ثورات واستقلال مؤقت: غزة في العصر العثماني
عاشت غزة خلال الحكم العثماني فترات عصيبة، نتيجة القلاقل السياسية ومحاولة الانفصال وإقامة دويلة مستقلة، وكذلك غارات البدو على قوافل التجارة والحجيج في أوقات الأزمات الاقتصادية، وكل ذلك ترك تداعياته على النواحي المعيشية المختلفة لأهالي المدينة.
وظهرت الانتفاضات المحلية الطموحة للانفصال والاستقلال عن الدولة العثمانية في شمال فلسطين، متمثلة في حركة «فخر الدين المعنى»، التي تنفس خلالها أمير غزة أحمد بن رضوان الصعداء لانشغال «المعنى» بالاستعداد لمجابهة السلطان العثماني، نظرًا لما كان بين هؤلاء الأمراء من ضغائن وأحقاد فيما بينهم، فأسرة رضوان وآل فروخ وبهرام يحكمون المدن الفلسطينية الرئيسية، بحسب ما ذكر سليم عرفات المبيض في كتابه «غزة وقطاعها.. دراسة خلود المكان.. وحضارة السكان من العصر الحجري الحديث حتى الحرب العالمية الأولى».
القضاء على تمرد فخر الدين المعنى
بلغ من سطوة فخر الدين المعنى، أن اضطر السلطان مراد الرابع إلى إصدار فرمان سنة 1624 يخوله بمقتضاه السلطة على بلاد عربستان، أي بلاد البدو الخارجة عن حدود المدن من حلب شمالًا حتى العريش جنوبًا، مستغلًا سطوة هذا الرجل، ومحاولًا تفريغ شحنات تمرده للقضاء على تمرد البدو الناجم عن التدهور الاقتصادي والتسيب الإداري وضعف السلطة المركزية للدولة العثمانية، وذلك مقابل أن يقدم «المال الميري» للدولة العثمانية ومحافظته على الأمن.
وكان هذا يعني بطبيعة الحال تدخل «المعنى» في شؤون بقية الأمراء في ألوية فلسطين، ومنها غزة، وكانت هذه لعبة استطاع السلطان العثماني من خلالها زرع الأحقاد والفتن في نفوس أمراء الألوية ضد المعنى.
فبعد أن توفي أحمد باشا رضوان أمير غزة، خلفه ابنه حسين باشا الذي تحالف مع أحمد بن طربان حاكم اللجون جنين، وفروخ باشا حاكم نابلس، ضد فخر الدين المعنى، حتى قُضي على الأخير سنة 1635، ونجح بالتالي السلطان في القضاء على حركته مستغلًا أحقاد الأمراء فيما بينهم، روى المبيض.
ولم يسلم أهالي غزة من تصرفات السلطة العثمانية، التي كانت توفد الأغوات إلى مدن وقلاع غزة وغير المرغوب فيهم، فيستولون على أراضيهم، كما فعل بهرام باشا والي حلب، عندما استولى على أراضي حسين آغا في حلب وأرسله كـ«كتخدا» على قلعة خان يونس وعوضه بأراض زراعية في غزة.
كذلك أرسل ببعض البكوات إلى العريش سنة 1737 ليعطوهم أراضي في غزة، منها في «نصف الحكمية» و«الرماد» وقفًا على ذريتهم، وهي جميعًا أراض زراعية تقع حول مدينة غزة.
انتفاضة الأهالي وسطو الأعراب
مع منتصف القرن الثامن عشر لم تُعد تجبى معظم الضرائب في غزة مثل باقي المدن والقرى الفلسطينية حتى نهايته، لِما انتاب البلاد من موجة غلاء شديدة أيام السلطان عثمان الثالث سنة 1747، فضج الأهالي لصعوبة المقدرة الشرائية وجماد الأسواق وانكماش معروضاتها، فانتفض البدو من سكان الأطراف – كرد فعل طبيعي لسوء الأحوال في المدن – فهب أبناء قبيلة بني صخر، واعترضوا قوافل الحجاج وقتلوا أميرها سنة 1757 ليغمروا بها أسواق غزة ولتباع بأبخس الأثمان، وعلى إثرها هرب حاكم غزة حسين باشا مكي.
وبحسب المبيض، ظل البدو مقياسًا لقوة السلطة العثمانية الذي تحدده الظروف والأحوال الاقتصادية للبلاد، فالاهتراء الإداري والوهن العسكري والضمور الاقتصادي كان يعني بالطبع سعي البدو لقطع الطرق ونهب المدن، بل والاعتداء على قوافل العساكر أنفسهم، والذين تمردوا في بعض الأحيان كما حدث أيام حكم حسين باشا مكي سنة 1757، مما أكسب البدو هيبة حسب حساب الحكام والقادة.
علي بك الكبير وغزة
ونظرًا لموقع غزة الحدودي مع مصر، أرسل علي بك الكبير شيخ مصر قائده العسكري محمد بك أبو الذهب لمدينة غزة، للقضاء على زعيم إحدى القبائل البدوية ويدعى «سليط»، الذي كان خارجًا عن الدولة ومن العصاة العتاة، وتم ذلك بالفعل، لأن علي بك كان يرى في استقرار الأوضاع في هذا الممر الحيوي ضمانًا له لتنفيذ مخططاته المستقبلية في التوسع نحو الشام والاستقلال عن الدولة العثمانية، بخاصة أنه كان على دراية كبيرة بمشاكل أهل غزة عندما عاش بينهم كمنفي سنة 1766، ولمس عن قرب تصرفات النائب العثماني عثمان باشا الكرجي الذي أساء له –أي لعلي بك الكبير– يوم أن كان الاثنان أمراء للحج سنة 1764، روى المبيض.
وكانت غزة تُتخذ هي والصعيد مكانًا لنفي الزعماء والمتمردين على السلطة لموقعهما الحدودي والبعيد عن العاصمة المصرية، حيث سبق وأن نفي لمدينة غزة صالح بك سنة 1765، وهو من رجال علي بك الكبير.
وفي هذه الأثناء ظهر على المسرح السياسي الشيخ ظاهر العمر في شمال فلسطين، الذي حاول جاهدًا خلق دويلة فلسطينية متخذًا في بداية حركته من مدينة طبرية مركزًا له، ليتنقل بعدها إلى عكا، واضعًا يده بيد علي بك الكبير شيخ مصر، الذي اتصل بدوره مع قائد الأسطول في البحر المتوسط ليؤازره ويموله بالأسلحة والعتاد الحربي، مما مكنه للتوجه نحو غزة فاحتلها سنة 1773-1774 .
وفور دخوله غزة، أعلن علي بك الكبير أنه ليس خارجًا عن السلطان العثماني، بل قادمًا لإنقاذ أهل غزة من مظالم نائبها عثمان بك الكرجي الذي اعتدى على علماء غزة وحُجاجها وتجارها.
كما أعلن علي بك الكبير على سكان المدينة إلغاء ضريبة «المال الميري» لمدة أربع سنوات، تقربًا للسكان، واضعًا يده بذلك على أشد الأمور حساسية في البلاد التي كانت تعصرها الضرائب.
واستطاعت جيوش علي بك الكبير التقدم شمالًا متحالفة مع جيش الشيخ ظاهر العمر، مستغلين فرصة الحرب الدائرة بين تركيا وروسيا سنة 1768- 1774، ومتحالفين مع روسيا التي أرسلت أسطولها أمام حيفا ثم ضربت القوات التركية في صيدا سنة 1772، مما شجع ظاهر العمر على الاستيلاء على جميع المدن الفلسطينية مع بداية سنة 1773، فاستولى على القدس ونابلس ويافا وغزة، وهكذا دانت له جميع المدن على الساحل الفلسطيني مستقلًا بالبلاد، ومعتمدًا على اقتصادها وبوجه خاص القطن الذي غطت زراعته مساحات شاسعة في منطقة الجليل وحتى مدينتي اللد والرملة، فأخذ يصدّره إلى فرنسا مقابل استيراد الأسلحة والذخائر، روى المبيض.
إلا أن هذه الدويلة واجهت عديدًا من المشاكل الداخلية والخارجية، بدأت بتحريض السلطان العثماني لقائده محمد بك أبو الذهب على قتل سيده علي بك الكبير سنة 1773، فقد على إثرها ظاهر العمر حليفه الوحيد.
وفي هذه الأثناء تفرغت تركيا لمجابهة ظاهر العمر بعد أن وصلت الحرب الروسية – التركية إلى منتهاها، فبدأ السلطان العثماني عبد المجيد الأول بتحريض أبي الذهب ضد ظاهر العمر، فقام بحملة ثانية على فلسطين، وتوجه إلى مدينة غزة سنة 1775، ومنها شمالًا إلى حيفا، مما اضطر الشيخ ظاهر العمر إلى الفرار إلى صيدا ، ولم يعد إلا بعد موت أبي الذهب المفاجئ، ثم وافته المنية سنة 1775، لتعود المدن الفلسطينية للسيطرة العثمانية ثانية.
تسلط المُتصرّفين
بقيت غزة طيلة الربع الأخير تقريبًا من القرن الثامن عشر تحت السيطرة العثمانية، حيث عاشت في قلق واضطراب تحت تسلط المُتصرّفين (أي الذين يديرون الأعمال)، وعلى رأسهم متصرف القدس وغزة محمد باشا أبو مرق، مما أدى إلى وقوع بعض الاضطرابات في عصره، لكنه هرب إلى مصر إثر خلاف عظيم بينه وبين أحمد باشا الجزار، حيث أقام بها مدة، حسب ما ذكر مصطفى مراد الدباغ، في القسم الثاني من موسوعته «بلادنا فلسطين».
وفي سنة 1806 تمكن أبو مرق من إقناع الدولة العثمانية أن بإمكانه أن يجهز حملة تأديبية ضد الوهابيين الذين كانوا قد استولوا على الحجاز، فيما لو عادت الدولة وعهدت إليه بالقدس وغزة ويافا، وأنه مستعد ليباشر العمل بحملته من غزة عن طريق معان (مدينة جنوب الأردن).
وصدّق رجال الدولة أقوال أبو مرق، فأعادوه لمنصبه إلا أنه لم يتمكن من إعداد الحملة التي وعد بها، بل بدأ يوقع الظلم والجور على العباد، مما اضطرهم لأن يشكوه إلى الباب العالي، ولما تحقق السلطان من صحة الشكوى أمر بعزله وبإلحاق يافا وغزة بولاية عكا، كما كانت في السابق، وكان واليها حينئذٍ سليمان باشا الذي عين محمد آغا أبو نبُوت متسلمًا (أي يتولى إدارة أعمال البلد ومراقبتها) على المدينتين المذكورتين.
أما أبو مرق ففرّ إلى الشام، وبعد أن أقام بها مدة ذهب إلى حلب، وفي أثناء إقامته فيها أخذ يلقي الفساد بين واليها والجند، مما جعل الباب العالي يأمر بقتله، وبذلك انتهى أمره، روى الدباغ.
معارك دامية مع عرب الهنادي
بقي أبو نبُوت متسلمًا على مدينتي يافا وغزة مدة طويلة (1807- 1818)، وكان من أهم ما حدث في عهده في غزة وجوارها تلك المعارك الدامية التي حدثت بينه وبين عرب الهنادي الذين يعودون بأصلهم إلى بني هلال. ويذكر الدباغ، أن هؤلاء البدو هاجروا من مصر ونزلوا غزة وناحيتها التماسًا للرزق، إلا أنهم أخذوا يعيثون في الأرض فسادًا، مما اضطر أبو نبُوت لأن يطلب منهم العودة إلى ديارهم رغمًا عن الهدايا التي قدموها له.
ولما لم يلبوا طلبه هاجمهم بجنوده، ولكنهم انتصروا عليه فجرحوه وقتلوا حصانه، فسارع أحد مماليكه وأركبه حصانه وفر هاربًا، ولم يتمكن أبو نبُوت من الانتصار عليهم وإعادتهم إلى بلادهم بعد أن أنجده والي عكا سليمان باشا بالجند.
وفي سنة 1818 عُزل أبو نبوت من المتسلمية، فجمع ما لديه من أموال وتوجه إلى مصر، ويقال إن عدد الجمال التي حملت أمواله من غزة بلغت 280 جملًا.
ثورة أهالي غزة
ومن الولاة الأتراك الذين دانت لهم غزة بالحكم، وصار لهم شأن كبير فيها عبدالله باشا، فقد تولى ولاية صيدا ومصر والعريش وغزة والقدس ونابلس وجنين عام 1831، وكان ذلك في عهد السلطان محمود الثاني.
ويروي عارف العارف، في كتابه «تاريخ غزة»، أن أهالي غزة ثاروا على الدولة العثمانية في عهد هذا الوالي بقيادة رجل يدعى مصطفى الكاشف، واتفقوا مع عرب التياها والترابين، وطردوا الموظف الذي نصّبه متسلم غزة يومئذٍ حسين آغا وكيلًا على الجمرك، فأرسل عبدالله لهم كتابًا يسترضيهم فيه وينذرهم في نفس الوقت بسوء العاقبة إذا هم تمادوا في عصيانهم.
حملة محمد علي
من الأحداث المهمة التي شهدتها غزة أيضًا وكانت طرفًا فيها، حملة محمد علي إلى سوريا. وبحسب الدباغ في كتابه المذكور آنفًا، فإن من الأسباب التي دعت والي مصر لهذه الحملة هجرة نحو ستة آلاف من فلاحي مديرية الشرقية بمصر إلى غزة وجنوب فلسطين، هربًا من محمد علي الذي أثقل عاتقهم بالضرائب وبتسخيرهم في حفر الترع وتجنيدهم تجنيدًا إجباريًا، مما جعلهم في حالة من البؤس والشقاء.
ويروي الدباغ، أن محمد علي طلب من عبدالله باشا والي عكا إرجاع كل من هاجر إلى مصر ثانية، خوفًا من كثرة من يتبعهم من المهاجرين إلى فلسطين، فامتنع عبدالله باشا محتجًا بأن الإقليمين تابعان لسلطان واحد، فغضب محمد علي وأعد حملة على سوريا، وبدأ الزحف عام 1831، وسار الجيش بطريق الصحراء، أما الأسطول فكان يحمل المدافع الضخمة، ويقل إبراهيم بن محمد علي باشا.
ودخل جيش محمد علي غزة من دون مقاومة ومن دون حرب، كما دخل الرملة ويافا وحيفا والقدس، وعين إبراهيم باشا في كل منها متسلمين.
وفي عام 1834 ثارت مدن فلسطين في وجه إبراهيم باشا، ولم يكد يجيء شهر يونيو من تلك السنة حتى كانت كل بقعة في فلسطين خارج غزة والقدس ويافا وعكا قد سقطت في أيدي الثوار من أهل البلاد، ولما أُجبر إبراهيم باشا على إخلاء سوريا والعودة إلى مصر لاقت جيوشه الأهوال من جوع وعطش ومهاجمة العربان، حتى تمكنت من الوصول إلى غزة.
ويروي الدباغ، أن الغزيين قابلوا الجيوش المنسحبة مقابلة باردة، ولم يظهروا أي تعاطف نحوهم، وإثر وصول إبراهيم باشا إلى غزة أبلغه والده أمر الانسحاب نهائيًا من سوريا والعودة إلى مصر. وكان من أهم أحداث غزة في تلك الأيام الطاعون الذي انتشر عام 1839، وكان سببًا في هلاك كثير من سكانها.