رواية «غـارب»: استعادة الأندلس على صهوة جوادٍ أعمى
يبدو أن ساحة الرواية التاريخية لا زالت تعد بالكثير، المدهش والمثير للإعجاب، وربما التأمل أيضًا، أنه تاريخٌ يبدو معروفًا أو مألوفًا إلى حدٍ كبير، إذ يتردد ذكره كثيرًا في الأدبيات والكتابات العربية، فنحن على موعدٍ جديد مرة أخرى مع تاريخ الأندلس ولكن بطريقةٍ أخرى، وعبر زاوية جديدة ومن خلال تفاصيل مختلفة كليًا عمّا ألفناه وعرفناه.
هذا هو ما يقدمه الروائي «محمد عبد القهّار» بمهارةٍ واقتدار في روايته الثانية «غـارب»، الصادرة عن دار مدارات للأبحاث والنشر منذ عامٍ مضى، والتي بدا أنها لم تلفت نظر الكثيرين منذ ذلك الحين، وربما يعود ذلك في الأساس إلى أن الرواية كبيرة الحجم (نحو 450 صفحة) غزيرة التفاصيل، تحتاج إلى صبرٍ وأناةٍ في قراءتها وتناولها، وربما يعود أيضًا لأن كاتبها بعيدٌ إلى حدٍ ما عن دوائر النقاد والمثقفين.
والرواية كبيرة وثقيلة بالفعل، ليس فقط لعدد صفحاتها، ولكن لكونها تزخر بالمعلومات والتفاصيل والأحداث المستقاة من بطون كتب التاريخ، ولكنها مصاغة كلها في قالب روائي شديد التماسك والإتقان، مع احتوائها أيضًا على قدرٍ كبير من إعمال الخيال وإتقان نسج وتصوير عالم «الأندلس» في تلك الفترة الزمنية العصيبة، حيث أواخر الحكم الإسلامي والصراعات والحروب التي دارت هناك، ولكن القارئ يشعر أنه يعيش بين ظهرانيهم يمشي في شوارعهم ويشم رائحة طعامهم.
اقرأ أيضًا:حصن التراب من ضيق الميلودراما إلى رحابة التاريخ
تتناول الرواية سيرة حياة أحد فرسان الأندلس «موسى بن أبي الغسان» الذي يُعرّف في كتب التاريخ بأنه «فارس الأندلس الأخير»، والذي قاد جيوش المسلمين قبيل سقوط «غرناطة»، ولعل البراعة تكمن بدايةً في اختيار هذه الشخصية، والعودة إلى أصولها وجذورها وحياتها للدوران حولها وجعله محور الرواية، وذلك رغم قلة المصادر التاريخية التي تتحدث عن تفاصيل حياته.
وربما يكون هذا ما حفّز الكاتب ابتداءً لخوص مغامرة الكتابة الروائية عنه. ولكنه إذ يتناول سيرة هذا الفارس الاستثنائي لا يتوقف لاستعراض حياته بشكل تقريري أو جامد، بل يحمل معه شروط الكتابة الروائية وقدرات السرد الواسعة، فنجده يستعرض حياته بطريقة غير تقليدية، ومن خلال الانتقال المحكم في السرد بين ضمير المتكلم «أنا»، وضمير المخاطب «أنت»، وضمير الغائب «هو».
كما يشير في بدايات المقاطع لكل فصلٍ من فصول الرواية، التي قسّمها على شهور السنة، وبدأ باستخدامه تقنية «الرسالة» الطويلة المفصّلة التي يتركها الأب «موسى» لابنه «عبد الملك»، ويحكي له فيها تاريخ حياته كلها، يتقاطع مع ذلك المقاطع التي يتحدث فيها الرواي العليم (هو) عن مشاهد وأحداث ومواقف يمر بها أبطال الرواية المختلفون، يلي ذلك المقاطع التي يتحدث فيها الراوي بضمير المخاطب (أنت) فيعرض تفاصيل حالته النفسية وصراعه الداخلي الخاص بين شهوات نفسه وطموحه الخاص يأتي كل ذلك بشكلٍ معبّر شديد التكثيف.
وهكذا كانت تلك الشخصية معادلاً موضوعيًا مناسبًا للفارس المسلم كما يراه «عبد القهّار»، وعلى نحوٍ مما ترويه عدد من المصادر التاريخية بشكلٍ عام، فخلع عليه عددا من صفات الفرسان المثالية، هذا بالإضافة إلى رحلته في «طلب العلم» بنوعيه الدنيوي والشرعي، ونرى هنا مفاضلة ترد كثيرًا في الكتب التراثية بين العلم الشرعي (علوم الفقه والحديث وحفظ القرآن الكريم وتجويده والسيرة) والعلم الدنيوي (من طب وفلكٍ وحساب وغيرها).
فيفضّل موسى بن أبي الغسّان الجانب الأوّل على الأخير بالطبع، بل يحذِّر ابنه من «الفلسفة» و«علوم الكلام» التي لا يراها إلا مضيعة للوقت والعقيدة وتورد صاحبها المهالك! ولا يكتفي بذلك بل يذهب به إلى الحديث عن علم الاجتماع و «ابن خلدون»، ويعرج على الحب وفعله في النفوس في حديثٍ يقارب كثيرًا ما يورده ابن حزمٍ في «طوق الحمامة» وغيره.
يلاحظ القارئ أيضًا عناية «عبد القهّار» بتفاصيل الحياة الأندلسية، ليس فقط في ذكر طعامهم وشرابهم وطريقة معيشتهم، ولكن أيضًا في لغة الحوار «العامية» التي يعتمدها أساسًا في الرواية، والتي تعد انتصارًا للهجة العامية داخل عملٍ تاريخي يحكي فترة عربية قديمة، يظن البعض أن كلام أهلها كله يكون بالفصحى، ولكن الحوار عند عبد القهار أكثر واقعية وصدقًا، مستوحى من معلوماته التي جمعها حول لغة أهل تلك البلاد وذلك الزمن:
تراوح الرواية بشكلٍ عام بين عدة مستويات لغوية، إذ نجد فيها اللغة الشاعرية التي تصل إلى أقصى درجاتها في المقاطع المقدمة بكلمة «أنت» وبين اللغة التوثيقية التاريخية التي تحكي طرفًا من الحروب والدسائس والمؤامرات التي كانت تحاك في تلك الفترة العصيبة من تاريخ الأندلس، وبين اللغة الحيادية التي يعرض فيها الراوي أحوال الناس ومعايشها.
والكاتب إذ يفعل ذلك يبدو حريصًا في كل مستوى من المستويات على استخدام لغة العصر ومفردات أهل ذلك الزمان، وسيبدو ذلك للقارئ جليًا في عدد من المواضع، ولا شك أن انتقال اللغة في الرواية بين تلك المستويات أيضًا يمنحها الكثير من الحيويّة والثراء في الوقت نفسه.
يدرك القارئ بسهولة أن كاتب الرواية قد غاص أيامًا وشهورًا في بطون كتب التاريخ الأندلسي، حتى تمكّن تمامًا من تمثّل تلك الفترة الزمنية والتعبير عنها بهذا القدر من الثراء والتفصيل، وأنه لم يتوقف فقط عند حادثةٍ أو اثنتين مما دار في «الأندلس» و«بلاد المغرب» بشكلٍ عام.
واستطاع أن يلتقط من هذا التاريخ الثري المليء بالتفاصيل عددًا من المواقف والأحداث الكاشفة بوضوح لروح هذا العصر وما كان يدور فيه، سواء كان ذلك في حياتهم السياسية أو الاجتماعية وشئونهم الداخلية. تدور الرواية بين عددٍ كبير من تلك المواقف والأحداث، وبين عددٍ كبير من الشخصيات، وتصب في النهاية كلها عند ذلك الفارس/البطل مما يجعل القارئ متمثلاً موقفه، مدركًا طبيعة حياته في نهاية المطاف.
لا يتعرّف القارئ على «غارب» إلا بعد مائة وخمسين صفحة من الرواية، ليكتشف أنه حصان «موسى» الذي يُصاب بالعمى، ويقرر ذلك الفارس ألا يتخلّى عنه، وأن يستمر في صولاته وجولاته على ظهر ذلك الجواد الأعمى، مما يعطي الرواية بعدًا رمزيًا آخر حتى لو لم يتكئ عليه الراوي كثيرًا، ولكنه لا شك يشير من طرفٍ خفي إلى أن ذلك الفارس سيتجه إلى نهايته مهما حاول.
وهكذا استطاع «محمد عبد القهار» أن يجعل من «موسى بن أبي الغسّان» شاهدًا على ذلك العصر بكل تفاصيله، وأن يحمله كل أفكاره وتصوراته للفارس المسلم كما يراه، وفي النهاية يبقى هو ذلك الفارس المهزوم نموذجًا لكل عربي حالم بالتغيير، سواء كان ذلك قبيل سقوط غرناطة أو حتى بعد ثوراتنا العربية الأخيرة!