بين المجتمع والسياسة: مستقبل الهجرة في ضوء أزمة كورونا
في هذا المقال، سيتم فحص التوقعات الأكثر ترجيحًا حول مستقبل الهجرة الدولية في ظل جائحة كورونا. بشكل عام، هناك بعض المجالات الفرعية التي يتم من خلالها توقع التقديرات ذات البعد الهجراتي، مثل انخفاض أو زيادة أعداد المهاجرين في أقطار العالم المختلفة، ومنحنى التنوع في النسيج المجتمعي والثقافي والطبقي للبنى السياسية والمجتمعية للدول، وانخفاض أو زيادة الهجرة النظامية وغير النظامية، والتأثير على تدفق رأس المال والتحويلات المالية من الخارج إلى الوطن، والحراك الاجتماعي، وتأثيرها على سوق العمل والاقتصاد السياسي.
ولفهم السلوك البشرى التفاعلي بين المهاجر والمستضيف، علينا تعقب التغييرات في أنماط الخطابات والتصورات الوطنية والدولية تجاه قضية الهجرة والمهاجرين، وغيرها من العناصر التي تعد هامة لمعرفة كيف ستتأثر الهجرة وما يدور في فلكها في المستقبل في ظل أزمة الوباء وما بعده.
السيناريوهات المحتملة حول مستقبل الهجرة
تتفق تحليلات أساتذة العلاقات الدولة والأكاديميين والتقارير الدولية جميعها في حتمية تأثر الهجرات الدولية ببعض الطرق في ضوء الأزمة. من خلال فهم ديناميكيات كل طريقة، يمكننا الوصول إلى رؤية أقرب لتحديد كيفية استمرار الهجرة الدولية بعد الوباء.
السيناريو الأول:
يقترح السيناريو الأول أن تتراجع حركة التنقل بين الحدود، حيث تزداد أهمية سيادة الدول في السياسة الدولية. وبالتالي، ستكون هناك سياسات أكثر صرامة في المستقبل لتعزيز المصلحة والسيادة الوطنية على حساب استقبال موجات هجرة.
ستعمل الدول على إعادة توظيف العمالة الوطنية. ويقترح هذا السيناريو أن المستقبل القريب سيحمل مساحة لعمليات توظيف أكبر للعمال المؤهلين وذوي المهارات العالية الذين يخدمون المصلحة الوطنية على حساب المهاجرين غير المهرة.
بالإضافة إلى ذلك، سيتم توفير الوصول إلى الفرص والخدمات بالتساوي بين المواطنين المحليين والمهاجرين المهرة. لذلك، يشير الاحتمال الأول بقوة إلى أنه خلال العقود القادمة، سيكون هناك إعادة إنتاج لديناميكيات الهجرة تحت إطار المصلحة الوطنية العليا والأمن القومي.
السيناريو الثاني:
الاحتمال الثاني يشير إلى حدوث انهيار (ضعف) في دور الدول بعد أزمة الهجرة فيما تصعد المؤسسات الدولية. هناك أزمتان رئيسيتان، ستظلان تؤثران عالميًا ووطنيًا، وهما النزاعات الداخلية من جهة، وما يتبع تلك الأزمات من موجات هجرة من ناحية ثانية.
ستؤدي هاتان الأزمتان الرئيسيتان إلى تفعيل دور المؤسسات الدولية والإقليمية. ستواجه أنظمة السلام والأمن تحديات بعد تزايد هاتين الأزمتين. وسيبرهن هذا السيناريو على أن نظام مراقبة الحدود ونظام مراقبة الهجرة ونظام الحماية الدولي سوف ينخفض تدريجيًا. لذلك يُعتقد أن دور المؤسسات سوف يتزايد للحد من الأزمات العالمية المتوقعة المذكورة.
السيناريو الثالث:
السيناريو الثالث يعتبر متفائلاً بعض الشيء من حيث الوضع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي للمهاجرين كأفراد وشبكات اجتماعية. ومن المتوقع أن تكون هناك عمليات تنشيط لبعض برامج التنمية المستدامة لصالح الهجرة والمهاجرين. وهذا سيعمل على تحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية للمهاجرين، حيث ستزداد المساعدات الاجتماعية الوطنية والمؤسسية مما يشجع الثقافة الشعبية التعاونية للوقوف جنبًا إلى جنب مع العمال المهاجرين وذويهم وخاصةً النازحين منهم.
بالإضافة إلى ذلك، يقترح هذا السيناريو أن تأخذ المبادئ الديمقراطية الاجتماعية (الحقوق السياسية والمدنية والاجتماعية والاقتصادية طبقًا لمواثيق حقوق الانسان وميثاق العمال المهاجرين وأسرهم) حيزًا أوسع لصالح موجات الهجرة.
ستحاول كل من الدول والمؤسسات تقديم حلول مستدامة. سيكون هناك المزيد والمزيد من السياسات التكاملية والشاملة التي سيتم تقديمها إلى المجتمعات المضيفة لتحسين وتطبيع العلاقة الإيجابية والوعي بين الثقافات المختلفة في كل من الدول المُرسِلة والمُستقبِلة.
ومن ثَمَّ، يتوقع هذا السيناريو أن تكون هناك سياسات تعاونية تسمح للمهاجرين بالوصول إلى الفرص الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، مع عدم احتكارها لفئة وطبقة وطنية مهيمنة. لذلك، سيكون هناك نظام عمل أكثر تكاملًا، وحركة بشرية تنقلية أسهل.
السيناريو الرابع:
يتمحور السناريو الأخير حول «الأفراد والتنمية» بشكل أصيل، ويتوقع أن نشهد تعديلات على مستوى الأفراد المهاجرين من خلال ممارساتهم اليومية وطريقة كسب العيش والتفضيلات الاجتماعية والاقتصادية وطريقة التنقل. كما ستتغير طريقة الاندماج في السوق.
يتوقع هذا السناريو أنه سيكون هناك ميل نحو «العمل الحر» بشكل واسع، وزيادة في استخدام الاتصالات المعولمة والأنظمة التكنولوجية لتحقيق أرباح على مستوى عالٍ، خاصةً في القطاعات الاقتصادية الصغيرة والمتوسطة. إذن، فإن هذا السيناريو يشير إلى أن المستقبل ذا البعد الهجراتي سيتمحور حول الفرد ورفاهيته وأمانه وتطوره، بدلًا من النظام أو الدولة أو المؤسسات.
علاوة على ذلك، فإن الفكرة الأكثر توافقًا هي أن الفروق والفصل بين الأطراف والمركز، البلدان النامية والمتقدمة، والريفية والحضرية، والشمال والجنوب، والبلدان المستقرة وغير المستقرة، والآمنة وغير الآمنة، ستؤدي إلى المزيد من اضطرابات الهجرة المعقدة وديناميتها في المستقبل.
العوامل المؤثرة في حركة الهجرة أثناء وبعد الوباء
قوة العمالة المهاجرة:
أولاً، «القوة العاملة» القوة العاملة المهاجرة تعد من أهم العوامل، بل تعتبرها بعض الأدبيات الأكثر أهمية للاقتصاد المعولم. قد لا يتمكن أولئك الذين يسافرون من أجل العمل من العثور على عمل لائق في المستقبل المنظور، وسيكون لهذا آثار ملحوظة على الأسرة والاقتصاد وربما الأمن الغذائي.
العمال المهاجرون موجودون حاليًا في الخارج، وقد لا يتمكنون من العودة إلى بلدانهم. ومن الواضح أن الشركات، مع إطاعتها لأوامر «البقاء في المنزل»، ستُسرِّع أيضًا من تطوير قدرات الأتمتة، وبالتالي القضاء على بعض الوظائف التي غالبًا ما يشغلها المهاجرون بشكل أكبر.
بالإضافة إلى ذلك، في معظم الصناعات، سيكون الجانب الأكبر من حركة تسريح العمال -بسبب انتشار فيروس كورونا- من نصيب العمال المهاجرين، لأن العديد منهم يحملون تأشيرات مؤقتة ولا يملكون إذن عمل وتأمينًا صحيًا، وهذا يؤدي إلى عمليات استغلال عنيفة، مما يضطر بعض العمال المهاجرين إلى ترك أعمالهم لهبوط منوال الرضاء والأمان الوظيفي.
عندما يضطرون إلى ترك عملهم، سيحاولون العثور على وظيفة أخرى، أو الحصول على نوع مختلف من التأشيرات، أو محاولة العودة إلى بلدانهم الأصلية في مواجهة صعوبات اقتصادية أكبر. أمّا بعد انتهاء أزمة فيروس كورونا، يتوقع محللون أن الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول ستعمل على تشجيع الشركات على توظيف المواطنين لزيادة الإنتاجية، الأمر الذي سيكون له آثار مستدامة على العمال المهاجرين وأسرهم ومجتمعاتهم.
حركة الهجرة والهجرة غير النظامية:
ثانيًا، «إغلاق الباب أمام موجات الهجرة»، حيث يعد هذا عاملاً أساسيًا في أوقات الأزمات ذات الطبيعة الصحية. لقد حقّق السياسيون المناهضون للمهاجرين نجاحًا انتخابيًا حول العالم في السنوات الأخيرة. أجبر فيروس كورونا جميع الدول على فرض قيود صارمة على السفر والعلاجات الطبية للمهاجرين. واعتُبر ذلك بمثابة فرصة للقوميات الثقافية اليمينية المتطرفة لمنع المهاجرين من دخول الجغرافيا الأوروبية.
ثالثًا، «زيادة الهجرة غير الشرعية وغير النظامية»، حيث يتبين أن القيود المفروضة على الهجرة النظامية بسبب الجائحة تجبر المهاجرين (خاصة أولئك الذين يفتقرون إلى الاحتياجات الاجتماعية والاقتصادية الأساسية) على اتباع مسارات غير نظامية للهروب من الاضطهاد وانعدام الأمن داخل دولتهم أو إقليمهم.
مع ظهور فيروس كورونا وانتشاره، أصبحت وسائل الهجرة النظامية أقل مما كان عليه في السابق. بالإضافة إلى ذلك، فإن الآثار الاقتصادية وعدم المساواة وسياسات الاستجابة والآثار السلبية المتعلقة بالنزوح ستزيد جميعها من يأس المهاجرين. وبالتالي فإن أولئك الذين يشعرون بأنهم مجبرون على الانتقال سوف يستخدمون بشكل متزايد «تجار الآمال» (تجار التهريب) وغيرهم من الجماعات غير القانونية للهروب من أشكال عدم اللا مساواة والهشاشة العملية، التي تنفجر سوءًا مع أبسط أنماط الأزمات.
هذا النوع من النزوح من المرجح أنه سيكون نزوحًا إقليميًا-إقليميًا، بمعنى أنه ستزداد الهجرة بشكل أساسي داخل وبين البلدان النامية ذات النظم الصحية الضعيفة، وبشكل ثانوي إلى الدول ذات البنية التحتية الصلبة والمُحفِّزة لموجات الهجرة.
أولئك الذين يسافرون بشكل غير قانوني هم مهاجرون غير شرعيين، يخاطرون ويعبرون الحدود بحثًا عن فرص جديدة للهروب من الموت في بلدانهم الأصلية. يتم تعريفهم قانونيًا إمّا لاجئون أو طالبو لجوء، كما تنص اتفاقية اللاجئين لعام 1951، ويطلبون الحماية من المنظمات الدولية أو الدول المستقلة.
الفجوة الطبقية والمجتمعية:
رابعًا، بسبب الوباء، ستزداد الفجوة الطبقية بين الفقراء والأغنياء أكثر فأكثر. على سبيل المثال، يمتلك أغنى 22 رجلًا في العالم ثروة أعلى من جميع النساء الإفريقيات. وقرابة 2000 شخص يمتلكون ثروة تفوق ما يمتلكه قرابة 4.5 مليار شخص فقير في العالم.
بالإضافة إلى ذلك، من المتوقع أن تزداد هذه الفجوة أكثر على المدى القصير والطويل مع تأثير الوباء على الهجرة الدولية. ففي ظل أزمة كورونا، يضطر المهاجرون غير المهرة إلى ترك وظائفهم، ويتعين عليهم العمل جسديًا في أسوأ الظروف، وسيؤدي ذلك إلى تهديد صحتهم وصحة الآخرين أيضًا.
ليس فقط هذا التصنيف الطبقي (بين الفقراء والأغنياء) الذي سيشهد تفاوتًا، بل أيضًا التفاوت بين الطبقات (وداخل فئات نفس الطبقة في بعض السياقات) بمعناها الحديث، مما يضعف من عملية الحراك الاجتماعي، مثل ذلك التفاوت الذي نشهده بين طبقة العمال (المهرة وغير المهرة) ومديري الأعمال (المهنيين والأقل مهنية) والبرجوازيين (الكبار والصغار) ومالكي الأعمال.
حتى العمال المهاجرين غير المهرة والفقراء، لا يمكنهم الحصول على فرصة صحية، لأنهم لا يستطيعون الحصول على المال للحصول على الدواء. وبالتالي، هناك عدد كبير من المهاجرين سيتوقفون عن العمل بسبب الأزمة الاقتصادية والصحية أثناء وبعد الوباء، الأمر الذي سينتج عنه المزيد من المهاجرين الفقراء والأفقر، فيما يصبح أصحاب رؤوس الأموال والبرجوازيون الصغار أكثر ثراءً نتيجة الفائض وأنماط الاستغلال الهيكلية والممنهجة التي يورثها النموذج الرأسمالي.
اللاجئون والمشردون قسرًا وطالبو اللجوء والنازحون داخليًا:
خامسًا، سيعاني المهاجرون قسرًا وطالبو اللجوء أكثر في المستقبل خلال فترة الوباء وبعدها. من المتوقع أن يكون للاجئين وطالبي اللجوء خيارات وحقوق أقل للتنقل والانتقال إلى مناطق جغرافية أكثر سلمًا في العالم بسبب الحجر الصحي الإجباري لمدة أسبوعين (أو أسبوع) الذي تفرضه السلطات الرسمية للدول.
ستؤدي صعوبة الحركة إلى تقليل فرص العمل بطبيعة الحال، وبالتالي، المزيد من المعاناة الاجتماعية والاقتصادية، أو حتى فقدان حياتهم في حالة الهجرة غير الشرعية برًا أو بحرًا.
ستتخذ وكالات الأمم المتحدة المتعلقة بقضايا الهجرة واللاجئين سياسات أقل كفاءة فيما يتعلق بإعادة توطين اللاجئين على مستوى العالم (كواجب) بسبب مخاوف فيروس كورونا. هذه القيود المفروضة على المدى القصير، تعني أن أولئك الذين نزحوا ويعيشون في مخيمات اللاجئين -سيئة التكييف والمناطق الحضرية المزدحمة مع ضعف الوصول إلى الرعاية الصحية المؤهلة- سيكونون في خطر متزايد صحيًا واقتصاديًا واجتماعيًا.
وسيتركز هذا الخطر بسبب التأثير الأكبر في البلدان النامية ذات البنى الاقتصادية والاجتماعية المُتهالكة. وفقًا للتقارير، فإن حوالي 85 ٪ من اللاجئين وطالبي اللجوء، وتقريبًا جميع اللاجئين النازحين داخليًا، يقيمون في البلدان النامية أو هم أنفسهم مواطنوها الأصليون (جنوب الصحراء الكبرى، وسط إفريقيا، أمريكا اللاتينية، وآسيا).
بالإضافة إلى ذلك، يعد النزوح الداخلي بعدًا آخر شديد الأهمية، حيث يجهله الكثير من المحللين، فيما يكمن التركيز على موجات الهجرة بين القارات والأقاليم المختلفة. تزداد عمليات النزوح الداخلي أو الهجرة الداخلية (في الظروف الأقل تعقيدًا) بين الريف والمدينة وبين الشمال والجنوب للهروب، بسبب ندرة الموارد والبحث عن فرص ومصادر عمل أكثر إنتاجًا. هذا النوع من النزوح الداخلي يُسبِّب عبئًا على بنية المدينة الاقتصادية والسياسية والعمرانية بشكل أساسي.
الخلاصة
في الختام، بعد فترة الوباء، من المُرجَّح أن تتأثر قوة العمالة المهاجرة واللاجئين قسرًا (داخليًا ودوليًا) بشكل سلبي على نطاق واسع. سوف تزداد الفجوة بين الفقراء والأغنياء. من المتوقع أن تزداد موجات الهجرة غير النظامية وغير الشرعية تدريجيًا على المدى القصير والطويل، وزيادتها لا يعني نجاحها، بل إنها مصدر للعنف المتزايد الرافض لأي حركة تنقل.
من الناحية الأيديولوجية والثقافية، من المتوقع أن تستغل الأحزاب اليمينية المتطرفة والشعبوية والعنصرية الموقف للحصول على المزيد من القواعد الانتخابية، من خلال زيادة التصعيد في خطابهم المعادي للأجانب والخوف من الغريب والتأكيد على كراهية كل ما هو خارج «نحن» دينيًا وثقافيًا وأيديولوجيًا. في نهاية المطاف، سيكون الصراع والتعاون بين المؤسساتية ودور الدول ذات السيادة محل نقاش، لاسيّما مع بعض القرارات المتناقضة والتنافسية بين الأولى والأخيرة.