Game of Thrones ظاهرة إبداعية جديدة
لم يعد مسلسل لعبة العروش مجرد مسلسل مميز نسبة مشاهدته مرتفعة فحسب، بل تحول لما يشبه ظاهرة فنية عالمية. تكررت مثل هذه الظاهرة العالمية في الماضي، أو السلسلة الفنية المقتبسة من رواية ذات صيت عالمي متجاوز للدول صاحبة تلك الثقافة، مثل هاري بوتر أو سيد الخواتم؛ ولكن ما يميز لعبة العروش أنه أصبح ظاهرة أشد عنفًا وأشد جماهيرية وبالتأكيد أشد إثارة لحيرة لهذه الجماهير.
مسلسل لعبة العروش هو عن رواية A Song of Ice and Fire تأليف الكاتب الأمريكي جورج مارتن. اسم المسلسل Game of Thrones هو عنوان الرواية الأولى. تدور فكرة المسلسل عن خمس ممالك يحدث بينها صراع على السيطرة الكاملة على هذه الممالك، وفي أثناء هذا الصراع تخوض الممالك الخمس المنشغلة بحربهم الداخلية حربا خارجية كبيرة تهدد بقاء الممالك الخمس؛ وعلى جانب آخر نتيجة صراع سابق في الممالك هربت إحدى الباقايات من هذا الصراع لتكون قوتها الخاصة لاسترداد الممالك باسم عائلتها.
يلجأ البعض لتفسير الشهرة الصادمة لمسلسل لعبة العروش تفسيرات لا تعتمد علي أي أساس من الصحة، فوصف البعض المسلسل بأنه استثمار جنسي ناجح من شركة HBO كعادتها في تسويق وجمع الأموال من عروض الجنس، وأيضا أنه مسلسل ذكروي يأتي على قيمة الأنثى؛ قال أحدهم هذه الحجة والحكم من مجرد مشاهدة أربعين دقيقة في المسلسل.
الحقيقة أن هذه التهمة ربما تكون صحيحة بشكل جزئي، فبالتأكيد هناك جانب جنسي طاغي تريد استثماره HBO في المسلسل، وربما يمتلك الكاتب بعض الرؤى الذكورية (لم أر لها دليلا واضحا) ولكن هذا لا يعني أن هذا يمثل شيئا كبيرا في المسلسل. بالتأكيد جماهيرية لعبة العروش جزء من تكوينها المحتوى الجنسي، وجزء من تكوينها الإنتاج الضخم، ولكن ربما هناك أسباب أعمق لفهم هذه الظاهرة وإعطائها حقها، حيث أرى أن عدم دراسة أسباب جماهيرية المسلسل هي تقليل من حقه. ومن الجوانب الفنية التي ربما تؤثر في صناعة الدراما والروايات المثيرة في المستقبل، ينطلق جورج مارتن كاتب الرواية من صدمتين رئيسيتين: صدمة القيم والعادات، وصدمة تقنية في كتابة السيناريو. سنتحدث بشبه تفصيل عن هاتين الصدمتين في السطور القادمة.
صدمة القيم والعادات
أغنية الجليد والنار ليست مجرد رواية (والكلام يعود بالتالي علي المسلسل المقتبس منها) تعتمد علي إثارة المشاهد جنسيًا لتحقيق أرباح ونسب مبيعات. الجنس محرك أساسي وعامل في بناء القصة وتطورها كما الحياة. يلعب مارتن علي صدمة أي مجتمع في العالم من روايته مهما ادعى التحرر وتقبل جميع الأفكار، فنمط العلاقات الجنسية في المسلسل خارج الأطر التقليدية حتي لأكثر المجتمعات تحررا. فالرجل في السويد سيكون رافضا لنمط جنسي ما في المسلسل، بالتأكيد أقل من رفض المشاهد العربي، ولكنه سيرفض بعض الأشياء وسيعتبرها من المحرمات، سواء الدينية إذا كان مؤمنا، أو الإنسانية أو الطبيعية إذا كان غير ذلك.
ربما هذا الأمر ليس غريبا إلى حد كبير، ولكن الأغرب والأروع من مارتن هو تحديه النفسي للمشاهد، فهو يضع كل تلك العلاقات المرفوضة (المثلية – المحارم) في إطار يجعلها قيد التفكير النسبي وقيد تعاطف المشاهد. فالمشاهد برغم كراهيته لسيرسي باعتبارها مثالا جيدا للملكة الظالمة، سيحترم علاقتها بأخيها جيمي لانستر. قد يتقزز المٌشاهد الرافض للمثلية من مشاهد المثلية ولكنه سيحترم أحد المثليين حتى إن لم يحترم فكرة بقاء المشاهد منجذبا للمسلسل وأحد الأسباب الرئيسية لانجذابه هي هذه الجوانب التي ربما يرفضها. مارتن يلعب على الجوانب المظلمة، ستتقبلها حتي إذا بدوت رافضا لها، بل السؤال الأهم الذي يجب علي المشاهد الإجابة إجابة صادقة بينه وبين نفسه لمنع الحرج حتى من إخراج الأفكار: هل كنت ستحب لعبة العروش بنفس الدرجة لو فقد تكوينة الغريب وعلاقاته الخارجة عن تقبلاتك؟ إجابتك الصادقة ستحدد نسبة نجاح مارتن.
صدمة السيناريو
في طفولة مارتن وأثناء قراءته لرواية سيد الخواتم كأي طفل أمريكي، وفي نهاية الجزء الأول (في رفقة الخاتم) عندما مات جاندلف الساحر الحكيم القادر علي مواجهة سارومان، تأثر مارتن بتلك النهاية تأثرا شديدا، وكان تأثره الأكبر عندما عاد جاندلف في الجزء الثاني ووجد أن هذا شيء غير مقنع، ولكنه اقتنع بعد ذلك أن العودة من الموت تكون مؤقتة ولا يكون الشخص ذاته. لحسن الحظ ذلك الطفل الذي تأثر بموت جاندلف ساهم في صنع تغيير في أسلوب السيناريو المتعارف عليه، فلأول مرة نرى البطل يموت في مشهد عادي. الحلقة التاسعة من الموسم الأول عندما قتل نيد ستارك بسهولة، لم يعتقد المشاهدون أن هذا المشهد عادي أو مألوف، ظلوا ينتظرون للحلقة التالية وهم موقنون أن هناك سهما سيسقط القاتل وهو يقتل نيد ستارك؛ ذلك السهم لم يأت، وانتظره البعض لمدة عام حتى يأتي الموسم الثاني ولم يأت المنقذ لنيد ستارك. مات نيد ستارك الشخصية المحورية في المسلسل، ولم ينته الأمر عند نيد ستارك. ليس الهدف من نيد ستارك هو مجرد استعراض بقتل البطل، بل يقوم على فكرة أن العنصر المحرك للأحداث والذي تظن أن السيناريو لن يستمر بدونه (بشكل تقني بحت) يقتل وينتهي دوره من المسلس.
برغم خيالية المسلسل إلا أنه اقترب خطوة من ميكانيزم الحياة؛ الحياة التي يقتل فيها الأبطال في مجدهم أو في أثناء تكون مجدهم أو حتي قبل بداية تكونهم. خرج مارتن عن المألوف وقتل البطل كما يقتل المئات من الشخصيات الهامشية في المعارك.
مع عدم وجود تيمات جديدة في الكتابة بصفة عامة، وربما نظن أن كل التيمات الإنسانية تم التوصل إليها، وأي جديد يكتب ما هو إلا إعادة لإحدى التيمات أو بعضها. فدور جورج مارتن الإبداعي هو توسيع الأفق الإبداعي للكُتّاب. بتلك الصدمة وموت البطل بل عدة أبطال، تلقى مارتن الطعنات الأولى والمسبات الأولى، بل وتهديدات الاغتيال الأولى، ولكن في نفس الوقت أصبح متاحا للكتاب مساحة جديدة للإبداع؛ ليس لأن أحدا منعهم عنها في السابق، بل لأن أحدا لم ينرها من قبل بشكل واضح. وقد أنارها مارتن وأصبحت متاحة لمن يريد استخدامها.
السياسة في أغنية الجليد والنار
السياسة متواجدة.. ربما تظهر أكثر في الرواية عنها في المسلسل. اهتم المسلسل بجانب الأحداث على حساب السياسة؛ ولكن يظل الجزء السياسي واضحا في المسلسل خصوصا في الجزء الأخير. يعتمد مارتن عادة على الحوارات المباشرة للأبطال عن صراعات السلطة، ربما يكون بطريقة شبه خطابية ولكن ذلك مبرر لأن من يلقي الخطاب السياسي هو السلطات السياسية في المسلسل، أو يعتمد على الأحداث والتلميحات كما في قصة العصفور وسيرسي في الجزء الأخير.
في النهاية نستيطع القول أن أغنية الجليد والنار والمسلسل المقتبس منها (لعبة العروش) ليسا مجرد محاولة للتجارة بالجنس وتحقيق مبيعات من خلاله، بل هما ظاهرة أكثر قيمة وفتح وتوسعة لحدود الإبداع، بل وبعض التأملات في الإنسانية والسياسة والقيم.