مستقبل إيران بعد انسحاب أميركا من الاتفاق النووي
بهذه الكلمات الموجزة عبّر المرشد الأعلى للجمهورية الإيرانية «علي خامنئي» عن رؤيته للتفاوض مع واشنطن بخصوص البرنامج النووي، وهي رؤية ثبتت صحتها بعد أقل من ثلاث سنوات على إبرام الاتفاق، إذ قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب الانسحاب من الاتفاق مساء أمس الثلاثاء، اتساقًا مع رؤيته له بأنه «أسوأ اتفاق جرى التفاوض عليه على الإطلاق».
الطريق إلى تمزيق الاتفاق النووي
تعود بداية أزمة البرنامج النووي الإيراني إلى العام 2003، عندما عثرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية على آثار يورانيوم مخصب بدرجة عالية في شركة «كالايا» للكهرباء بطهران. اضطرت إيران، خوفًا من مصير العراق البشع، إلى التوقيع على اتفاق مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا يقضي بتعليق أنشطة تخصيب اليورانيوم والتوقيع على البروتوكول الملحق بمعاهدة حظر انتشار السلاح النووي، لكنها سرعان ما تراجعت بذريعة أن الاتفاق «غير متوازن».
شهد البرنامج النووي الإيراني نقلة كبيرة بانتخاب (الأصولي) محمود أحمدي نجاد رئيسًا للبلاد في العام 2005، إذ تم تفعيل البرنامج النووي دون الاكتراث للتهديدات الغربية ووُضع حجر أساس مفاعل «أراك» للماء الثقيل، وهو ما دفع مجلس الأمن الدولي، عام 2006، إلى فرض حظر على تزويد إيران بالمعدات اللازمة لتخصيب اليورانيوم وإنتاج الصواريخ الباليستية.
اعتمد الغرب في تعامله مع إيران، خلال تلك الفترة، إستراتيجية «العصا والجزرة»؛ باليد اليمنى نوقع على العقوبات الاقتصادية، وباليد اليسرى نمد جسورًا للتواصل بُغية الوصول إلى اتفاق لتسوية الأزمة.
دخلت إيران والقوى الدولية (مجموعة 5 + 1) في مفاوضات وُصفت بـ «الماراثونية» على مدى 9 أعوام (2006 – 2015). عض الطرفان فيها أنامل بعضهما البعض، بكل الطرق الممكنة، لأجل التوصل إلى اتفاق مُرضٍ، وهو ما حدث في يوليو/ تموز 2015.
بدا الجميع سعيدًا بالوصول إلى هذا «الاتفاق التاريخي»، باستثناء إسرائيل و بعض الدول الخليجية، لكن أحدًا من هؤلاء لم يكن قادرًا على هدم الاتفاق، وبقي الوضع ساكنًا. لكن هذا السكون لم يستمر طويلًا، إذ سرعان ما كسره فوز دونالد ترامب المفاجئ برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية، فبدأ العد التنازلي لتدمير الاتفاق.
دأب ترامب على انتقاد الاتفاق النووي مع إيران منذ أن كان مرشحًا محتملًا للانتخابات الرئاسية الأميركية، إذ وصفه في ذلك الحين بأنه «اتفاق يخدم جهة واحدة فقط، هي إيران». ولم يختلف نهجه بعد توليه الرئاسة، ففي كل مناسبة كان يعبر عن رفضه للاتفاق وانتقاده لإدارة أوباما التي أبرمته.
في إحدى هذه المناسبات الكثيرة قال: «اتفاق إيران أحد أسوأ الاتفاقات التي رأيتها. اتفاق إيران ليس عادلًا لهذه البلاد. إنها صفقة ما كان ينبغي إنجازها أبدًا». كما اتهم إيران غير ذات مرة بتمويل الإرهاب في الشرق الأوسط عبر دعم حزب الله وحماس وطالبان والقاعدة.
عضد ترامب موقفه من إيران واتفاقها النووي عبر إجراء العديد من التغييرات في إدارته. يمكننا رؤية إقالة وزير الخارجية ريكس تيلرسون في هذا الإطار، إذ تم استبداله بـ«بومبيو» صقر المخابرات الكلاسيكي، الذي لا يخفي عداءه لإيران ومعارضته للاتفاق النووي. وحتى تكتمل الجبهة، جاء ترامب بـ«جون بولتون» بديلًا لـ «هربرت ماكماستر» كمستشار للأمن القومي، وهذا الأول لا يضاريه أحد في معارضته لجمهورية الفقيه. يركز في رؤيته على ضرورة الهجوم على إيران في كل مناطق نفوذها، بل إن تأييده لغزو العراق ومعارضته الانسحاب الأمريكي منها مبرره أنه الحديقة الخلفية لإيران، التي يمكن استغلالها في إسقاط النظام الإيراني.
موقف ترامب من الاتفاق مع طهران، مثّل فرصة لا يمكن أن تعوض لإسرائيل وبعض الدول الخليجية التي ترى في إيران «الشيطان الأكبر» من جراء سياساتها الخارجية المقوضة لمصالحهم في المنطقة، والذين يعتقدون أن إدارة أوباما تهاونت معها وسمحت لها بالتمدد في المنطقة وتوسيع نفوذها على حسابهم. لم تكن هذه الدول بحاجة سوى إلى الضغط قليلًا وتقديم بعض الإغراءات لتشجيع ترامب على اتخاذ القرار. حدث هذا في صور شتى، أبرزها إبرام صفقات تسليح ضخمة، وتفعيل اللوبيات التي تعمل لحسابها في الداخل الأميركي للضغط على إدارة ترامب، وصب البنزين على النار عبر تقديم وثائق سرية «تثبت أن إيران أخفت برنامجها للتسلح النووي» على طريقة بنيامين نتنياهو المسرحية.
اقرأ ايضًا: إسرائيل وإيران بين حتمية المواجهة وتعدد الآليات
على الجانب الآخر، تعتقد الأطراف الأخرى المشارِكة في الاتفاق النووي، خاصة الأطراف الأوروبية، أن الانسحاب الأميركي من الاتفاق المبرم مع طهران خطأ كبير، لا سيما وأن طهران «تنفذ التزاماتها المرتبطة بالبرنامج النووي في إطار اتفاق 2015»، بحسب تأكيدات الوكالة الدولية للطاقة الذرية. لأجل هذا، سعت هذه الدول إلى إثناء الولايات المتحدة عن اتخاذ قرار الانسحاب من الاتفاق بكل قوة. تزعمت هذه الجهود المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وكان آخرها في أبريل/ نيسان الماضي خلال زيارة ماكرون إلى واشنطن.
موقف الدول الغربية نابع من رغبتها في عدم الدخول في مفاوضات تمتد لعشرة أعوام أخرى، ومن تخوفها من الاضطرابات التي ستحدث إذا أُلغي الاتفاق، ولعدم وجود سبب حقيقي للانسحاب من الاتفاق في ظل الالتزام الإيراني، سوى رغبة ترامب -التي لا تكن له كثيرًا من الود-. يضاف إلى هذا رغبة هذه الدول في الدخول إلى السوق الإيراني الكبير والاستثمار فيه، وهو أمر ستعرقله العقوبات التي ستفرض مجددًا.
فعلى سبيل المثال بلغ إجمالي الواردات الإيرانية من 4 دول أوربية (ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وهولندا ) نحو 5.2 مليار دولار خلال الشهور التسعة الأولى من العام 2018/2017، وفقًا للتقويم الإيراني. ومن المؤكد أن أوروبا ستخسر هذه المليارات حال انهيار الاتفاق النووي بالكامل.
في النهاية، لم تلق المحاولات الأوروبية أو النصائح الصينية آذانًا صاغية في الإدارة الأميركية، وقرر ترامب الانسحاب الأحادي من الاتفاق النووي مع إيران، تاركًا أبواب التكهنات مفتوحة على مصراعيها.
هل تستطيع أميركا معاقبة إيران حقًا؟
يقول الكاتب الأميركي بيتر هاريل، في تحليل له بمجلة فورين أفيرز الأمريكية، إن صناع القرار في إدارة ترامب يعتقدون أن العقوبات الأميركية التي ستفرض على طهران عقب انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي، ستؤدي إلى ضغوط اقتصادية خانقة على إيران، ويزعمون أن هذا الضغط سيعطي واشنطن نفوذًا لإعادة التفاوض على صفقة جديدة بشأن برنامج إيران النووي، والضغط على طهران لكبح دعمها لحزب الله اللبناني والنظام السوري، وغيره من الأنشطة الخبيثة في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
يغفل هؤلاء، بحسب هاريل، أن الطريقة التي تعمل بها العقوبات أكثر تعقيدًا بكثير. فالأمر استغرق 10 سنوات من الجهود المشتركة بين الكونغرس واثنين من رؤساء الولايات المتحدة -جورج دابليو بوش وباراك أوباما- لشل الاقتصاد الإيراني.
وبالتالي فإعادة بناء الضغط الاقتصادي سيكون تحديًا أكبر، نظرًا للمعارضة الدولية للانسحاب الأمريكي. كما أن المبرر الأمريكي السابق لفرض عقوبات على الشركات الإيرانية كان ارتباطها ببرنامج إيران النووي، لكن هذه المرة، وكما يعترف مسؤولو إدارة ترامب، فإن إيران قد امتثلت لالتزاماتها النووية منذ أوائل عام 2016، ما يجعل من غير المحتمل أن تظهر واشنطن أن أيًا من الشركات التي أزيلت من قوائم عقوبات الولايات المتحدة قد شاركت مؤخرًا في الأنشطة النووية الإيرانية. وبدلًا من ذلك، سيتعين على ترامب تحديد أساس قانوني جديد لتحديد الشركات التي تريد الولايات المتحدة فرض عقوبات عليها.
اقرأ أيضًا: عندما يهوى السياسيون السير في الطريق الخطأ.
كما سيواجه ترامب تحديات دبلوماسية هائلة لإقناع الحكومات والشركات الأجنبية بقطع أعمالها مع طهران. فبين عامي 2006 و 2015، انخرطت إدارتا بوش وأوباما في حملة دبلوماسية متطورة متعددة المحاور لإقناع الحكومات والشركات الأجنبية بالانضمام إلى الولايات المتحدة في فرض العقوبات على إيران.
أما الآن فأقرب حلفاء الولايات المتحدة سيرفضون مقاطعة إيران لالتزامهم بالاتفاق النووي المبرم معها، وهو ما سيشكل تحديًا ضخمًا للدبلوماسية الأمريكية. لأجل كل هذا يعتقد «هاريل» أن أثر العقوبات الأمريكية سيكون محدودًا، على الأقل في المدى المنظور.
هل دق ترامب ناقوس الحرب؟
قرار ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع طهران أثار مخاوف كثيرة من احتمال اندلاع حرب واسعة في المنطقة. الجميع متأهبون للحرب؛ أمريكا، إسرائيل، إيران وحلفاؤها، فهل تندلع الحرب قريبًا؟
تدفع التغييرات، التي تمت في الإدارة الأميركية مؤخرًا وأتت بأنصار معسكر مهاجمة إيران (بومبيو – جون بولتون) إلى قمة السلطة، البعض إلى الاعتقاد بأن الحرب على إيران يتم الاستعداد لها على قدم وساق. لكن نظرة متأنية في تاريخ الحروب الأمريكية في المنطقة خلال العقدين الماضيين، ستخبرنا أن الولايات المتحدة كانت حريصة كل الحرص ألا تخوض حربًا دون حلفائها في أوروبا، بل حتى الضربات العسكرية المحدودة لم تعد تقوم بها سوى بدعم ومشاركة أوروبية، والضربة العسكرية الأخيرة في سوريا خير دليل على ذلك، فالولايات المتحدة لم تهاجم المنشآت الكيماوية السورية سوى بمشاركة فرنسية بريطانية.
اقرأ أيضًا: ترامب يخطط للحرب العالمية: 3 تغييرات تشرح لك
يدفعنا هذا إلى استبعاد أن تقوم الولايات المتحدة بعمل عسكري ضد إيران، فهي في النهاية تقف وحيدة ومعزولة من شركائها الأوروبيين الذين يدعمون طهران، وبالتالي لن تغامر بالقيام بضربة عسكرية تعلم أن الجميع سيرفضها، وتعلم أنها لن تؤثر على إيران التي لن تتأخر في الرد بكل قوة. تكهنات تقول بخوض الولايات المتحدة حربها مع إيران من خلال الحلفاء الخليجيين وإسرائيل، لكن هذا إن تم فسيُحول المنطقة بأكملها إلى قطعة نار.
إسرائيل التي تستعد وتتأهب، وضعها لا يختلف كثيرًا عن وضع الولايات المتحدة، باسثناء أن لها خطوط تماس مع إيران في سوريا. قد تقوم تل أبيب بشن هجمات استباقية على أهداف إيرانية في سوريا، وقد ترد إيران بهجمات مماثلة في الجولان، لكن أن يتحول الأمر من «عض للأنامل» وإثبات للمواقف إلى حرب شاملة، فهو أمر مستبعد.
وبالنسبة لإيران الغاضبة، فرغم أن الانسحاب الأمريكي من الاتفاق سيُقوي شوكة التيار المتشدد الرافض للاتفاق من البداية، إلا أنه من المستبعد أن يؤدي هذا إلى القيام بعمل عسكري ضد الولايات المتحدة أو إسرائيل. ففي النهاية الاتفاق النووي لا يزال قائمًا مع باقي القوى الكبرى، التي من المؤكد ستسعى لتعويض إيران لتبريد رد فعلها.
يعضد من هذه الرؤية خطاب الرئيس الإيراني حسن روحاني، بعد ساعات من انسحاب ترامب من الاتفاق الإيراني، الذي أكد فيه على أن «الاتفاقية سوف تبقى. وإذا رأينا أن مصالحنا لن تتحقق، فسوف نتخذ القرارات اللازمة، ونخبر بها الشعب الإيراني».