غزة وبنت جبيل وأخواتهما: مدن الألم والصمود والانتصار
مرّ 50 يومًا على اندلاع معركة طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023م، التي لا نُبالغ أبدًا في اعتبارها النقلة الأجرأ والأخطر في تاريخ المقاومة الفلسطينية والعربية ضد الاحتلال الإسرائيلي، الذي بنى سيطرته وهيمنته في الشرق الأوسط على الردع الذي يجعل خصومَه لا يجرؤون على مجرَّد التفكير في مهاجمته واجتياح حدود الأرض المحتلة.
جاء رد العدو وحشيًا -بغطاءٍ أمريكي وغربي وعربي- وتحوّل إلى ما يشبه الإبادة الجماعية لسكان قطاع غزة، والإمعان في تدمير أحياء مدينة غزة وأخواتها، وتسوية الكثير منها بالأرض هو محاولة إجرامية من العدو لاستعادة طيف هذا الردع الذاهب.
وتاريخُ الصراع العربي-الإسرائيلي يحتقن بقصص عديد من المدن والبلدات العربية التي حاربَتْ ضد الاجتياح الإسرائيلي، ودفعت أثمانًا باهظة لذلك، ودفَّعت بعضَها للعدو، وكان هذا الصمودُ المكلِّف ملهمًا بكل أملٍ رغم الألم. ومستلهمينَ من غزة وصمودها العظيم وتثبتها بالوجود والمعنى، سنتذكربعضًا من تلك المدن العربية الصامدة.
السويس والإسماعيلية 1967-1973م: انتزاع الانتصار من بين مخالب الهزيمة
في باب «ست سنين عجاف» في مذكراته عن حرب أكتوبر 1973م، يروي الفريق الجمسي – قائد عمليات الجيش المصري في أكتوبر – قصة إغراق المدمرة الإسرائيلية إيلات التي انتهكت المياه الإقليمية المصرية قرب بورسعيد مرات عديدة. في الحادي والعشرين من أكتوبر 1967م، وبعد 4 أشهر من هزيمة 1967م الكبرى، واحتلال سيناء، خرج لنشان عسكريّان مصريان من قاعدة بورسعيد البحرية، وأطلقا صاروخيْن بحر-بحر ضد المدمرة، التي اشتعلت فيها النيران، ثم غرقت مساء هذا اليوم، وقُتِل على الأقل 47 بحارًا، وأصيب 100، من بينِ قرابة المائتيْن من طاقمها.
كالعادة، جاء الرد العقابي الإسرائيلي ضد المناطق المدنية، فدمر القصف الجوي والمدفعي معامل ومستودعات البترول في مدينة السويس، وامتدَّ القصف الوحشي إلى الأحياء السكنية في السويس والإسماعيلية، لتضطر الحكومة المصرية إلى تهجير أكثر من مليون مواطن من سكان مدن القناة إلى الداخل المصري، وبقي بضعة آلاف من المواطنين فحسب في السويس والإسماعيلية.
بعد 6 أعوام، تبادر مصر بالهجوم، وعبور قناة السويس، في السادس من أكتوبر، وترد إسرائيل بهجوم مضاد شهير هو ثغرة الدفرسوار، التي مكَّنت قوات العدو من العبور إلى الضفة الغربية للقناة، والعمل على تطويق الجيشيْن المصريين وقطع إمداداتهما أملاً في تحويل النصر المصري الأولي إلى هزيمة. اندفعت قوات الجنرال الإسرائيلي شارون صوب الإسماعيلية لتطويق الجيش الثاني، وقوامها لواءان مدرَّعان ولواء مظلي، لكنها قابلت دفاعًا قويًا من بعض وحدات المشاة والمظليين والصاعقة المصرية على مدار أيام، وقتلوا 11 مظليًا إسرائيليًا حاولوا احتلال قرية سرابيوم قرب الإسماعيلية.
شنت الطائرات الإسرائيلية غارات وحشية ضد الإسماعيلية، استخدمت فيها قنابل النابالم الحارقة، ثم تقدمت قوات العدو يوم 21 أكتوبر في هجوم شامل لاحتلال الإسماعيلية، لكن فجرت القوات المصرية أحد السدود على ترعة الإسماعيلية، فأغرقت مساحاتٍ واسعة وعطلت حركة الدبابات الإسرائيلية، ووقع المظليون الإسرائيليون في كمين كبير في قرية أبو عطوة قرب الإسماعيلية وقتل وأصيب العشرات منهم، وبحلول 22 أكتوبر اضطرت قوات الغزو للتمركز على مسافة 10 كم جنوب الإسماعيلية، وفشل مخطط تطويق الجيش الثاني الميداني. لكن جنوبًا، نجح العدو في التوغل وصولًا إلى طريق القاهرة السويس، ثم تجاوزه إلى ميناء الأدبية جنوب السويس، وأصبح الجيش الثالث الميداني محاصرًا، وبقي للعدو احتلال مدينة السويس نفسها ليحقق نصرًا معنويًا كبيرًا يتناسب مع سمعة تلك المدينة عالميًا.
اقرأ أيضًا: قصة معركة الإسماعيلية التي منعت تحوُّل أكتوبر لنكسة
وهنا: حين حدث انهيارٌ عصبيٌّ في غرفة عمليات حرب أكتوبر
في مقالٍ سابق لنا بعنوان: «الثغرة: الدم المصري حاول إصلاح ما أفسده السادات» أشرنا إلى بطولات أهل ومقاتلي مدينة السويس المحاصَرين في مواجهة قوات الاحتلال الإسرائيلية يوم 24 أكتوبر 1973م، عندما توغلت في المدينة شبه المدمرة وشبه الخالية، بعد قصف جوي ومدفعي كثيف، لكن كانت كمائن السويس التي نفذتها وحدات من الجيش مع قوات المقاومة الشعبية بالانتظار، ويذكر الفريق الشاذلي في مذكراته أن العدو قد خسر على الأقل في ذلك اليوم مائة قتيل، ومئات الجرحى، وعشرات الدبابات والمصفحات، واضطر للانسحاب من السويس والتمركز خارجها، والقصف الانتقامي لها موقعًا عشرات الشهداء ومعظمهم من المدينة، ولم ينجحْ في احتلال السويس حتى وقف إطلاق النار النهائي في يوم 29 أكتوبر 1973م.
بيروت 1982م: عنقاء العواصم العربية
شهدت بيروت صيفًا مُحرِقًا في عام 1982م، فبعد 7 سنوات من الحرب الأهلية التي قسمتِ المدينة إلى شطريْن، وألحقت بها الكثير من التخريب، جاء دور الاجتياح الإسرائيلي. في يونيو 1982م، اقتحمت الحدود اللبنانية ألف دبابة إسرائيلية و أكثر من 76 ألف جندي، وهي قوة حربية كبيرة تقترب من عدد القوات التي حاربتْ مصر وسوريا معًا عام 1973م.
في أقل من أسبوع، اجتاح العدو بنجاح معظم لبنان الجنوبي، وألحق بالقوات الجوية السورية والدفاع الجوي في منطقة البقاع هزيمة ثقيلة أخرجتها من المعركة بشكلٍ شبه تام، وتقدم شمالًا ليحاصر بيروت الغربية، التي أمطرها بعشرات الآلاف من الصواريخ والقذائف من الطائرات والسفن الحربية والمدفعية، وقتل وأصيب عشرات الآلاف من اللبنانيين والفلسطينيين فيها، ومع ذلك صمدت بيروت الغربية لأكثر من شهرين، وألحقت بالغزاة خسائر جسيمة في معارك عديدة خلَّدها تاريخ النضال العربي، مثل معركة خلدة، ومعركة المتحف.
لكن، ومع الضغط الإنساني المؤلم على بيروت وحصارها وتجويعها، استسلم ياسر عرفات للضغوط العربية والدولية، وقرر الخروج من بيروت مع الآلاف من مقاتلي منظمة التحرير الفلسطينية في أغسطس 1982م، حفاظًا على ما بقي من المدينة التي احتضنت نضال الفلسطينيين لأعوام، وبشرط ألا يدخلها الإسرائيليون، وأن يحمي المجتمع الدولي مخيمات الفلسطينيين.
لكن بعد أسابيع قليلة، اغتيل الرئيس اللبناني الجديد بشير الجميل الذي انتُخب بحراسة دبابات الاحتلال، وانتقم العدو بتسهيل حدوث مذبحة صبرا وشاتيلا التي راح ضحيتها 3 آلاف مدني فلسطيني، واحتلّ الإسرائيليون بيروت الغربية المثخنة بالجراح، لكن انتفض ضدهم المئات من مقاتلي القوى الوطنية اللبنانية من الشيوعيين واليسار والقوميين، وألحقوا خسائر جسيمة بالقوات الإسرائيلية، التي اضطرت بعد أيام إلى الانسحاب من بيروت الغربية.
اقرأ أيضًا: بيروت 1982: حين استجدى «الإسرائيليون» الانسحاب
ورغم نجاح العدو سياسيًا في الشهور التالية في فرض معاهدة سلام رسمية مع لبنان في مايو 1983م، فإن ضربات المقاومة اللبنانية ضده لم تتوقف، وظهرت نواة المقاومة الإسلامية التي ستشكل في ما بعد حزب الله، الذي سيواصل استنزاف العدو حتى يجبره على الانسحاب نهائيًا من لبنان عام 2000م. ونشاهد الآن في عام 2023م، وفي أثناء حرب غزة الدائرة، كيف فرض حزب الله على العدو الإسرائيلي معادلة ردع ندية في الاشتباكات المتصاعدة إسنادًا لغزة، وأصبح قصف العدو لبيروت يعني قصفًا مماثلًا لتل أبيب.
اقرأ أيضًا: بشير الجميل و50 كجم TNT غيرت الشرق الأوسط
بنت جبيل 2006م: كمينٌ لا يُنسى
منذ الاحتلال الإسرائيلي الطويل لجنوبي لبنان 1982م-2000م، حظيت بلدة بنت جبيل الواقعة على مسافة أقل من 10 كيلومترات من حدود لبنان مع فلسطين المحتلة، بلقب عاصمة المقاومة والتحرير، لاسيّما وقد ألقى في ساحتها حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله، خطابَ النصر بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000م من جنوب لبنان، الذي وصف فيه إسرائيل بأنَّها أوهن من بيت العنكبوت. وقد أكَّدت المدينة استحقاقَها لهذا اللقب في حرب تموز/يوليو 2006م، عندما شنَّت إسرائيل حربًا واسعة ضد لبنان على مدار 34 يومًا، انتقامًا من عملية الوعد الصادق التي شنها مقاتلو حزب الله وقتلوا 8 جنود إسرائيليين وأسروا اثنين.
مثَّلت بنت جبيل التي لا يزيد عدد سكانها عن 20 ألفًا، هدفًا رمزيًا وتكتيكيًا مهمًا للاحتلال الإسرائيلي آنذاك، فتعرضت لقصفٍ وحشي على مدار 11 يومًا، أحال معظم أحيائها إلى أطلال، ثم جاء التوغل البري فيها على مدار أسبوع حتى نهاية يوليو، الذي واجهتْهُ مقاومة شرسة ألحقت بالعدو خسائر بشرية فادحة. تنقل صحيفة الجارديان البريطانية قصة أحد الكمائن الذي تعرضت له القوات الإسرائيلية في أطراف بنت جبيل، برواية بعض الناجين، عندما انهالت الطلقاتُ الرشاشة وقذائف الآر بي جي على سريةٍ إسرائيلية، واندلع اشتباك كبير وسط صرخات الجنود المصابين، الذين سقط ثمانية منهم قتلى في ساعاتٍ قليلة، ولم تنجح قوات الإخلاء الإسرائيلية في الوصول إلى الناجين والمصابين قبل سبع ساعات، وتحت غطاءٍ كثيف من القصف الجوي.
ولم يقتصر الدفاع عن مدينة بنت جبيل على قوات حزب الله، إذ تنقل وكالة سبوتنيك الروسية في لقاءاتٍ مع بعض السكان الذين عاصروا تلك الحرب أن العشرات من أهل المدينة رفضوا مغادرتها وانضموا لمقاتلي الحزب في دفاعهم عنها، ومنهم مقاتلون سابقون في الحزب الشيوعي اللبناني. وذكر أهل الشهود أنه قد استُشهد في الدفاع عن بنت جبيل 18 مقاومًا و مثلهم من سكان المدينة.
وتذكر صحيفة جيروزاليم بوست الإسرائيلية أن محاولات إتمام تطويق واحتلال بنت جبيل وتدمير البنية التحتية لحزب الله فيها قد استمرت قرابة 20 يومًا، من 24 يوليو حتى 12 أغسطس. يقص أحد ضباط الاحتياط الإسرائيليين لتلك الصحيفة مشاهد خطيرة أثناء توجه وحدته للمشاركة في معركة بنت جبيل، فبعد أقل من كيلومتر واحد من التوغل، تعرضوا لقصفٍ بقذائف الهاون، ثم في منطقة أخرى انهال عليهم ما يقارب 20 قذيفة مضادة للدروع. وفي داخل بنت جبيل التي يصفها بأنها كانت مدينة أشباح مدمَّرة.
يروي الضابط كيف نجا بأعجوبة هو واثنان من الجنود من قذيفة استهدفت غرفةً كانوا يتحصَّنون بها، وكيف في أحد الأيام هرعت وحدته لنجدة سرية من لواء جولاني تعرضت لهجومٍ مباغت أدى إلى مقتل 7 منهم وإصابة 30. وكان مقاتلو المقاومة يتحركون في خفاء وينقضون على حين غرة، مستفيدين من شبكات الخنادق والأنفاق أسفل البيوت والشوارع.
بعد أكثر من شهر على اندلاع الحرب، اضطرّ العدو للانسحاب من كافة مناطق جنوبي لبنان بما فيها بنت جبيل، وجرت بعد عاميْن من الحرب صفقة تبادل أعاد حزب الله بموجبها رفات الجندييْن اللذيْن كان قد أسرهما، مقابل استعادة 5 أسرى لبنانيين من بينهم سمير القنطار عميد الأسرى اللبنانيين آنذاك، والذي قضى قرابة 30 عامًا في سجون إسرائيل، وكذلك أعادت إسرائيل رفات 9 من مقاتلي حزب الله، ورفات 200 من المقاتلين اللبنانيين والفلسطينيين كان بحوزتها. وخلال الأعوام التالية للحرب أعيد بناء بنت جبيل، وكافة المناطق اللبنانية التي دمّرها القصف الإسرائيلي.
ومن اللطائف، صورة نشرها حساب أرشيف لبنان على موقع إكس خلال الأيام الماضية، يظهر فيها ضابطان إسرائيليَّان، أحدهما قتِل في بنت جبيل إبان الاجتياح البري الإسرائيلي لجنوب لبنان في حرب تموز 2006م، بينما قُتل الآخر في بيت حانون شمال شرقي قطاع غزة في الاجتياح البري الحالي لغزة نوفمبر 2023م.
غزة .. وما أدراكَ ما غزَّة!
أما قصة غزة التي نشهدُ أخطر وأعظم فصولها هذه الأيام، فلم يسجل تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي مثلها، وليس هذا كلامًا إنشائيًا عاطفيًا، بل هو تقريرٌ تاريخي. لم تتعرض مدينة عربية في تاريخ هذا الصراع -بل وفي التاريخ البشري الحديث عمومًا- لحصار جزئيٍّ أو كليٍّ مدته 16 عامًا، وتخلَّله 5 حروب كبرى، وعشرات التصعيدات العسكرية، ارتقى فيها الآلاف من أهل المدينة ومقاوميها شهداء، وتعرّضت أحياؤهم ومرافقهم للتدمير مراتٍ عديدة، ومع كل هذا، لا تسقط تلك المدينة، رغمَ أنَّها لا تتمتع بظهيرٍ مساندٍ حقيقي يمدها بالسلاح وبمختلف أشكال الدعم، ويمنح مجالًا حيويًا واسعًا لتدريب مقاتليها ومناوراتهم. تصمد غزة وتتحمل، وتصنع ما استطاعت من قوةٍ ومن رباط الخيل، في أعماق أرضها، بما توافر من مثقال ذرة من دعم، وتبادر هي بتنفيذ هجومٍ نوعي غير مسبوق ضد عدوها هو هجوم طوفان الأقصى.
اقرأ أيضًا: طوفان الأقصى: دفاعًا عن الخطأ الإستراتيجي للمقاومة
ونضالُ غزة من أجل فلسطين كلها لا يقتصر على ما نشاهده الآن، وما قاستْه في سنوات الحصار، إنما بدأ مبكرًا قبل 7 عقود، فغزة التي استقبلت عام 1948م أكثر من مائتيْ ألف لاجئ شرّدتهم مذابح العصابات الصهيونية من فلسطين المحتلة، وكان عدد سكانها آنذاك 80 ألفًا فحسب، قد احتضنت نواة العمليات الفدائية ضد المستوطنات والمواقع الإسرائيلية المحاذية لها، وأقدم العدو على تدفيعها أثمانًا باهظة بالمذابح، مثل مذبحة البريج التي ارتقى فيها خمسون مدنيًا.
اقرأ أيضًا: الموريسكيون في غزة .. حتى لا تسقط الأندلس مجدَّدًا
ثم أجهضت غزة في هبَّة مارس 1955م مشروع توطين اللاجئين فيها في سيناء الذي تواطأتْ عليه حكومة عبد الناصر – كانت غزة آنذاك خاضعة للإدارة المصرية – مع هيئة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأنروا) بدعم أمريكي سخيّ بلغ 30 مليون دولار. من بيت حانون شمالًا إلى رفح جنوبًا، وتحت شعار (لا توطين ولا إسكان .. يا عملاء الأمريكان !) اندلعت مظاهرات عارمة في الأول من مارس 1955 بعد يوم واحد من هجوم إسرائيلي وحشي راح ضحيته العشرات من الجنود المصريين في غزة، واجهت الشرطة المصرية المظاهرات بالقمع، وسقط شهيد ومصابون، فأحرق المتظاهرون السيارات العسكرية المصرية، وكذلك هاجموا بعض مقرات الأنروا، واستمرت المظاهرات لأيام، ولجأت السلطات المصرية إلى استدعاء الجيش لقمع التظاهرات واعتقال رموز الانتفاضة، وسُجن بعضهم في القاهرة حتى عام 1957م، لكن تراجعت حكومة عبد الناصر عن مخططات التهجير، وبدأت انتقامًا من السياسة العدوانية الإسرائيلية إلى تشكيل جماعات فدائية في غزة، شنّت عمليات انتقامية ضد الإسرائيليين.
وفي عام 1987م، كانت غزة، وبالتحديد مخيّم جباليا، هي مهد الانتفاضة الفلسطينية الأولى، وفيها انبثقت من حاضنة غزة الشعبية نواة حركة المقاومة الإسلامية حماس، وجناحها العسكري كتائب القسام، ورموزها الأوائل مثل الشهيد عماد عقل ابن جباليا، والشهيد يحيى عياش الذي اغتيلَ في بيت لاهيا. وقدمت غزة مئات الشهداء في تلك الانتفاضة، وفي الصراع الذي تلاها لإجهاض مشروع أوسلو لتسوية القضية الفلسطينية.
وفي 14 فبراير 2002م، فجرت غزة أول دبابة ميركافا إسرائيلية في الأرض المحتلة بقنبلة زنتها 80 كجم من المتفجرات صنعها الشهيد المقاوم جمال أبو سمهدانة وأحد رفاقه في تنظيم ألوية الناصر صلاح الدين. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2012م، في أثناء الحرب التي اندلعت بعد اغتيال إسرائيل لنائب قائد كتائب القسام الشهيد أحمد الجعبري، نجحت غزة للمرة الأولى في تاريخ الصراع في استهداف عاصمة الكيان تل أبيب للمرة الأولى بصواريخ المقاومة، وكان هذا نقلةً استراتيجية ورمزية كبيرة في الصراع.
وهاهي غزة اليوم تقدم أكثر من 20 ألف شهيد في أقل من شهرين، وتتعرض لحملة إبادة انتقامية، لكي لا تموت قضية فلسطين، ولكي يتحرر أسرى شعبها وجلُّهم من القدس والضفة الغربية، في مشهد تضحية غير مسبوق وغير معقول في تاريخ الصراع.