهدفت قوات الاحتلال الإسرائيلي منزل عائلة أبو العوف، وانتُشِل عدد من الشهداء، في هذه الأثناء حاول شاب بجانب طواقم الدفاع المدني رفع أكبر قدر من الركام لنحو 9 ساعات متواصلة؛ بحثًا عن خطيبته التي انقطع الاتصال معها من أسفل الركام، ولحظة انتشالها لفظت أنفاسها الأخيرة، وصعدت روحها إلى خالقها».
ويختتم مراسل اليوم الإخباري حديثه قائلًا: «عندما أعود كل يومين إلى البيت أنظر إلى أمي وأنا في داخلي مناظرة ذاتية؛ أمي ماذا سيحدث لها لو استُشهِدت وأنا ابنها الوحيد! وفي المقابل أجيب نفسي: يا زياد القدس والجنة مهرها غالٍ، وأمي ستقدم أغلى ما تملك لنحظى بالحرية أو الجنة».
صحفي أورينت: دقائق أنقذت حياته
ورد اتصال لحارس برج السوسي، حيث مقر مكتب أورينت في قطاع غزة، يطالب بسرعة إخلاء البرج، فما كان من الصحفي «سيف» ومن معه إلا أن هرعوا للخروج فورًا، وأخذوا ما استطاعت أيديهم حمله من معدات، مهرولين على الدرج، وباقي سكان البرج خلفهم، فهناك أم تحمل طفلها وشاب يحمل والده المسن، الكل يسابق الزمن في إنقاذ حياته قبل أن تقصفهم طائرات الاحتلال، التي تحلق فوق رؤوسهم. تلك دقائق من الرعب يرويها سيف السويطي، مراسل أورينت في غزة.
ويكشف مراسل أورينت، خلال حديثه لـ«إضاءات»، عن أصعب اللحظات التي يمر بها قائلًا: «لحظة خروجي من البيت كل يوم أودع زوجتي وأطفالي، فلولا أن عملي واجب وطني وإنساني لفضَّلت الجلوس مع أطفالي أخفف من حدة الخوف بداخلهم مع كل صوت لغارة إسرائيلية».
طفلي يستيقظ يوميًّا من النوم ويسألني: «بابا خلصوا قصف، يلا نروح على الألعاب». هذه الكلمات أقسى ما يسمعه «سيف» من ابنه، فالأطفال في غزة حُرموا من فرحة العيد، فهم يصبحون ويمسون على أصوات القصف والانفجارات العنيفة.
ويؤكد «سيف» أن التغطية الإعلامية في هذه الحرب مختلفة عن حربي عامي 2012 و2014؛ لكثافة نيران الطيران الإسرائيلي والقصف الذي يستهدف كل منطقة في القطاع، لكن ما يزيد الخطر والخوف لديهم أن تركيز القصف يستهدف منطقتي الرمال والوحدة، حيث توجد المؤسسات الصحفية.
ويقول: إننا نواجه صعوبة في الحصول على المعلومة نتيجة القصف العنيف، إضافة لسوء شبكات الاتصال الخلوية والإنترنت، فلكوني مراسلًا فأنا أعتمد عليهما بشكل أساسي، إضافة لانقطاع الكهرباء لساعات طويلة، وكذلك المخاطر التي تحدق بنا في أثناء التحرك بالسيارة، فعلى الرغم من أنها تحمل شارات «press» فإن عدونا لا يفرق بين سيارة مدينة أو صحفية أو حتى سيارة إسعاف، الجميع في دائرة الاستهداف.
ويواصل: «كل يوم وكل جولة ميدانية نسمع ونشاهد ما يحبس الأنفاس، لكن الموقف الذي سيبقى عالقًا في الذاكرة مجزرة عائلة الشاطئ ووالد الشهداء محمد الحديدي أثناء مقابلة صحفية معه، وهو يتحدث مع طفله الرضيع الناجي الوحيد من المجزرة … المشهد يُبكي، رضيع أصيب في أنحاء جسده، وهو مكسور القدم، كلما أنظر إلى الطفل أتذكر أطفالي. لا أحد يستطيع تصور الموقف وكيف ستكون ردة الفعل. أسأل نفسي: كيف سأجمع القوة والصبر لنسيان تلك المأساة؟»
بوجه منهك وملامح عابسة وجد «سيف» خلال إحدى التغطيات طفلًا يبحث بين الأنقاض، ما دفعه للسؤال: عن ماذا تبحث؟ كانت الإجابة بصوت خافت والدموع في عينيه: عن ألعاب العيد!