الجابري وطرابيشي وجهان للعملة نفسها
(1)
من أجل «خدمة قضية العقلانية في الفكر العربي»، كما يُعبِّر، دعا محمد عابد الجابري إلى «إدماج التاريخ الثقافي للمراكز الحضارية والعلمية التي كانت تقع داخل الوطن العربي قبل الإسلام … [لكن] ليس من أجل وصل تاريخنا الثقافي القومي بالتاريخ الثقافي العالمي وحسب، بل أيضًا – وهذا هو المهم – من أجل تبيان مكونات الثقافة العربية الإسلامية وفحصها ونقدها وصولًا إلى إعادة بناء الذات العربية على أسس جديدة قوامها التخلص من رواسب النماذج السلبية الماضية» (تكوين العقل العربي، ص192).
ومن ثمَّ، راحَ يُفتِّش عن هذه الرواسب، التي تمثَّلت، عنده، في الفلسفات القديمة الآتية على العرب من الخارج، خصوصًا لدى إخوان الصفا. يقول: «أول ما نقل إلى الثقافة العربية من ’علوم الأوائل‘ كان من العلوم الهرمسية ’السرية‘ السحرية … [ولهذا] فموقف أهل السنة القدماء المعادي لـ ’علوم الأوائل‘ كان في حقيقته وجوهره بسبب العقائد الدينية الهرمسية التي تباطن هذه العلوم وتؤسسها» (ص194). ونتيجة لطبيعة المعارف المنقولة، وما يتراحم في دخيلتها من تقويض للعقل وإهانة له، «كان ’العقل المستقيل‘ هو أول من انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية من عناصر الموروث القديم عبر الكيمياء والتنجيم» (ص195).
ولم تفته الإشارة، تأكيدًا على مجيء تلك «النماذج السلبية» من الخارج، إلى أن «هذا ’العقل المستقيل‘ – ولنقل: النظام العرفاني – سواء في مجال التصوف أو في مجال الفلسفة الإشراقية أو على صعيد الإيديولوجيا الإسماعيلية لم يكن رد فعل ضد ’تزمت الفقهاء‘ ولا ضد ’جفاف‘ الاتجاه العقلي عند المتكلمين، كلا: لقد ظهر ’العقل المستقيل‘ – العرفان الشيعي والكشف الصوفي معًا – قبل أن تتطور تشريعات الفقهاء ونظريات المتكلمين» (ص214).
وفقًا للجابري، يكون ما أحال العقل العربي الإسلامي إلى التَّقاعد وأدى به إلى «الاستقالة» وبالتالي «الانحطاط» (أو الجواب على سؤال شكيب أرسلان: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟) شيء من خارج، ينتمي للآخر والغير و«العدو البعيد»، وسحره وتنجيمه وكل ضروب لامعقوله، من قبيل القول بأن «العالم إنسان كبير والإنسان عالم صغير»، وأن «الله خلق الإنسان على صورته»، وغير ذلك من «تهويمات غنوصية» فصّل ناقدُ العقل العربي الحديثَ عنها.
(2)
بعد أن استحالت شكوكه إلى قناعات راسخة [1]، عمل جورج طرابيشي على نقد صورة إخوان الصفا، كما رسمها الجابري في تأطيره للهرمسية، في كتابه مذبحة التراث في الثقافة العربية المعاصرة [ص96-108] (1993) ، أولًا، ثمَّ بشكل موسَّع في كتابه العقل المستقيل في الإسلام؟ (2004)، وذلك ضمن تقويضه للأطروحة الجابرية بشأن العقل المستقيل برمتها [2].
بحسب طرابيشي، «لن يكون للجابري من همّ سوى إحضار الغزو الخارجي لينكر التآكل الداخلي. وهكذا، فإن كل مشروعه لـ «نقد العقل العربي» لن يكون نقدًا لهذا العقل نفسه، ولا تفكيكًا للآليات الداخلية التي قادته إلى الأفول والاستنقاع في «عصر النهضة والانحطاط»، بل سيكون نقدًا – ذا منحى هجائي في الغالب – لذلك الدخيل الذي تسلل إلى حَرَم هذا العقل من خارجه، ورصدًا لتحركاته ’المشبوهة‘ في الثقافة العربية الإسلامية» (العقل المستقيل، ص95).
ومن خلال العودة إلى المصادر التي ينقل عنها الجابري نفسه، يُلاحِظ طرابيشي، على سبيل المثال، أن صيغة «العالم إنسان كبير والإنسان عالم صغير» التي أدرجها الجابري في عداد المقولات المؤسسة للهرمسية، هي الصيغة «الأشهر بإطلاق في العصور القديمة، لدى المسيحيين كما لدى الوثنيين، وهي التي ستبقى متداولة على امتداد العصر الوسيط»، كما أنها تعبِّر عن «موروث قديم قد ورثته الهرمسية، مثلها مثل معظم مدارس الفلسفة في العصر الهلنستي والعصر الوسيط وصولًا إلى عصر النهضة بالذات» (ص142، 143). و«لو نهضت [هذه الصيغة] وحدها دليلًا كافيًا على التهرمس لكان ينبغي توجيه ’التهمة‘ لا إلى إخوان الصفاء وحدهم، بل كذلك إلى عدة من فلاسفة الإسلام، بمن فيهم من يعتبرهم ناقد العقل العربي نفسه ’برهانيين‘ من أمثال الكندي وابن باجة، بل لكان ينبغي تعميم هذه التهمة لتطال بيانيين من أمثال الجاحظ، أو حتى متكلمين أشعريين من أمثال البغدادي» (ص145). كما أن قول «الله خلق الإنسان على صورته»، «ليس هرمسيًا، بل هو قول أفلاطوني … فالموروث الأفلاطوني العائد إلى القرن الرابع ق.م كان جعل من فكرة إلهية النفس مشاعًا عامًا في الفلسفة اليونانية والهلنستية على حد سواء» (ص150).
(3)
من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث: النشأة المستأنفة [3] هو محاولة تدوين لما يراه طرابيشي رحلة العقل العربي الإسلامي نحو «تغييب القرآن وتغييب العقل وتغييب التعددية» (ص630)، أي نحو «إقالة العقل»، أي أطروحته الخاصة بشأن استقالة العقل العربي الإسلامي. لكن إذا كانت عوامل استقالة العقل عند الجابري تعود إلى الخارج/ي المتمثِّل في روافد «الموروث القديم»، فإنها عند طرابيشي، كما يزعم، ترجع إلى الداخل/ي المتمثِّل في مَعَاوِل «إسلام الحديث». بكلمات أخرى، إذا كانت أطروحة الجابري تنتمي إلى الفكر التآمري أو الغزو الخارجي أو حصان طروادة، كما اتهمها طرابيشي، فإن أطروحة الأخير، كما يروم صاحبها أن يقنعنا، تنضوي تحت نقد الذات ومصارحتها تمهيدًا للأخذ بيدها نحو «الرقي» و«التقدم» وبعيدًا عن «الردة» و«النكوص».
بحسب طرابيشي، ثمة مُفاصَلة قائمة بين الرسول والرسالة: فمحمد، فيما يتعلق بالوحي، يُخبِر ولا يُنشيء. وهو ما يعني أنه ثمة «فعالية إلهية ومفعولية رسولية»، أو «لافعالية نبوية». وقد تم تحويل الرسول من «مرسل إليه» إلى «مرسِل»، أو ظهرت السُنَّة، كما يرى، مع الانتقال من «النبي الأميِّ» إلى «النبي الأممي»، أو من النبي المحلي إلى النبي العالمي.
يقول: «الإسلام الذي حُمِل إلى أعاجم البلدان المفتوحة، وفي مقدمتهم الفرس، كان إسلامَ قرآنٍ لا يد لهم فيه، وما أُنْزل أصلًا برسمهم. وبالمقابل، إن الإسلام الذي أعادوا تصديره إلى فاتحهم كان إسلامَ سنَّة كانت لهم اليد الطولى في إنتاجه، وهو الإنتاج الذي استطاعوا أن يؤسسوا أنفسهم من خلال إتقان صناعته… في طبقة متفقِّهة عاتية النفوذ حَبَتْ نفسها، عن طريق التطوير المتضافر للمدونة الحديثية وللمدونة الفقهية، وبالتالي للمؤسسة الإفتائية، بسلطة تشريعية لم يقرَّ بها القرآن للرسول نفسه. وعلى هذا النحو تكون قد نصَّبت نفسها وسيطة بين الله وبين المؤمنين في كل ما جلَّ ودقَّ من شؤون حياتهم الدينية والدنيوية معًا … وبديهي أيضًا أننا إذ نقول هذا القول لا ننكر مساهمة اليد العربية. فالحجازيون، ولا سيما أهل المدينة، ممثَّلين بمن عمَّر منهم أو بمن أورثوه ذاكرتهم التاريخية من أبنائهم وأحفادهم، وبمن فيهم أيضًا أولئك الذين تفرقوا في الآفاق … هؤلاء الحجازيون العرب كانوا موضوع طلب شديد من قبل الرَّحالة في طلب ’العلم‘ من أبناء البلدان المفتوحة. وقد أسهموا، بما رووه أو بما رُوي أنهم رووه، بدور لا مماراة فيه في بناء عمارة السنَّة … والحال أيضًا أن الموالي، أي الأرقاء المعتوقين من الأعاجم وأحفادهم، كانوا هم أيضًا وراء تطوير صناعة الفقه مثلما كانوا وراء تطوير صناعة الحديث. فاثنان من مؤسسي المذاهب الأربعة [السنية] كانا في الأصل من الموالي، وهما أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس. كما أن هناك روايات تشير إلى أن إمام المذهب الخامس، أي ابن حزم، كان من أصل فارسي … ومن الممكن أن نقول… إن تسييد السنَّة قد تلاقت فيه مصالح الأتوقراطية العربية الفاتحة ومصالح النخب والشرائح المثقفة من شعوب البلدان المفتوحة» (ص103-105).
في هذا النص، الذي آثرنا أن نُدرجه على طوله، يكشف لنا طرابيشي عن كل أسلحته. يصير التحول من «إسلام القرآن إلى إسلام الحديث» أمرًا جرى وحصل على أيدي «أعاجم البلدان المفتوحة» و«الموالي»، أي الآخر، والغزو الخارجي، وحصان طروادة، وشتّى الأوصاف التي سبق أن نعتَ بها طرابيشيُ الجابري. ولا ينبغي هنا أن تخدعنا محاولات تعديد العوامل التي يقوم بها طرابيشي، من قبيل «الحجازيين العرب» و«الأتوقراطية العربية الفاتحة»، فقد قام الجابري، من قبله، بالتأكيد على أن أطروحته لا تروم «من وراء البحث في ’أصول وفصول‘ الموروث القديم الذي انتقل إلى الثقافة العربية الإسلامية تفكيك هذه الأخيرة إلى أجزاء و’رد‘ كل جزء منها إلى ’أصله‘» (ص187)، لكنه، في المحصلة، لم يقم بغير ما زعم أنه بعيد عنه، بشهادة طرابيشي.
(4)
في دراسته الرائدة اشتهاء العرب، يقول جوزيف مَسعد: «وتمامًا كما كان الأوروبيون في عصر النهضة، ومن ثم في عصر التنوير، ينسبون كل ما يثير قلقهم إلى غير الأوروبيين في سياق عملية اختراع أوروبا كتصنيف حضاري متماسك … أراد بعض القوميين العرب الحداثيين الحفاظ على نقاء الحضارة العربية في الماضي كأساس لأمة عربية حديثة. وهكذا، وسيرًا على خطى مهندسي فكرة أوروبا والقوميين الأوروبيين الحداثيين، سعى عدد من الكتاب القوميين العرب إلى نفي العناصر ’الأجنبية‘ في سياق عملية تطهير الماضي، ومن ثم إعداد المسرح لإقصاء كل العناصر الأجنبية المعاصرة من أجل تطهير الحاضر» (ص173).
وهذا ما فعله الجابري، ومن بعده «ناقده الأكبر» طرابيشي. بل إن عملية «تطيهر الماضي» في سبيل «تطهير الحاضر» ليست نقطة تنمحي عندها شتى الفروقات القائمة بين الجابري وطرابيشي فحسب، بل ربما شتى الفروقات القائمة بين المفكرين العرب في غالبيتهم – «علمانييهم» و«إسلامييهم».
[1] يقول طرابيشي عن بدايات نشوء الشك والارتياب بداخله تجاه أطروحة الجابري: «جئت باريس وقعدت في بيتي شبه الفارغ أقرأ هذا الكتاب [= تكوين العقل العربي] مرّة ثانية، مسحوراً به سحراً كاملاً […] ولكن كانت هناك نقطة تفصيلية صغيرة في الكتاب أثارت عندي بعض الشكوك وتتعلق بموقف الجابري من «إخوان الصفاء». فمن دراستي الجامعيّة في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق كانت تكونت عندي فكرة عامة عن انتماء إخوان الصفاء إلى العقلانية الفلسفية الإسلامية. والحال أن الجابري كان قال كلاماً سلبياً للغاية عن إخوان الصفاء ناسباً إياهم إلى «العقل المستقيل في الإسلام»، ومؤكدًا أنهم وقفوا ضدّ العقل، وضدّ الفلسفة، وضدّ المنطق، وضد صاحب المنطق الذي هو أرسطو. هكذا ارتسم عندي شكّ يتعلق بهذه النقطة تحديداً، وما كان في إمكاني أن أحسمه لأن رسائل اخوان الصفاء لم تكن متوفرة لي في مهجري الباريسي». يُنظَر: جورج طرابيشي، ست محطات في حياتي، في موقع أثير العماني على الانترنت بتاريخ 23/ 2/ 2015.[2] علينا ألا ننسى في هذا المقام أن أولى الإحراجات النقدية التي وجهها طرابيشي لـ «تكوين العقل العربي» كانت في مقاله التعريفي و«الاحتفالي» بالكتاب في مجلة الوحدة، عام 1984. ومن بين من اشتغلوا بنقد أطروحات الجابري: هشام غصيب، هل هناك عقل عربي؟ قراءة نقدية لمشروع محمد عابد الجابري، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1993)؛ طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ط1 (الدار البيضاء؛ بيروت: المركز الثقافي العربي، 1994)؛ يحيى محمد، نقد العقل العربي في الميزان، ط1 (بيروت: الانتشار العربي، 1997)؛ محمد مبارك، الجابري بين طروحات لالاند وجان بياجيه، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2000)؛ أحمد علي زهرة، العقل العربي بناء وبنية: دراسة نقدية لمشروع الجابري (دمشق: دار العرب ودار النور، 2009)؛ وليد محمود خالص، معضلة اللغة العربية بين الجابري وطرابيشي: دراسة نقدية تحليلية لمشكلات العربية في الفكر العربي الحديث، ط1 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 2012).[3] كان طرابيشي قد وجه نقدًا مطولًا للجابري، تحت عنوان «نقد نقد العقل العربي»، جاء في أربعة مجلدات هي: نظرية العقل (1996)، إشكاليات العقل العربي (1998)، وحدة العقل العربي الإسلامي (2002)، العقل المستقيل في الإسلام (2004). إضافة إلى مجلد خامس، هو الذي نشير إليه هنا، لم يُعَنْونه طرابيشي جزءًا خامسًا لأنه انصرف فيه «إلى بناء إشكاليتنا الخاصة عن استقالة العقل في الإسلام، دونما حاجة إلى الدخول في عملية تفكيك لإشكاليات صاغها – أو بالأحرى امتنع عن صياغتها – صاحب مشروع نقد العقل العربي». وقد صدرت جميعها عن دار الساقي (بيروت).