جاليليو: حكاية الشمعة التي حاكمها الظلام ثم اعتذر لها
هكذا صدر في 22 يونيو/ حزيران 1633م إعلان الإدانة السابق من كنيسة روما، ليتوِّج 70 يومًا من التحقيقات المكثفة التي عقدتها المحكمة البابوية لعالم الفلك والفيزيائي الإيطالي الشهير جاليليو جاليلي، والتي بدأت في 12 أبريل/ نيسان 1633 م، أي منذ 385 عامًا بالضبط لحظة كتابة هذا المقال.
هذه المرة، لم ينجح الشيخ السبعيني جاليليو في الإفلات من قبضة الإدانة الكنسيَّة كما نجا بأعجوبة في عام 1616م، عندما اقتصر الأمر على حظر تداول أحد كتبه الذي دافع فيه عن نظرية العالم كوبرنيكوس في مركزية الشمس بدلًا من مركزية الأرض، وإنذار مباشر من البابا له بالتوقف عن تأييد أفكار كوبرنيكوس علانية.
أما في محاكمات 1633، فلم تنجح محاولة جاليليو للتذاكي على قضاته بخصوص أحدث كتبه قبلها – والذي أسماه ( الحوار )، والذي كتبه على هيئة مناظرة محايدة – أو حاول أن يجعلها تبدو محايدة – بين وجهة النظر المؤيدة لنظرية مركزية الشمس، والأخرى التي تؤيد النظرية التقليدية التي تتبناها الكنيسة في مركزية الأرض، والتي سبق إليها الفيلسوف اليوناني أرسطو قبل ألفي عام.
حاول جاليليو الدفاع عن نفسه بأنه لم يقصد تبني أية نظرية، إنما كان مجرد عارضٍ للنظريتيْن على القراء، لكن لم تقتنع المحكمة، وأدين الرجل بالهرطقة،وحُظر تداول كتابه، وحُكم عليه بالإقامة الجبرية في منزله، ليظل في عزلته التي آنسَها بالبحث والكتابة حوالي تسع سنوات، حتى تُوُفِّيَ عن عمر يناهز 78 عامًا، بعد أن ترك بصمات كبرى في علوم الفلك والفيزياء.
جاليليو.. الموقف والعلم
قليلون هم القادرون على قول «لا» في وجه من قالوا «نعم»، والمستعدون لمواجهة الأفكار الخاطئة السائدة، وإن رسّختها القرون، وأُضفِيَت عليها أثواب القداسة. وجاليليو من هؤلاء، وبهذا اشتهر، حتى كادت قصة اضطهاده من الكنيسة الكاثوليكية بسبب دعمه لنظرية مركزية الشمس، تطغى على منجزاته العلمية الأخرى، ومساهماته الكبرى في علوم الطبيعة، والتي جعلته يستحق لقب «أبو العلم الحديث».
و جاليليو هنا مثال بارز على أن مواقف العلماء التي يدفعون فيها ضريبة أخلاقية في سبيل ما يؤمنون به من مبادئ علمية أو فكرية هي المسئول الأول عن منحهم شرف العلم، والحظوة في قلوب الناس وعلى صفحات كتاب التاريخ، خاصة وقد تساقط الكثيرون – ولا يزالون – ومنهم أصحاب العلم الغزير في حبائل السلطة والنفوذ والخوف من مواجهة سواد الناس والأفكار الخاطئة.
النشأة الأولى.. ورحلة علم تكتنفها الصعوبات
ولد جاليليو جاليلي عام 1564م في مدينة بيزا الإيطالية، وكان والده موسيقيًا، وعالمًا تجريبيًا كذلك، ولعل هذا قد يفسر جانبًا من الولع المبكر لجاليليو بالعلوم. وكان جاليليو الأكبر بين ستة أبناء.
عام 1581 م التحق جاليليو بجامعة بيزا من أجل دراسة الطب، إلا أنه لم يمضِ وقت كبير حتى تخلى عن الطب رغم اعتراض والده، من أجل شغفه الكبير بالرياضيات وعلوم الطبيعة «الفيزياء». فقد كان يرى أن الطبيعة قد صيغت بدقة ونظام شديديْن على أسس رياضية، وأنه لا يمكن اكتناه قوانين الطبيعة إلا بالتجربة والمشاهدة السليمة، ومن هذا المنطلق كان منبع إسهامات جاليليو في تطور مفهوم العلم التجريبي، والذي قام على قواعده التطور العلمي الحديث.
عام 1583م جاءت أولى إسهاماته الفعلية في مسيرة العلم، بينما لا يزال شابًا دون العشرين من عمره، عندما وصف القوانين التي تتحكم في حركة بندول الساعة. لكن عام 1585م ترك الدراسة الجامعية التقليدية قبل أن يحصل على الدرجة العلمية، وأخذ يعطي دروسًا خاصة في الرياضيات في مدينتي فلورنسا وسيينا الإيطاليتيْن. ثم حاول التقدم ليكون محاضرًا للرياضيات في جامعة بولونيا لكن باءت المحاولة بالفشل. لكن بزوغ صيته تدريجيًا في العلم لفت أنظار أحد النبلاء الإيطاليين واسمه جواديبولدو ديل مونتي، والذي كان له مساهمات علمية في الميكانيكا، فأحاط جاليليو برعايته ماديًا ومعنويًا، وذلّل له طريق القبول في جامعة بيزا.
على مدى عشرين عامًا، منذ 1589 م وحتى 1610 م، كان جاليليو محاضرًا في علوم الرياضيات في جامعتيْ بيزا وبادوا الإيطاليتيْن. وخلال تلك الفترة قام بتجاربه الشهيرة على السقوط الحر للأجسام، والتي كانت نواة مهمة لمنجزات العالم الكبير إسحاق نيوتن في فيزياء الحركة، والجاذبية.
وفي واحدة من أشهر تجاربه قام جاليليو بإلقاء كرتيْن مختلفتيْن في الكتلة من أعلى برج بيزا المائل الشهير. كما توقَع الرجل، وصلت كلتاهما إلى الأرض في نفس اللحظة، فأكدت استنتاجه أن جاذبية الأجسام في نفس الوسط لا تتوقف على كتلة هذه الأجسام. كانت هذه التجربة ضربة قوية لنظرية الفيلسوف اليوناني أرسطو عن الحركة، والتي ظلت سائدة 20 قرنًا قبل جاليليو، والتي تنص على أن قوة الجاذبية – ممثلة في سرعة السقوط الحر – تتناسب طرديًا مع كتلة الجسم، فكلما كان أكبر، كان أسرع في السقوط والعكس. وفي عام 1609 م، وضع قانونه الذي ينص على أن سرعة سقوط الجسم تتناسب طرديًا مع مربع الوقت المار.
صاغ جاليليو استنتاجاته الأولى عن السقوط الحر في ورقة بحثية انتقد فيها نظرية أرسطو، والتي كانت تعد من المسلّمات لدى معظم طلبة العلم والباحثين في زمان جاليليو، مما دفع الكثيرين للجدال معه حد الخصومة، حتى أوقعوا بينَه وبين إدارة جامعة بيزا، فلم تجدد عقدَه كمحاضر فيها بعد عام 1592م، بينما استمر في عمله في جامعة بادوا.
في تلك الفترة كذلك اشترك جاليليو مع أبيه الموسيقي في تجارب تهتم بدراسة العلاقة بين حدة صوت الآلة، ومدى كون أحبالها مشدودة. وعندما توفي أبوه، أصبح جاليليو مسئولًا عن الأسرة الكبيرة محل الفقيد، مما وضعه دائمًا تحت ضغط ماديٍّ كبير، ولعل هذا هو الذي حال بينه وبين الزواج، رغم العلاقة التي أقامها مع امرأة من مدينة البندقية الإيطالية، والتي أنجبت له 3 أطفال.
جاليليو والتلسكوب.. قصة حب وإنجاز
في عام 1609م وبينما جاليليو قد قارب سن الخمسين، ستتغير حياته العلمية تغيُّرًا دراماتيكيًا. سمع جاليليو أن أحد المخترعين الهولنديين قد اخترع آلة لتقريب الأجسام البعيدة لعين الناظر. تمكَّن من الحصول على أحد هذه التلسكوبات، وبعد محاولاتٍ عديدة من الفك وإعادة التركيب، تمكَّن جاليليو من استيعاب طريقة عمل التلسكوبات، وبدأ في تطوير تلسكوبه الخاص، بعد أن علم نفسه كيفية صقل العدسات الزجاجية.
لم يحل أغسطس/ آب من نفس العام 1609م حتى كان جاليليو يعرض أمام مجلس الحكم في جمهورية البندقية الإيطالية – والتي تتبعها جامعة بادوا التي كان يدرِّس فيها – تلسكوبًا قادرًا على التكبير ثمانية مرات. حظي الابتكار برضا أعضاء المجلس، فمنحوا جاليليو تثبيتًا مدى الحياة في وظيفته، وضاعفوا راتبه الشهري، فأصبح من أعلى رواتب العلماء في المدن الإيطالية، وهكذا تفرغ جاليليو أكثر وأكثر لشغفه الجديد بالتلسكوبات.
أواخر عام 1609م كان جاليليو قد تمكن من صناعة تلسكوب تصل قوة تكبيره إلى 20 ضعفًا، ووجهه في نهم إلى السماء محلقًا بعينيه في رحابه البديعة الغامضة، لتبدأ جولة مهمة من بصمات جاليليو في تاريخ العلم، كانت من نصيب علم الفلك.
بدايةً، أكدت مشاهدات جاليليو أن سطح القمر مليء بالندوب والنتوءات والحفر، وأنه ليس ناعمًا أملس كما كان التصور القديم. كذلك بواسطة تلسكوبه الجديد اكتشف أن السماء تحتوى قدرًا هائلًا من النجوم أكبر بكثير مما تراه العين المجردة على صفحة السماء القريبة. وتمكن الرجل من اكتشاف أربعة من أقمار كوكب المشتري، وقام بتسميتها نجوم ميديتشي، وذلك تقديرًا للدوق الأكبر لإقليم توسكانيا الإيطالي، والذي كان من عائلة ميديتشي العريقة في السياسة الإيطالية في عصر النهضة.
كذلك، عندما ألف جاليليو كتابه الذي ضمّنه مشاهداته الفلكية وأسماه الرسول الفلكي، فإنه أهداه إلى الدوق دي ميديتشي، والذي رد له صاع الكرم صاعيْن، فعيّنه مستشارًا علميًا في بلاطه براتبٍ سخي.
ومن أهم الاكتشافات الفلكية لجاليليو في تلك الفترة أن كوكب الزهرة يمر بأطوار تشبه أطوار القمر أثناء دورانه الشهري حول الأرض، وهذا عزّز كثيرًا لديه من أن الزهرة يدور حول الشمس، وأنه من الأرجح أنها هي مركز الدوران في الكون كما سبق إلى ذلك العالم كوبرنيكوس قبل عشرات السنين، فتعرض لهجوم كاسح من كنيسة روما التي تعتبر كون الأرض مركز الكون، وأن الشمس تدور حولها، من أسس العقيدة التي لا يُسمح بالمساس بها.
بدأ جاليليو يجاهر بتأييد نظرية كوبرنيكوس في دروسه، وفي خطاباته إلى أصدقائه، ومنهم الدوقة كريستينا أم دوق توسكانيا، مما سبب الكثير من الزوابع، وأرسل بعض خصومه إلى البابا في روما شاكين من هرطقة جاليليو، الذي حاول الدفاع عن نفسه بأنه يمكن تأويل آيات الإنجيل بما لا يتعارض مع المكتشفات العلمية الحديثة، والنظريات الجديدة كنظرية كوبرنيكوس. لكن استمر الجدل، حتى انتهى إلى تلقي جاليليو إنذارًا عام 1616 م بالتوقف عن أي شكل من أشكال دعم نظرية كوبرنيكوس علنًا.
لكنها تتحرك!
يُذكر أنه أثناء جلسة النطق بالحكم على جاليليو في المحكمة البابوية، حين أُجبر الرجل على أن يلقي بيانًا للتوبة يعلن فيه كما تريد الكنيسة أن الأرض هي مركز الكون، فإنه شوهِد يغمغم بصوت خفيض لا يخلو من سخرية متألمة: Eppur Si muove!، وتعني: لكنها تتحرك! قام أحد محبي جاليليو الإسبان بتخليد هذا الموقف في لوحة حائط عام 1634 م.
جديرٌ بالذكر أنه في القرن العشرين – بعد وفاة جاليليو بأكثر من ثلاثة قرون – قدمت الكنيسة الاعتذار مرتيْن إلى جاليليو، وعبرت عن أسفها لما تعرّض له من اضطهاد، حتى توفي منبوذًا في عزلته الإجبارية وقد شارف على الثمانين.