رئة الغزاة: غزة في الحروب الصليبية
على مدار قرنين، دارت حروب بين المسلمين والصليبيين في مصر وبلاد الشام، وكانت غزة إحدى المدن التي وقعت في قبضة الفرنج في أعقاب استقرارهم، حيث مثّلت لهم أهمية استراتيجية كبيرة لتأمين حدودهم الجنوبية، كما مثّلت للمسلمين أيضًا بوابة لتحرير الأراضي المحتلة.
ويذكر محمد مؤنس عوض، في دراسته «أضواء على تاريخ غزة هاشم عصر الحروب الصليبية. دراسة عن القرن 12م»، أنه بعد أن تمكن الغزاة الصليبيون من اقتحام بيت المقدس في 15 يوليو 1099، ظلت مشكلة الأمن بمثابة القضية المؤرّقة لهم، فاتجهوا إلى تأمين المدينة المقدسة، وبعد إلحاقهم الهزيمة بالفاطميين في معركة عسقلان الحاسمة عام 1099 اتجهوا إلى إخضاع غزة لسيطرتهم، وأحدثوا بها مذبحة مروعة، فيما تدفقت أعداد كبيرة من اللاجئين على مصر الفاطمية بحكم التجاور الجغرافي.
مد السيادة السياسية
وبحسب عوض، لا يُفهم إخضاع الصليبيين لغزة إلا من خلال رغبتهم في مد سيادتهم السياسية على الساحل الشمالي الذي بدأ من ميناء أنطاكية شمالًا إلى غزة جنوبًا، وكان بمثابة الهدف الاستراتيجي للغزاة على مدى ما زاد من نصف قرن من الزمان ولم يتغير مع تغير الملوك الصليبيين، لأنه كان بمثابة قضية حياة أو موت، إذ دعم اتصالهم بالوطن الأم أوروبا، حيث الدعم المالي والبشري للمشروع الصليبي، وبالتالي وُصف ذلك النطاق الجغرافي بأنه كان أشبه بالرئة التي تنفس من خلالها الغزاة.
من ناحية أخرى، أراد الصليبيون من إخضاع غزة السيطرة على بداية طريق تجاري محوري هو طريق «غزة- أيلة (العقبة)»، وقد أخضع الملك بلدوين الأول أيلة عام 1116. ويذكر عوض، أن أهمية هذا الطريق تتضح من خلال تدفق التجارة الآسيوية عبره، بخاصة من الهند مرورًا بالبحر الأحمر.
وبحسب عوض، أدرك الغزاة ضرورة تحصين غزة من خلال تشييد قلعة حصينة بها لتأمين حدودهم الجنوبية في مواجهة مصر الفاطمية، وكذلك لدعم قدراتهم في مواجهة حامية عسقلان الفاطمية التي كانت تشن هجماتها بين الحين والآخر عليهم، وجاء ذلك من خلال سعيهم لتشييد منظومة متكاملة من القلاع الحصينة على امتداد هذا النطاق الجغرافي، وكذلك في المناطق الداخلية تعويضًا عن مشكلة نقص العنصر البشري، وهي المشكلة المزمنة التي واجهتهم طوال مدة احتلالهم لبلاد الشام.
وشهد عهد الملك الصليبي بلدوين الثالث تصميمًا على حل «العقدة العسقلانية المستحكمة»، فشيد قلعة غزة وأقام أسوارًا وأبراجًا بها، وأسند أمرها لهيئة «فرسان المعبد»، الذين كان قد مر على تأسيسها نحو ربع قرن من الزمان، وأثبتت كفاءتها، بخاصة في حماية الطريق الصخري الوعر بين يافا وبيت المقدس بطول 69 كيلومترًا، والذي كان الطريق الرئيس لعبور الحجاج الأوروبيين من الساحل الفلسطيني إلى المدينة المقدسة حين اشتدت المقاومة الإسلامية ضد الغزاة.
ولعبت قلعة غزة وحاميتها الصليبية دورًا كبيرا في إسقاط عسقلان عام 1153، التي كانت آخر الأملاك الفاطمية في بلاد الشام، وترتب على ذلك نتائج سياسية وعسكرية، حيث اكتملت بذلك السيادة الصليبية على كل مواني الساحل الشامي، وصارت القوى الإسلامية قوى برية حبيسة تحتاج الغزاة من أجل تصريف فائض منتجاتها الزراعية والصناعية، وبالتالي احتاجوا أعداءهم لذلك الأمر، ولذلك وُجدت علاقات سلمية بين الجانبين رغم استعار الحرب بينهما.
الإقطاع والفلاحين
ويذكر الدكتور علاء طه رزق، في دراسته «غزة من المنظور الاقتصادي والاجتماعي في عصر الحروب الصليبية»، أن الصليبيين كوّنوا أربع إمارات رئيسة، هي الرها سنة 1097، وأنطاكية 1098، والقدس 1099، وطرابلس 1109، وصارت غزة بعد الاستيلاء عليها جزءاً من التقسيم الإداري لمملكة بيت المقدس -ضمت اثنتي عشرة إقطاعية صغيرة- وذلك حتى حرب التحرير في أعقاب موقعة حطين سنة 583هـ/ 1187م، حيث تحولت فيما بعد إلى نيابة تابعة لدمشق ثم نيابة مستقة في زمن سلاطين المماليك.
ورغم قلة مصادر المياه في المناطق الجنوبية في فلسطين، ومن بينها بطبيعة الحال غزة، فإن هذه المناطق شهدت استقرارًا سكانيًا كثيفًا على امتداد الطرق العامة الحربية والتجارية، ولم يؤثر سلبًا على هذا الاستقرار سوى حركة الاستيطان الصليبي التي ظلت آثارها على غزة والمناطق المتاخمة في عسقلان ودير البلح والرملة وغيرها من البلاد الواقعة على امتداد طرق القوافل التجارية والحملات العسكرية، مما أحدث حالة من التخلخل الديمغرافي أدى إلى هجرة سكان غزة ونزوحهم إلى المناطق الشمالية للسُكنى والاستقرار، وبحثا عن مصادر العيش والرزق في مجتمع إسلامي.
وبحسب رزق، وُجد بغزة في زمن الاحتلال الصليبي قلعة عسكرية وكنيسة صغيرة وطاحونة ومخبز، وكلها تابعة للنظام الإقطاعي الصليبي، وكان لزامًا على الفلاحين دفع نسبة من الإنتاج للسيد الإقطاعي مقابل الطحن أو الخبز في طاحونة السيد أو مخبزه الذي يحتكرهما داخل المستعمرة.
ورغم هروب كثير من الفلاحين في غزة، وعدم الكفاية العددية للفلاحين الصليبيين في زمن الغارات الإسلامية المتكررة على المستوطنات الصليبية، فإن حرفة الزراعة ظلت النمط الاقتصادي الأساسي للسكان المحليين من المسلمين والمسيحيين، وظل الفلاحون حتى أواخر القرن الثاني عشر الميلادي يمثلون عصب الحياة الاقتصادية في المجتمع الصليبي، إذ إن الصليبيين عامة لم يرغبوا في الاستقرار في المناطق الريفية، وبالتالي فإنهم لم يستطيعوا تغيير البينة العرقية للسكان المحليين، إذ كان السيد الإقطاعي والفلاح الصليبي بعيدين عن النمط الحياتي السائد في مناطق الريف الفلسطيني بسبب إقامتهم في المدن أو القلاع الريفية المنعزلة، مما يجعلهم يشكلون نسقًا اجتماعيًا متميزًا داخل المحيط السكاني الإسلامي.
محكمة إقطاعية وتمييز عنصري
وبحسب رزق، عانى الفلاحون حالة من العبودية المقننة، أو الاضطهاد الاجتماعي والفقر المادي، وهو ما تعكسه أحوالهم المتردية التي بلغت حد «السخرة» واستخدامهم في أعمال خارج حدود الزراعة، فإذا هرب أحد الفلاحين من هذه الحياة القاسية، فإن القوانين كانت تعطي السيد الإقطاعي الحق في استعادته بالقوة ومحاكمته هو وزوجته.
ورغم ذلك، كان الفلاحون متميزون على غيرهم من أرباب الحرف والصنائع كالحدادين، وذلك بسبب كثرتهم العددية من ناحية، وحاجة المجتمع الصليبي إليهم بحكم دورهم في خدمة الاقتصاد الذي يقوم بالدرجة الأولى على أعمال الفلاحة.
غير أن هذا لا يمنع أن عامة السكان المحليين من مختلف المهن كانوا يعاملون قانونًا بطريقة عنصرية، من خلال مثول الجميع أمام محاكم إقطاعية صغيرة يرأسها السيد الإقطاعي في إطار ملكيته للأرض ومن عليها من البشر.
ومثل غيرهم من سكان مدن الاستيطان الصليبي، عانى سكان غزة من التمييز العنصري، الذي كان أهم مظاهره التفرقة بين السكان الأصليين والفلاحين الأوروبيين أمام القانون، حيث كان في غزة محكمة تختص بالنظر في المنازعات والدعاوى المرفوعة من الفرسان والتجار، وكل أبناء الطبقة الوسطى.
ويروي رزق، أن المحكمة كانت تُعقد ثلاثة أيام في الأسبوع (الإثنين والأربعاء والجمعة)، برئاسة رئيس هيئة المحكمة «الفيكونت»، ويساعده اثنا عشر مُحلّفًا من الأوروبيين، إضافة إلى سكرتير المحكمة الذي يقوم بتنظيم وإعداد الجلسات وتدوين الأحكام وغير ذلك من شؤون المحكمة، وأيضًا كان يوجد شخص يُعرف بالمحتسب، كما كانت توجد مجموعة من رجال الشرطة المسلمين لحفظ الأمن والنظام وتأمين المحكمة من الداخل والخارج، ويتلقون الأوامر مباشرة من رئيس المحكمة.
صناعة وتصدير
ورغم هذه الظروف المعاكسة، استطاع سكان غزة أن يحولوا الأرض إلى مصادر إنتاجية زراعية وصناعية وتجارية، بفضل القدرات الذاتية والمهارات الفردية والروح الجماعية، التي عوضت ما بخلت به الطبيعة وأفسدته الظروف العسكرية والسياسية والمناخية المناوئة، وتمثل ذلك في إقامتهم مشروعات صغيرة لاستصلاح الأراضي وحفظ مصادر المياه المحدودة، من خلال الأدوات والتركيبات المعدنية البسيطة، مما ساعد على زيادة منسوب الناتج الزرعي من ناحية، وتوفير حالة من الاستقرار النسبي للسكان من ناحية أخرى، ذكر رزق.
ففي ظل ندرة الأمطار وقلة مصادر المياه، تميزت غزة بإنتاج عدة محاصيل من أهمها القمح والشعير والكروم والرمان والزيتون والبلح، وغيرها من المحاصيل التي كانت تشغل مساحة من الأرض تمتد من غزة وما حولها إلى الداروم «دير البلح»، التي كانت من جملة الصادرات الغزوية في الفترة السابقة للاستيطان الصليبي في المناطق الجنوبية، ثم صارت من نصيب سكان المستوطنات من الصليبيين.
كما ازدهرت أنماط معينة من الصناعات في غزة، في إطار الحركة التجارية النشطة في المناطق الصليبية، والتي قامت على أكتاف الإيطاليين لمواجهة أنماط الاستهلاك المرتبطة بأحوال وعوائد الترف داخل المجتمعات الصليبية نتيجة زيادة الثروة، وبالتالي زيادة القوة الشرائية. وبحسب رزق، كانت غزة من أشهر المدن في إنتاج الصناعات الكتانية والزيتية التي تُصدر إلى كل مدن المملكة الصليبية.
استعادة غزة
ويذكر الدكتور حسين كاظم خيون، في دراسته «غزة ودورها في مقاومة الغزو الإفرنجي على بلاد الشام ومصر 491-690هـ/ 1097-1290م»، أن غزة كانت ضمن اهتمامات الأيوبيين لاسترجاعها من أيدي الفرنج، لذلك استمرت المحاولات المتكررة، وكان أولها عام 566هـ/ 1170م عندما شن صلاح الدين الأيوبي هجومًا مباغتًا ومفاجئًا على المعاقل الإفرنجية الواقعة إلى الجهة الجنوبية من مملكة بيت المقدس، شاملًا بذلك الدورام «دير البلح» وعسقلان والرملة وغزة.
واستطاع صلاح الدين الأيوبي الاستيلاء على أسفل غزة في نفس العام رغم ما بذله الصليبيون من مقاومة عديمة الجدوى أمام إصرار وتصميم صلاح الدين لإنجاد غزة. وبحسب خيون، أشارت مصادر تاريخية إلى أنه إثر هذه المعركة قام الفرنج بمذبحة ذهب ضحيتها عدد كبير من سكان المدينة من المسلمين.
أما قلعة غزة التي كانت بيد هيئة «فرسان المعبد»، فكانت من الحصانة الكبيرة مما جعلت صلاح الدين الأيوبي يفكر كثيرًا قبل المخاطرة بمهاجمتها، لذلك بقيت غزة تحت الاحتلال الصليبي حتى عام 583هـ/ 1187م، حيث تمكن صلاح الدين الأيوبي من إلحاق هزيمة كبيرة بالصليبيين في معركة حطين، وترتب على ذلك استرجاع الحصون واحد تلو الآخر، ومن بينها حصن غزة.
غير أن الإفرنج استعادوا غزة في زمن ريكاردوس قلب الأسد عام 587هـ/ 1191م، وبموجب الهدنة التي عُقدت بينه وبين صلاح الدين الأيوبي عام 588هـ/ 1192م كانت غزة من بين المناطق التي تنازل عنها الصليبيون للمسلمين.
وبعد ذلك، تعرض حصن غزة للخراب عام 592هـ/ 1195م على يد الملك العزيز عماد الدين أبو الفتح عثمان بن صلاح الدين الأيوبي، خوفًا من عودة الإفرنج إليه.
وفي عام 636هـ/ 1239م خرجت حملة صليبية لتأمين الطرف الجنوبي لمملكة بيت المقدس، قاصدة الحدود المصرية باتجاه غزة، وفي أثناء سيرهم نصبوا كمينًا لقافلة إسلامية تتحرك إزاء نهر الأردن في طريقها إلى دمشق واشتبكوا معهم، وكاد المسلمون ينتصرون في المعركة إلا أنهم ولوا الأدباء آخر الأمر، بعد أن تركوا في أيدي الصليبيين قطيعًا من الماشية والأغنام.
وفي العام نفسه عاود الصليبيون هجومهم على مدينة غزة واستولوا عليها، إلا أن الملك العادل سيف الدين أبي بكر بن الكامل وجه إليهم عسكرًا تمكن من هزيمتهم وأعادها في العام نفسه للملك الصالح صلاح الدين بن الملك المعظم صاحب الكرك.
وفي مصر، تقرر على الفور إرسال جيش مصري بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس، الذي تحرك من الدلتا إلى غزة، وعزم الإفرنج على مهاجمة الجيش المصري واتجهوا نحو غزة، إلا أنهم توقفوا بين التلال الرملية على ساحل البحر المتوسط بالقرب من غزة لينالوا قسطًا من الراحة، وفي هذه الأثناء أرسل بيبرس رُماته نحو التلال التي نزل بها الصليبيون بأسلحتهم الثقيلة، فأوقعوا من الصليبيين ما يزيد على ألف رجل ووقع في الأسر ستمائة آخرين، ونُقلوا إلى مصر، وتم إطلاق سراح هؤلاء الأسرى الذين وقوعوا في غزة مقابل إطلاق سراح فئة من الأسرى المسلمين الذين كانوا في حوزة الصليبيين.
وفي عام 643هـ/ 1244م حدثت في غزة معركة بين الجيش المصري بقيادة الأمير ركن الدين بيبرس بمساندة قوات من الخوارزمية، وبين الصليبيين الذين تحالف مهم الصالح إسماعيل نائب دمشق، إذ كان الصليبيون ينوون الاستيلاء على غزة باعتبارها ممرًا حيويًا بين الشام ومصر، وتمكن المصريون وحلفاؤهم من الخوارزمية من تحقيق الانتصار والسيطرة على غزة والسواحل والقدس.