تقدير موقف: الآفاق المستقبلية لمعركة «سيف القدس»
أ. د. وليد عبد الحي
يلتقط كثير من الدارسين لجولات الصراع العربي الصهيوني «حدثًا» معينًا، ويحاولون تفسيره في ضوء اللحظة الآنية وبشكل معزول عن الاتجاه التاريخي للظاهرة التي تنتمي لها تلك اللحظة والحدث. ففي معركة سيف القدس (سمَّاها الصهاينة حارس الأسوار)، نجد التركيز على موضوع السعي الصهيوني لتهجير أحد أحياء مدينة القدس وهو حي الشيخ جرّاح، أو التركيز على الانتهاك الاستيطاني للأماكن المقدسة.
غير أنه لا يجب تغييب جوهر الصراع ألا وهو «الاستعمار الاستيطاني الصهيوني في فلسطين»، والذي أدى إلى جعل المنطقة العربية من أعلى مناطق العالم في مؤشرات عدم الاستقرار السياسي سواء بطريقة مباشرة (بالحروب والتي تتكرر بمعدل كل 4.5 أعوام)، أم غير مباشرة عبر العمليات الخاطفة أو الاغتيالات… إلخ. وعند تحليل أسباب كل من هذه الحروب منذ سنة 1948، سنجد «حدثًا» فجَّر الصراع الكامن بكيفية أو أخرى، وعليه فإن جولات الصراع المستمرة منذ 1948 ستتواصل إلى حين اجتثاث سبب هذا الصراع التاريخي، وهو الاحتلال.
ويكفي الإشارة إلى أن «إسرائيل» جزء من ظاهرة الاستعمار ومحكومة بقوانينها، فالتاريخ المعاصر يشير إلى أن 62 دولة مستقلة حاليًا كانت مستعمرات (استيطانية وغير استيطانية)، ونالت استقلالها خلال القرن العشرين.
ومن الضروري هنا التنبيه إلى أن المستعمرات الاستيطانية التي نالت استقلالها هي التي بقيت نسبة السكان الأصليين فيها أعلى من نسبة المستوطنين الغرباء، فإذا نقلنا الظاهرة إلى فلسطين، يتبين أن عدد الفلسطينيين حاليًا في فلسطين التاريخية يزيد بنحو ربع مليون نسمة عن مجموع عدد اليهود فيها، وهذا هو المأزق الأكبر لـ «إسرائيل»، وهو التفسير الأعمق لما جرى في حي الشيخ جراح، وما قد يحدث في أحياء ومدن وأرياف فلسطينية أخرى.
أولاً: معركة سيف القدس والاتجاه التاريخي للصراع
يمكن ربط تداعيات معركة سيف القدس بجوانبها المختلفة بالاتجاه التاريخي للصراع على النحو التالي:
1. موضوع القدس
على الرغم من القرار الأمريكي الذي اتخذه الرئيس السابق دونالد ترامب Donald Trump بنقل سفارة الولايات المتحدة إلى القدس في ديسمبر/كانون الأول 2017، ونفذه فعليًا في مايو/أيار 2018، إلا أن عدد السفارات الأجنبية في «إسرائيل» هو 90 سفارة، منها 88 في تل أبيب وسفارتان في القدس فقط (للولايات المتحدة وكوسوفو)، فإذا أضفنا إلى ذلك أن الإدارة الأمريكية الديموقراطية الحالية أوحت في عدد من بياناتها من الرئاسة والخارجية بأنها لا تريد تحديد موقف واضح لها من موضوع شرقي القدس، فهذا يعني أن موضوع القدس تحول إلى مسألة «ملتبسة»، وهو ما يمكن تعزيزه بالهبّة الحالية في القدس والشيخ جرّاح والمسجد الأقصى، وتعميق التردد لدى بعض الدول التي أوحت برغبتها في نقل سفاراتها من تل أبيب إلى القدس، ثم تراجعت مثل البرازيل، وهندوراس، وغواتيمالا، وهنغاريا، ومولدافيا، ورومانيا، بينما أعادت غواتيمالا سفارتها إلى تل أبيب بعد شهور قليلة من نقلها للقدس.
ذلك يعني أن اعتبار القدس عاصمة موحدة لـ «إسرائيل» أصابها التشكيك. فهذه الاشتباكات داخل القدس، ووصول الصواريخ الفلسطينية إلى مدينة القدس ذاتها مترافقة مع التوجه لاحتفالات «إسرائيل» بذكرى استكمال احتلالها للقدس عام 1967، تجعل من اعتبار القدس عاصمة موحدة لـ «إسرائيل» أمرًا حوله جدل كبير، ولم يتم التعامل معه من المجتمع الدولي كمسلمة سياسية في إطار الصراع العربي الصهيوني.
وقد تظهر آثار هذا التشكيك في مداولات مجلس الأمن اللاحقة من خلال تشتت المواقف الدولية الفاعلة حول موضوع القدس. ففي الوقت الذي تلتزم فيه أغلب دول العالم باعتبار شرقي القدس جزءًا من الأراضي المحتلة عام 1967، فإن الولايات المتحدة لا تلتزم بذلك، ولا تعد القدس عاصمة لدولة فلسطين المقترحة، ولا تلتزم بإعادة السفارة الأمريكية إلى تل أبيب، كما يتضح من بيانات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن Blinken Antony في مناسبات عدة.
غير أن من الضروري التنبه لبعض التغير، دون مبالغة في دلالات ذلك، في توجهات الحزب الديموقراطي الحاكم في الولايات المتحدة، وهو أمر بدأت النخب الفكرية الإسرائيلية تستشعره وتبدي قلقًا من تداعياته المستقبلية في حالة تواصل هذا الاتجاه الفرعي، والذي يبدو أنه سيتمحور في خاتمة المطاف على قضية حلّ الدولتين، والذي حاولت «إسرائيل» تجاوزها مستفيدة من البيئة السياسية التي صنعها ترامب في «صفقة القرن».
2. الصدمة الإسرائيلية بدور فلسطينيي 1948
شكّلت المظاهرات والاعتصامات والمشاركة الشعبية في التوجه نحو المسجد الأقصى من قبل فلسطينيي الأراضي المحتلة عام 1948، ظاهرة صدمت أغلب الخبراء والقيادات السياسية الصهيونية إلى الحد الذي حذر معه الرئيس الإسرائيلي رؤوفين ريفلين Reuven Rivlin من حرب أهلية، بل بلغ الأمر حدّ فرض حظر التجول على مدن في «إسرائيل»، وانتشار واسع للشرطة في الشوارع، مما دفع بعض وسائل الإعلام الغربية إلى وصف ما يجري في هذه المدن بأنه «جبهة مواجهة ثانية» إلى جانب المواجهة مع غزة.
وقد تنبه عدد من الباحثين الاجتماعيين الإسرائيليين إلى الترابط بين بُعدين في بنية المجتمع العربي في «إسرائيل» وهما: التمييز في الاقتصاد السياسي الإسرائيلي ضدهم، واستمرار ارتباطهم بمجتمعهم الفلسطيني ككل من خلال أحزابهم أو منظماتهم المدنية أو نخبهم… إلخ، ويبدو أن هذا التطور سيكون له تداعيات إستراتيجية أعمق مما يبدو للوهلة الأولى، فهذا التطور ليس منفصلاً عن تيار تاريخي توضحه مواجهات سابقة مع السلطات الصهيونية لعل أبرزها «يوم الأرض» عام 1976، والذي تحول لمناسبة سنوية يحييها الفلسطينيون في كل المناطق، وأصبحت تشكل عنصر تعميق لوحدة جغرافيا الشعب الفلسطيني وتنظر لها «إسرائيل» كظاهرة مقلقة وتعبير عن الترابط الفلسطيني.
3. التحول العربي الرسمي من طرف في الصراع إلى وسيط:
كرَّست معركة القدس التحول العربي التدريجي من طرف في الصراع إلى وسيط بين الطرف الفلسطيني والإسرائيلي، لكن قدرة هذا الوسيط على الضغط على المقاومة أكثر من قدرته في الضغط على «إسرائيل« للوصول إلى تسوية، فالأطراف العربية النشطة في محاولات التوسط خصوصًا مصر وقطر خوفًا من اتساع دائرة الصراع أو بطلب أمريكي من وراء الستار، تكشف في نشاطاتها الدبلوماسية عن توظيف إمكانياتها للضغط على الطرف الفلسطيني (من النواحي المادية والجيوسياسية واللوجستية) أكثر كثيرًا من القدرة على الضغط على «إسرائيل»، وهو ما يعني أن نتائج وساطاتها، أيًا كانت، هي تعبير عن تكريس لهذا التحول.
وتكشف معركة سيف القدس أن الدول العربية انقسمت إلى ثلاث مجموعات؛ دول تعترف اعترافًا كاملاً بـ «إسرائيل» وليست على استعداد لاتخاذ أيّ خطوات عملية ضد «إسرائيل» مهما تصاعدت حدة القتال، ودول تعمل في نطاق الدبلوماسية بالإنابة Proxy Diplomacy، والتي تعني أن الولايات المتحدة تكلف هذه الدول العربية بالتواصل مع خصوم واشنطن في المنطقة لنقل وجهة النظر الأمريكية لهم، ولكي تؤدي هذه الدول هذه الوظيفة فإنها تقدم بعض المساعدات لخصوم أمريكا في المنطقة سعيًا للوصول إلى قدر من بناء الثقة معهم. أما المجموعة الثالثة فهي التي أبقت تأييدها للمقاومة الفلسطينية دون إجراءات فعّالة.
4. تنامي التعاطف الدولي مع الفلسطينيين
دون العودة إلى عدد كبير من استطلاعات الرأي العام الدولي والتي دللنا عليها مرارًا في التقارير الإستراتيجية الدورية الصادرة عن مركز الزيتونة، فإن الجولة الحالية من المواجهة تتسق مع توجه يتنامى في تأييده للحقوق الفلسطينية منذ 1987 (الانتفاضة الأولى)، وقد كشفت هذه الاستطلاعات عن تزايد التأييد «النسبي» للفلسطينيين في أوساط الحزب الديموقراطي الحاكم في واشنطن، ولدى الرأي العام الأمريكي بشكل عام، كما أن تأييد 14 دولة عضوًا في مجلس الأمن الدولي لبيان عارضته أمريكا وحدها يؤشر على هذا التغير النسبي.
فإذا أضفنا لذلك انتقادات بعض المنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان أو بالشأن الإعلامي، يتبين لنا عودة الموضوع الفلسطيني لتصدر المشهد الدولي. ذلك يعني أن المواجهة أحيت فكرة أن جوهر الصراع في المنطقة هو الموضوع الفلسطيني، وأن حل هذا الصراع هو أمر جوهري، وهو ما يعني أن محاولة تهميش الموضوع الفلسطيني أمر ليس بالبساطة التي حاولت جهات مختلفة الترويج لها.
5. مأزق التطبيع
وضعت الاشتباكات المدنية والعسكرية دول التطبيع موضع الحرج أمام شعوبها والشعوب العربية بشكل عام، وهو ما اتضح في بياناتها الخجولة جدًا، ومحاولاتها المساواة بين طرفي الصراع، وهو الأمر الواضح بشكل جلي في بيان دولة الإمارات العربية المتحدة، بينما انتظرت البحرين الموقف السعودي لتنسج على منواله.
وقد دلت ردود الفعل الشعبية العربية والإسلامية على الهوة العميقة بين توجهات الإدارات العربية الرسمية وبين طموحات الشعوب العربية، وهو أمر تدرك القيادة الإسرائيلية أن له خطورة إستراتيجية على المدى البعيد، لكن مراقبة البيانات الرسمية العربية لأنظمة التطبيع العربية (القديمة والجديدة) تشير بشكل قاطع إلى أن هذه الدول ترى التشبث بالعلاقة مع «إسرائيل» والاعتراف بها أولوية تعلو على موضوع الأقصى والمقدسات أو الحقوق الفلسطينية، وأنها متشبثة بالعلاقة مع «إسرائيل» حتى لو مسّ ذلك عمق منظومة القيم الدينية والقومية العربية. ويعود ذلك إلى أن منظومة القيم لدى النظم السياسية في العالم العربي هي في جعل أولوية النظام السياسي تعلو على أولوية الدولة والمجتمع، وهي ترى أن العلاقة مع المنظومة الرأسمالية الغربية هي خير ضمان لأمن النظام السياسي، وأن العلاقة مع «إسرائيل» هي أحد الجسور الرئيسية لضمان تلك العلاقة.
6. البعد الديني في الصراع
تعمل الأنظمة السياسية العربية على عدم إحياء البُعد الديني للصراع خوفًا من تداعيات هذا الإحياء على أوضاعها الداخلية خصوصًا بعد جولات الصراع مع الحركات الدينية الوطنية في أكثر من دولة عربية، لذا ليست مصادفة أن التطبيع من ناحية وخنق الحركات الدينية من ناحية ثانية سارا جنبًا إلى جنب خلال العشرية الماضية، لكن المفارقة هي أنه في الوقت الذي تطبق الدول العربية على الوجدان الديني لمجتمعاتها لخنقه، ترخي «إسرائيل» الحبل على الغارب للوجدان الديني اليهودي وتعززه.
ولما كانت حركة حماس والجهاد الإسلامي تمثلان نموذجًا جاذبًا للوجدان العربي من ناحية، وتعبيرًا من ناحية ثانية عن تيار ديني واسع في المجتمع العربي، فإن نجاحهما في تحقيق أي مكاسب يتم النظر له من زاوية الأنظمة على أنه تعزيز لنموذج لا تريده وتتوجس منه خيفة.
7. تنامي الخبرة التقنية والتكتيكية لقدرات المقاومة العسكرية
تدل المواجهة في معركة سيف القدس على أن قدرة المقاومة من الناحية العسكرية تحسنت بقدر واضح وبشهادة الطرف الإسرائيلي، لكن ذلك لا ينفي أن ثمن المواجهة ليس هينًا، لكن متابعة الإعلام الصهيوني يدل بشكل واضح على نوع من «الإنهاك النفسي» للمجتمع الإسرائيلي الذي يشعر بأنه يعرف اشتباكًا يوميًا هنا وهناك منذ أكثر من 54 عامًا، خصوصًا مع تزايد تراجع تأييد الرأي العام الدولي لـ «إسرائيل» حتى في بعض الدول المؤيدة تقليديًا لها.
وتدل تقارير وزارة الصحة الإسرائيلية أن أعلى معدل انتحار في «إسرائيل» هو في مستوطنات غلاف غزة، ولا أظن أن ذلك جاء مصادفة بل هو، كما يؤكد علماء النفس الإسرائيليون، نتيجة الإنهاك النفسي والقلق النفسي الشديد والمتواصل، ولعل معارك غزة ووصول الصواريخ للقدس وتل أبيب يعمم هذا الإنهاك من مستوطنات «الغلاف» إلى «لب» الكيان الإسرائيلي نفسه.
وفي مقارنة لأداء المقاومة القتالي في هذه المواجهة قياسًا للمواجهات السابقة خصوصًا عام 2008، و2012، و2014، أشار المعهد القومي الإسرائيلي للدراسات الأمنية التابع لجامعة تل أبيب إلى ما يلي:
- التحسن في المستوى التقني للصواريخ الفلسطينية في هذه الجولة.
- تحسن في مستوى دقة إصابة الأهداف.
- تأثيرها في حجم الخسائر أصبح أعلى.
- التحسن في مستوى القيادة والسيطرة لدى التنظيمات الفلسطينية.
- تحسن واضح في مستوى التنسيق بين حركة حماس وحركة الجهاد الإسلامي.
- كان عدد الصواريخ في «الرشقة الواحدة» خلال معركة سيف القدس أعلى منه في المرات السابقة، وذلك بهدف إرباك عمل القبة الحديدية.
8. خَوَار السلطة الفلسطينية في رام الله
دلت معركة القدس الحالية على العجز المطلق لـ «سلطة التنسيق الأمني» الفلسطينية في رام الله، وثبت أن القرار الإستراتيجي في التوجهات الفلسطينية هو بيد حماس والمقاومة في غزة وليس بيد رام الله، وقد كان لهذا التحول أثره على التفكير الإسرائيلي.
فقد حذر الخبراء الإسرائيليون من إضعاف موقف السلطة الفلسطينية نتيجة العجز في المواجهة في غزة، وخصوصًا الآثار لذلك في مرحلة ما بعد محمود عباس، وهو أمر يستوجب من وجهة النظر الإسرائيلية طرح مبادرات تساعد السلطة الفلسطينية على استعادة ما تظنه موقعها في القرار الفلسطيني، بل تدعو بعض الدراسات الإسرائيلية إلى ضرورة التعاون مع أجهزة السلطة الفلسطينية لاعتقال أنصار حماس في الضفة الغربية، والعمل على إضعاف قدرة حماس على تحديد الأجندة الفلسطينية المستقبلية، كما توصي هذه الدراسات الإستراتيجية بضرورة جعل التفاوض خصوصًا مع مصر، محصورًا في السلطة الفلسطينية، وترك الإجراءات التكتيكية لحماس.
ثانيًا: الصورة المستقبلية
ثمة معركتان تترابط كل منهما بالأخرى، المعركة العسكرية والتي تغطي جميع فلسطين وتترك تداعيات على مجتمعي طرفَي الصراع، والمعركة السياسية التي تدور على ثلاثة مستويات هي:
- جهود دولية منفردة لوقف إطلاق النار.
- جهود دولية عبر الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار.
- نقاش داخل هيئات صنع القرار السياسي في كل من طرفَي الصراع.
ومن الواضح أن الإدارة الأمريكية كانت على تواصل مع كل من مصر وقطر لنقل وجهات نظرها لقيادة حماس عبر ما يسمى دبلوماسية الإنابة Proxy Diplomacy، ولكنها من جانب آخر عملت على:
- تعطيل أي بيان من مجلس الأمن الدولي لوقف القتال، على الرغم من أن ذلك يعرضها لنوع من العزلة الدبلوماسية أمام العالم، لأن 14 عضوًا يساندون البيان المقترح من أعضاء المجلس.
- التأكيد المستمر على التزامها بأمن «إسرائيل»، وتبرير الهجمات الإسرائيلية مع إشارات عابرة عن الحفاظ على المدنيين الفلسطينيين.
- الإعلان قبل بدء معركة سيف القدس بأيام عن موافقتها على تقديم سلاح لـ «إسرائيل» قيمته نحو 735 مليون دولار. وتحاول بعض الجهات الأمريكية تفسير الكشف عن الصفقة بأنها لاسترضاء «إسرائيل» للموافقة على وقف إطلاق النار.
ذلك يعني أن إعلان وقف إطلاق النار دون تحديد البيئة السياسية التي تترافق مع هذا القرار يمثل انتصارًا لدبلوماسية الإنابة على الدبلوماسية الدولية التي يمثلها مجلس الأمن، على الرغم من أن توجهات دول المجلس تبدو متقدمة على أطراف دبلوماسية الإنابة استنادًا للخبرة التاريخية مع هذه الدبلوماسية.
وعند النظر في اتفاقات وقف إطلاق النار، لا بدّ من مراجعة المعارك السابقة بين المقاومة الفلسطينية وبين الجيش الإسرائيلي خلال الفترة 2008-2021، حيث نجد عددًا من المؤشرات ذات الدلالة:
- إن 3 من أصل 4 حروب على قطاع غزة وقعت في زمن الإدارات الأمريكية الديموقراطية، وهو ما يعني أن المراهنة على الإدارات الديموقراطية فيها تناقض مع الاتجاه التاريخي للسلوك الأمريكي.
- إن جميع اتفاقات وقف إطلاق النار تمت من خلال دبلوماسية الإنابة التي تجسدها الدبلوماسية المصرية، وتكريس التحول من طرف في الصراع إلى وسيط.
- تغييب دور الأمم المتحدة، ففي هذه الحروب الأربعة وخلال 13 عامًا، لم يتم ترتيب أي وقف لإطلاق النار من خلال الأمم المتحدة، نظرًا للموقف العدائي المعروف من «إسرائيل» تجاه الأمم المتحدة.
- إن الإطار السياسي لاتفاقات وقف إطلاق النار غير واضح في الحروب الأربعة، وهو ما يعني أن كل وقف إطلاق نار هو توفير فرصة للأطراف للتهيؤ للحرب التالية، فقد ربطت حركات المقاومة في غزة بين وقف إطلاق النار الأخير وبين التراجع عن السياسات الإسرائيلية تجاه قضية الشيخ جراح والممارسات الأمنية الإسرائيلية تجاه المسجد الأقصى، وهو أمر لم يتضح في بنود اتفاق وقف إطلاق النار، مما يعني أن الحرب القادمة هي مسألة وقت لا أكثر.
- كشفت معركة سيف القدس أن أغلب الدول العربية لم تتخذ أي موقف «عملي» سواء بشكل مباشر أم غير مباشر لمساندة المقاومة.
- يبدو أن صمود المقاومة وأداءها القتالي دفع الحكومة السورية لتقديم إشارات إيجابية تجاه حماس، بعد أن سبق أن اتخذت موقفًا سلبيًا تجاهها.
ثالثًا: التوصيات
1. ثمة عنصر ضاغط على الطرف الإسرائيلي في هذه المواجهة الأخيرة، وهو حالة الاضطراب في العلاقات الفلسطينية الإسرائيلية داخل الخط الأخضر، والقلق من توسعها وميلها لمزيد من العنف، إلى جانب الشلل الذي أصاب مرافق حيوية إسرائيلية من طيران مدني أو قطارات أو تعطيل للمدارس والمصانع، والاستمرار لمئات الآلاف في الملاجئ، وهو ما يستدعي من قيادات المقاومة إيلاء استمرار التواصل مع هذا القطاع من الشعب الفلسطيني أولوية كبرى.
2. العمل مع الحلفاء الإقليميين والدوليين على إعطاء الأمم المتحدة دورًا يتوازى في أضعف الاحتمالات مع دبلوماسية الإنابة إنْ لم تتوفر فرصة ترجيح دور الدبلوماسية الدولية، خصوصًا أن هناك عداءً شديدًا للأمم المتحدة من «إسرائيل» والولايات المتحدة.
3. العمل على رص الصفوف مع بقية قوى محور المقاومة، بما يخدم توسيع دائرة مواجهة العدو الصهيوني.
4. إن المعركة السياسية بعد وقف القتال ستتمحور حول الأبعاد التالية:
- ستسعى «إسرائيل» لجعل الهدنة هدنة دائمة.
- ستعمل «إسرائيل» على اتخاذ إجراءات لتثبيت الانطباع بأنها لم تتراجع عن مصادرة منازل الشيخ جراح والانتهاك للأقصى.
- سيتم ربط إدخال المساعدات لغزة بشروط إسرائيلية حول أنماط المساعدات المالية وغير المالية وقوائم المواد المسموح إدخالها وتوقيتاتها والجهات التي تقدمها، وستعمل على عرقلة المساعدات من إيران وتركياـ وسيتم جعل موضوع الجنود الإسرائيليين الأسرى، أو جثث قتلاهم، عند المقاومة في غزة جزءًا من المساومات في مرحلة ما بعد وقف القتال.
- سيتم تعامل القوى الدولية الفاعلة مع طرفين فلسطينيين تتباين توجهاتهما الإستراتيجية، فالمقاومة تسعى لتصليب مقومات المقاومة بينما تسعى السلطة الفلسطينية للعودة للاستظلال بشجرة أوسلو الجافة، وستعمل «إسرائيل» على تدعيم المسار الثاني بقيادة السلطة الفلسطينية.
- ستحاول «إسرائيل» ربط موضوع المظاهرات وإطلاق البالونات الحارقة من القطاع تجاه مستوطنات غلاف غزة بموضوع فتح المعابر لدخول المساعدات للقطاع.
- ستربط «إسرائيل» تفاوضها مع الأردن بخصوص «الوصاية الهاشمية» بأن تقوم الأردن باستبعاد العناصر التي تراها «إسرائيل» قريبة من المقاومة من أي نشاطات خاصة بالفعاليات الدينية أو غيرها في الأقصى.
5. ضرورة استثمار معركة سيف القدس استثمارا إعلاميًا وثقافيًا لتأكيد فعالية العمل المقاوم مقارنة بدبلوماسية أوسلو التي فشلت فشلاً ذريعًا، وهو ما يؤسس لتوسيع القاعدة الشعبية المساندة للمقاومة.
6. تعزيز وتطوير دور الغرفة المشتركة لتنظيمات المقاومة في غزة خصوصًا في مجال إصدار البيانات العسكرية في حالة تجدد الاشتباكات، وهو أمر محتمل بدرجة كبيرة، في ظلّ التمويه الذي رافق شروط وقف إطلاق النار.