مستقبل الدور التركي في الشرق الأوسط
على الرغم من ذلك، لم يشر التقرير بوضوح إلى تفاصيل الدور التركي وطبيعته، كما أنه صدر قبل أن يبرز ملف داعش في المشرق، و عودة الأزمة بين تركيا والأكراد، وتوقيع إيران لاتفاقها النووي مؤخرًا مع الدول الغربية، وإن كانت تلك الأحداث بالطبع تغيّر الكثير من المعطيات أمام تركيا بشكل يصعّب عليها كثيرًا الاضطلاع بالدور الذي تريد، إلا أنه لا يغيّر كونها اللاعب الرئيسي حاليًا إلى جانب إيران، مع تمتّعها بمزايا أكثر على المدى البعيد لا سيما في ملف المشرق.
في هذا التقرير، سنحاول رسم ملامح الإستراتيجية التركية خلال الفترة المقبلة، وهي مهمة صعبة بالطبع بالنظر للتحولات السياسية الجارية داخل البلاد، حيث تعتمد الكثير من المواقف السياسية التركية على استمرار هيمنة معسكر أردوغان من عدمه داخل الحزب الحاكم، ومدى ما يمكن أن يتغيّر إذا ابتعد عنه الحزب أو قرر الائتلاف مع غريمه العلماني، ونتائج الانتخابات المبكرة المتوقع إجراؤها في نوفمبر المقبل، غير أن أي تغيّر في النظام السياسي التركي لن يمس على الأرجح الخطوط العامة للسياسة التركية وإن غيّر من تفاصيلها الدبلوماسية على الأرض.
بين أنقرة وطهران
لا نبالغ إن قُلنا أن العلاقات بين تركيا وإيران هي العامل الأهم في فهم الإستراتيجية التركية خلال العقد المقبل، إذ أن التقارب بينهما في أي ملف من الملفات الإقليمية قد يحسمها بشكل كبير، في حين سيشكل التباعد بينهما في الملفات الأخرى إيذانًا باستمرار حالة المخاض الجارية في بقاع عدة بالمنطقة، وأبرزها بالطبع العراق وسوريا.
على مدار السنوات الماضية، تمتع البلدان بعلاقات قوية سياسية واقتصادية، ومقارنة بالقطيعة الواقعة الآن بين مصر والخليج من ناحية وإيران من ناحية أخرى، فإن تركيا لا تزال هي البلد الأكثر انفتاحًا على إيران والأكثر أهمية له، كما أنه بعيدًا عن الملف المشرقي الذي تتركز فيه خلافاتهما، لا يبدو أن هناك مسألة تجعلهما عدوَين، بل إن المصالح المشتركة في الحقيقة كثيرة، وهي مرشحة للازدياد بعد توقيع الاتفاق النووي بين إيران والغرب.
على الرغم مما يذهب له كثيرون من أن إيران ستصبح هي حليف الغرب الأساسي بدلًا من تركيا، فإن هناك أسبابًا جيوسياسية وإستراتيجية واضحة تحول دون وقوع ذلك، أولها أن أهمية تركيا للغرب حتمية ولا بديل عنها نظرًا لتشكيلها توازنًا عسكريًا مع روسيا في البحر الأسود والمتوسط في إطار حلف الناتو، وهي مهمة يستحيل أن تتم إلا من موقع تركيا الجغرافي وبقدراتها الحالية، في حين تقبع إيران بعيدة عن تلك المناطق الحيوية وخارج مدارات السياسة الأوروبية بالكامل، باستثناء آسيا الوسطى وحوض بحر قزوين ربما واللذين يشكلان أولوية من الدرجة الثانية لأوروبا على الأكثر، وهي مناطق تُعَد تركيا حاضرة فيها بقوة كشريك للاتحاد الأوروبي.
علاوة على ذلك، تبدو الصفقة النووية في الواقع معززًا لموقع تركيا، ولمصالح أوروبا على المدى البعيد في ترسيخ التحالف مع تركيا، أكثر منها منافسًا للدور التركي، إذ أن الانفتاح على إيران سيسهّل كثيرًا التعاملات الجارية أصلًا بين الأتراك والإيرانيين، والتي كان يتم الكثير منها بطرق ملتوية لتجنب العقوبات، كما أن تعزيز الترابط بينهما سيصبح حتميًا مع الوقت نظرًا لتشكل دائرة مصالح مشتركة جديدة تُبعِد طهران عن روسيا وتقربها من الغرب اقتصاديًا، وأهمها ملف تصدير الغاز الإيراني إلى السوق الأوروبية الراغبة في التحرر من هيمنة الغاز الروسي، وهو مشروع سيمر بالتأكيد عبر تركيا ويعزز موقعها التجاري والاقتصادي.
الأزمة الوحيدة الواقعة بين الطرفين حاليًا تعود في الواقع لهيمنة معسكر أردوغان على السياسة الخارجية بشكل أو آخر حتى الآن، وهو المعسكر الذي يشعر بالمرارة ربما من سياسات إيران الداعمة للأكراد مؤخرًا لمواجهة داعش، مما يفسر التصريحات التي أطلقها أردوغان منذ أشهر قبل زيارة إيران، والتي انتقد فيها الدور الإيراني، وهي تصريحات لم تلقِ طهران لها بالًا نظرًا لإدراكها تجاوز العلاقات الوطيدة بين البلدين لسلطان الرئيس التركي الذي يتضاءل في الداخل وتصريحاته الحادة بين الحين والآخر، لتقوم باستقباله بشكل طبيعي بعد ذلك بأيام قليلة.
تباعًا، ورغم التوتر الحالي، إلا أنه ليس مرشحًا أبدًا للاستمرار أو تجاوز نطاق التقارير الإعلامية في الصحف الرسمية هنا وهناك، فالاتجاه العام بعد الصفقة النووية هو لترسيخ الانفتاح السياسي والاقتصادي الجاري بين البلدين منذ دخول العدالة والتنمية للسلطة عام 2002، وهو انفتاح سيجني منه الطرفان ثمارًا كثيرة، لا سيما إيران الباحثة عن الاستثمارات الأجنبية، وكذلك سيفيدهما في ملفات مشاريع الغاز إلى أوروبا، علاوة على كونهما من المهتمين حاليًا بمحاصرة الدور الإسرائيلي بشكل أكبر، أضف لذلك أن أوروبا قد تدفع البلدين للتقارب لدفعهما لحسم أزمة المشرق، والتي تشكل صداعًا نظرًا لقُربها من المتوسط وفيض اللاجئين الذي تجلبه على أبوابها.
ملف الشام وملامح الصفقة الحتمية
طالت الحرب أو قَصُرَت في الشام، فإنها ستضع أوزارها كبقية الحروب، وسيجلس اللاعبون الرئيسيون على طاولة المفاوضات في وقت لا نعلمه حتى الآن لرسم ملامح الشام الجديد، وتركيا وإيران بالطبع هما الطرفان الأبرز اللذان سيحلان محل بريطانيا وفرنسا في القرن السابق إن جاز القول ليرسما خريطة جديدة للمشرق، وعلى الرغم من انسداد الأُفُق الحاصل الآن بينهما وبين القوى التي يدعمانها على الأرض، إلا أن مصالح كلا منهما على الورق تشي بأن الوصول لصفقة في سوريا ليس صعبًا، وأنه في الحقيقة مسألة وقت حال أراد الطرفان حسم الحرب الجارية، لا سيما وأنهما يمولان ويزودان أطرافها بالسلاح – إذا استثنينا داعش بالطبع.
بعد اندلاع الثورة السورية مباشرة، نأت تركيا بنفسها عن إظهار أي دعم واضح للتظاهرات، وأرسلت مسؤوليها إلى الأسد لإقناعه بإجراء إصلاحات سياسية يحتوي بها الحراك الجديد آنذاك، وهي إصلاحات كانت ترغب عن طريقها تركيا أن تحافظ على الاستقرار في بلد شديد القرب منها حينئذ نظرًا للتعاون الوطيد الذي نشأ بين أردوغان والأسد حتى 2011، وفي نفس الوقت فتح متنفس للحركات الإسلامية قد يجلب لها نفوذًا إضافيًا، لتحافظ بذلك على وجود نظام الأسد دون أن تفقد سياسة دعم الإصلاحات التي تبنتها بعد الربيع العربي.
لم يقتنع الأسد بطبيعة الحال، لتنزلق سوريا إلى الصراع المسلح، وتقرر تركيا أن تقف في الصف المواجه للنظام، والذي سقطت سيطرته بشكل شبه كامل في مناطق متعددة في الشمال والشرق، قبل أن يقرر سحب وجوده تمامًا من الولايات الشمالية وتعزيز رصيده الجنوبي، على الأرجح تلبية لمطالب إيران الممول الرئيسي له والتي تريد تأمين الممر الجنوبي الواصل بين البصرة وحزب الله اللبناني ولا تكترث كثيرًا للشمال، وهو انسحاب ترك الشمال بأيدي حزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني وثيق الصلة بحزب العمال الكردستاني، وقلب المعادلة الكردية في تركيا رأسًا على عقب.
في ظل الأوضاع الحالية، أصبح لتركيا هدفان رئيسيان في سوريا، أولها محاصرة حزب العمال بشكل لا يتيح له تشكيل مركز قوة يضاهي كردستان العراق، وهو هدف مشترك مع كردستان العراق نفسها بالطبع، علاوة على كونه يحقق مصالح إيران على المدى البعيد، والتي قد يؤرقها هي الأخرى حزب حياة كردستان الحرة في شمالها الغربي والمتصل بحزب العمال، وإن كانت تختار حاليًا التنسيق معه لمواجهة داعش، وثانيها هو تأمين شمال سوريا بالكامل من وقوعه بأيدي طرف معادٍ لها، وبالأخص ممر حلب الإستراتيجي للدور التركي بالمشرق منذ قرون، والذي ذكره باللفظ رئيس الوزراء الحالي أحمد داوود أوغلو في أحد المؤتمرات الصحافية.
على الناحية الأخرى من الخارطة، وحيث يقبع النظام السوري متخندقًا في الجنوب، تتركز مصالح إيران الراغبة في الحفاظ على مكاسبها الإستراتيجية التي تصل جنوب العراق بدمشق ومن ثم جنوب لبنان، وهو «الممر الشيعي» الذي يكفُل لها أن تظل متواجدة في قلب المنطقة أولًا، وأن تشكل ضغطًا على كلٍ من إسرائيل والخليج ثانيًا، وهما العدوان الرئيسيان لها.
بالتبعية، يبدو وأن المعضلة التي تفرّق إيران وتركيا في ملف المشرق هي مسائل مرهونة بالظروف السياسية الحالية المتعلقة بمسألة استمرار الأسد من عدمه على رأس النظام، بالإضافة إلى ملف داعش الذي طرأ مؤخرًا وعزز من رصيد حزب العمال، ليزيد الفجوة بين طهران وأنقرة، عدا ذلك، لا يبدو أن هناك تضاد إستراتيجي بين تركيا وإيران على المدى البعيد، فمصالح تركيا لا تتضرر بوجود ضغط إيراني على إسرائيل في جنوب سوريا، لا سيما وأن علاقاتها بإسرائيل ليست على ما يُرام، ناهيك عن أنها لا يمكن أن تقدم بديلًا لذلك الضغط في المستقبل القريب، وأن أي خطر قد تشكله إيران من تلك النقطة سيدفعها بسهولة لترجيح كفة إسرائيل مما يخلق كماشة تركية إسرائيلية خليجية تعدل الكفة بسهولة.
من ناحيتها، لا يضر إيران كثيرًا أن يكون النفوذ التركي متركزًا في الشمال، فوجود قوة سنية بين العرب السنة الغالبين على الشام مسألة حتمية شاءت إيران أم أبت، وهو نفوذ ستفضل أن يكون تركيًا في المستقبل لا مصريًا أو خليجيًا، أولًا لأن الحركات المسلمة في تركيا هي الأقل عداءً للشيعة نظرًا لتأثرها الكبير بالصوفية، وثانيًا لأن تركيا بالتحديد قادرة على كبح الحراك الكردي أكثر من غيرها، مما يفيد إيران المتوجسة في العموم من حزب العمال.
إجمالًا، ورُغم عدم قدرتنا على التكهن بجدية التحركات الجارية الآن لعقد صفقة بخصوص الملف السوري، إلا أن هناك ملامح ستكون موجودة حتمًا لأي اتفاق، أولها أن إيران لن تتنازل عن نفوذها الجنوبي والذي لن يستمر إلا ببقاء الرصيد الاستراتيجي لنظام الأسد وإن رحل الأسد نفسه، وثانيها أن تركيا لا يمكن أن تقبل بخسارة ممر حلب وتواجد جدي للمعارضة في هيكل أي نظام جديد، وهما مطلبان إما سيؤديان إلى رسم كيان سوري جديد يحقق الهدفين، أو لتبلور كيانَين متوازيّين مع الوقت في الشمال والجنوب، على غرار النموذج الألماني في الحرب الباردة، وهو سيناريو لا يبدو خياليًا لو استمرت الأوضاع بهذا الشكل لسنوات، لا سيما مع عدم قدرة تركيا إيواء مليوني لاجئ سوري لفترة طويلة.
الملمح الثالث لأي صفقة سيكون اتفاق الجميع على أهمية حصار داعش بقدر الإمكان عن التمدد وحصرها في صحراء شرق سوريا وغرب العراق لتدور رُحى الحرب معها مهما طالت بعيدًا عن دمشق وحلب، لكيلا تهدد التوازن الموجود في لبنان أو تتمدد بالقرب من تمركز الأسد في الجنوب، ولكيلا تقترب من تركيا أكثر من ذلك، وإن كانت تركيا قد تغاضت عنها في السابق لدحر حزب العمال، إلا أنها تحولت مؤخرًا كما رأينا وتعمل الآن لتشكيل حزامها الخاص، وحصار كهذا لداعش كفيل بتقليص قوتها نظرًا لعدم قدرتها على التمدد في جنوب العراق الشيعي، أو شمال العراق الكردي، أو جنوبها السعودي حتى الآن.
تركيا في شرق المتوسط
تُعَد منطقة شرق المتوسط أيضًا واحدة من أهم المناطق للسياسة التركية، وهي منطقة نفوذ تركي تقليدي، وتتسم بالطبع بالتنافس بينها وبين اليونان رُغم عدم تحول تلك المنافسة لعداوة واضحة نتيجة وجود البلدين في حلف الناتو وتوجسهما من القوة الروسية القابعة إلى شمالهما، وخلافاتهما تتركز في الملف القبرصي، حيث تنقسم الجزيرة إلى شمال تركي مسلم يضم حوالي ثُلث القبارصة، وجنوب يوناني مسيحي أرثوذكسي يضم الثلثين.
تجري حاليًا محاولات كثيرة للَمِّ الشمل، إلا أنها تصطدم بالهيمنة التقليدية لليونانيين والتي ستشكل أزمة للأتراك الذين اعتادوا الآن على التصرف بحرية تامة في الجزء الشمالي، حيث يتواجد الجيش التركي لحماية أهل الشمال، والذين يبدو أنهم غير مستفيدين من الوضع بقدر استفادة الأتراك أنفسهم، إذ يحجبهم وجودهم تحت لواء جمهورية شمال قبرص التركية عن الاعتراف الدولي، والتعامل المفتوح مع الاتحاد الأوروبي الذي يضم بقية الجزيرة، مما دفعهم ربما لاختيار الرئيس الجديد مصطفى أقينجي في الانتخابات الأخيرة، والذي تتسم مواقفه بالرغبة في الاستقلال قليلًا عن تركيا وتحقيق الوحدة مع الجنوب اليوناني.
ما إذا كانت تركيا ستتضرر من ذلك بالطبع هو أمر ستكشف عنه المفاوضات الجارية بين الطرفين، بيد أن هناك ملفات عدة على المستوى الإقليمي قد يهم أنقرة أن يحتفظ فيها أتراك قبرص بحقوق تفيدها، لا سيما ملف الطاقة، حيث يتشكل الآن محور للطاقة بين قبرص واليونان نتيجة اكتشاف الغاز الطبيعي على سواحلهما، والذي يرغبان في تصديره لأوروبا، وإن لم يكن الغاز بكميات كبيرة، إلا أن المسألة ذات الحساسية هنا هي دور إسرائيل ومصر في محاولة توسيع ذلك المحور ليضم كليهما، حيث تملك إسرائيل حاليًا مخزونًا من الغاز اكتشفته حديثًا على شواطئها، وهو ما قد يخلق تحالف غاز بين تلك البلدان الأربعة في شرق المتوسط.
بالنظر للتوتر بينها وبين النظام الحالي في مصر من ناحية، وبينها وبين إسرائيل بشكل عام، يتوقع أن تحاول أنقرة الدفع نحو اقتصار محور كهذا على قبرص واليونان فقط، وفي حال حدثت أي مصالحة مع مصر، وتضاءل نفوذ معسكر أردوغان في تحديد السياسة الخارجية التركية، فإن مصر في الحقيقة قد تكون مرشحًا لمنافسة إسرائيل على تعزيز ذلك المحور ليكون ثلاثيًا بدون تل أبيب، وهذا يتوقف بالطبع على رغبة القاهرة في القيام بذلك من عدمه ومدى التحول الذي قد يحدث في العلاقات مع تركيا إن أعيد فتح القنوات الدبلوماسية، لا سيما وأن النظام المصري يتمتع بعلاقات وطيدة مع إسرائيل.
على أي حال، ومع أهمية الملف القبرصي وملف غاز شرق المتوسط بشكل عام، لا يبدو أن تبلور محور الغاز هذا سيؤثر على مصالح تركيا بشكل كبير نظرًا لضآلة ما يملكه من كميات، في مقابل ما تملكه دول أخرى مثل إيران وأذربيجان، وما سيُتاح لتركيا أن تمرره عبر أراضيها إلى أوروبا إن نجحت بالفعل جهود ألمانيا وفرنسا في خلق ممر للغاز الإيراني عبر تركيا يخفف عنها الاعتماد على الغاز الروسي كما ذكرنا آنفًا، ناهيك عن أن نقل الغاز بحرًا أمر غير وارد نظرًا للتكاليف الباهظة، مما يحصر غاز شرق المتوسط في نطاق ضيق من الأسواق قد لا يتجاوز إيطاليا ودول البلقان.
تركيا ودول الخليج
أخيرًا، تأتي العلاقات مع دول الخليج، وهي علاقات ذات مكاسب اقتصادية بالأساس، متأخرة نوعًا ما في سُلَم الأولويات مقارنة بالشام وشرق المتوسط، والاستثناء الوحيد ربما هو السعودية نظرًا لأهميته للملف السوري، والذي أحدث تقاربًا بينها وبين أنقرة على ما يبدو لرغبة كليهما في توحيد الصفوف قدر الإمكان لوضع حد لتشرذم المعارضة، والذي يُضعِف كثيرًا من موقفها في مواجهة الأسد من ناحية وداعش من ناحية، بالإضافة إلى إرسال رسالة للنظام الإيراني بعد ميله إلى حزب العمال بشكل غير مقبول في أنقرة بإحداث تقارب مع الغريم التقليدي لطهران.
كذلك، يُعَد التقارب الأخير بين البلدين محاولة من جانب تركيا تعزيز التيار الجديد في المملكة الأكثر بُعدًا عن النظام المصري وداعميه في الإمارات، والعمليات التي يقومان بها في ليبيا، والراغب ربما في كسب دعم حركات إسلامية متضررة من الانقلاب للـ«حشد السني» في مواجهة إيران في المنطقة، بغض النظر عن جدوى ذلك من عدمه بالفعل، وهي سياسات تلائم تركيا بشكل كبير في هذه المرحلة.
عدا هذا التقارب المؤقت، والذي سيفيد الطرفين سياسيًا، لا يبدو أن هناك مصلحة مشتركة على المدى البعيد من شراكة مع السعودية سوى المكاسب التي تعود على كليهما كقوتين ثقيلتَين اقتصاديًا، وإحداث توازن للدور الإيراني بين الحين والآخر حال رجحت كفته بشكل لا ترغب به تركيا، كما يبدو حاليًا نتيجة صلابة الموقف الإيراني في سوريا مقابل هشاشة المدعومين من تركيا و بزوغ الأكراد، أما أن تكون تركيا بشكل عام حليفًا للسعودية على حساب علاقاتها مع إيران فإن هذه مسألة غير مرجحة على الإطلاق، ولا تناسب تركيا إستراتيجيًا أبدًا، بل إن خسارة إيران لأجل السعودية يضر تركيا في الحقيقة لأسباب كثيرة.
كل ما هنالك إذن أن أنقرة قد قررت أن تحقق مكاسب مرحلية على حساب التوتر القصير مع إيران بالتقارب مع السعودية والحصول منها على ما تريد، في مقابل تحييد دور السعودية المعادي للربيع العربي وتعزيز موقفه في الملف السوري، وجني بعض الثمار الاقتصادية في الطريق بينما تتجه استثمارات تركية عدة إلى الرياض ويتدفق سياح السعودية على إسطنبول، ولكن أيًا من ذلك لا يرقى لشراكة إستراتيجية طويلة المدى كتلك التي من المتوقع أن تتشكل، للمفارقة، بين تركيا وإيران حال التوصل لحل للملف السوري.
خاتمة
في المُجمَل، ستتركز جهود السياسة التركية في المرحلة القادمة في المشرق لتعزيز المعارضة قدر الإمكان بما فيها جبهة النصرة، بشكل يضمن أكبر قدر من الحضور حال تم الاتفاق على أي نظام سوري جديد، أو استمرت حالة الانفصال الفعلي بين الشمال والجنوب بشكل يحتم ظهور مركز قوة عربي سني في الشمال يحتوي تحركات الأكراد عن التمدد ويمنع تمدد داعش ويحفظ مصالح تركيا ويستضيف ربما في نقطة معيّنة اللاجئين السوريين، أما مسألة سقوط النظام بالكامل فهي مسألة لا تُهِم تركيا بقدر ما يهمها رحيل الأسد صوريًا، وأنقرة لا يبدو أن لها مصلحة في، أو حتى قدرة على، كسر الممر الإيراني الجنوبي، لا سيما أنها بشكل عام ستحتاج إلى احتواء الدور الإيراني والتوصل لصيغة مشاركة للنفوذ بالمنطقة بشكل عام لأهمية الاستقرار فيها للبلدين، كما أن تقاربها مع إيران سيكون حتميًا بالنظر للمصالح الجديدة الناشئة فيما يخص التجارة والطاقة مع أوروبا.