أخطاء جوهرية في فهم الكونيات والكوانتم (4/2)
في المقال السابق تحدثنا معًا عن 3 أخطاء شهيرة في عالم الكونيات والكوانتم:
- ربط سر قوة الثقب الأسود بالكتلة.
- علاقة التشابك الكمومي بنقل المعلومات.
- هل حجم المفردة صفر؟
دعنا نستكمل رحلتنا مع مجموعة أخطاء أخرى هامة.
الانزياح الأحمر بسبب تأثير دوبلر
يخلط البعض بين ظاهرة الانزياح الأحمر ذات العلاقة بابتعاد المجرات عن بعضها البعض Cosmological Red shift بسبب تمدد الكون، وبين تأثير دوبلر Doppler’s Effect الشهير، الذي يحدث بسبب التغير الظاهري لتردد الأمواج عندما تُرصد أثناء حركة نسبية بين المراقب والمصدر. تعريف معقد؟! لنبدأ بدرس قصير عن تأثير دوبلر.
يحدث أن تكون واقفًا على الطريق فتأتي من بعيد سيارة إسعاف أو مطافي أو قطار مسرع بصوت حاد، ثم بعد أن يمر بك تنقلب تلك الحدة لدرجة أكثر هدوءًا. في الحالة الطبيعية حينما تكون واقفًا على مسافة ثابتة من مصدر الصوت يظل تردد الصوت ثابتًا، ذلك لأن الصوت يعبر الوسط بينكما على شكل موجات منتظمة تشبه موجات الماء. والتردد هنا هو عدد الموجات التي تمر بك في الثانية الواحدة، كلما كان الصوت أكثر حدة كانت موجاته أقصر، وبالتالي ذات تردد أعلى، وكلما كان أقل حدة كانت موجاته أطول وذات تردد منخفض. يحدث تأثير دوبلر حينما يقترب أو يبتعد مصدر الصوت – الموجات – منك مسرعًا، حينما يقترب منك المصدر يضغط الموجات فتصبح أقصر، فيبدو تردد الصوت بحدة أكبر، والعكس صحيح.
نلاحظ تلك الظاهرة حينما ندرس النجوم كذلك، حينما يكون النجم ثابتًا في مكانه بالنسبة لك، كالشمس مثلًا، يظهر الضوء الخارج منها إلينا ثابت التردد مهما اختلفت اتجاهتنا، لكن حينما يكون النجم البعيد مقتربًا منك أو مبتعدًا تختلف الأمور، حينما يقترب النجم من المراقب – أنت – تنضغط موجات الضوء الصادرة منه فتبدو أقصر من طولها المعتاد، لذلك تنزاح ناحية الاتجاه الأزرق ذي الطول الموجي الأقصر والتردد الأعلى، والعكس صحيح حينما يبتعد النجم عن المراقب، حيث تنزاح موجات الضوء لتصبح أكثر طولًا وأقل ترددًا، ناحية الأحمر.
تستخدم تلك التقنية في دراسة النجوم الثنائية وفهم حركتها، وهي النجوم التي تدور حول بعضها البعض، حيث في أثناء الدوران يدور النجم نصف دورته مبتعدًا عن الراصد على الأرض والنصف الآخر مبتعدًا. جدير بالذكر أن كلا من الانزياح الأحمر والأزرق – غالبًا – لا يجعلان النجم يظهر بلون أحمر أو أزرق، يمكن ملاحظة ذلك فقط عبر القراءات التلسكوبية الطيفية.
هنا يحدث الخلط، يتصور البعض أن الانزياح الأحمر المجري ذا علاقة بظاهرة دوبلر، حيث تبتعد المجرات عن بعضها البعض فتبدو منزاحة للأحمر، في الحقيقة انخدع هابل ورفاقه بنفس الطريقة في بدايات القرن الفائت إلى أن أدرك إدوين هابل فرقًا جوهريًا بين الانزياح الأحمر المجري والانزياح الأحمر نتيجة لتأثير دوبلر، لتوضيح الفرق دعنا كعادتنا نضرب مثالًا: لنفترض أن هناك سفينة شحن ضخمة تجري بسرعة في مياه المحيط، تقف أنت في مؤخرة السفينة ويقف صديق لك في مقدمتها. من الطبيعي، مهما تحركت السفينة، أن ترى صديقك على نفس المسافة منك، لكن ماذا لو لاحظت أن صديقك يبتعد عنك؟! هنا سوف تقول أن السفينة كلما استمرت في السير للأمام؛ ازدادت طولًا!
هذا هو بالضبط ما يحدث لشعاع الضوء المسافر بين المجرات، المكان نفسه يتمدد، حينما يسافر الضوء فإن التمدد يساعد على مط موجات الشعاع الضوئي بالضبط كما حدث للسفينة منذ قليل، فإذا كنت وزميلك طرفا موجة ضوء واحدة، مع الوقت وبسبب تمدد الفضاء نفسه تبتعدان عن بعضكما، يبدو الأمر كأن المكان نفسه يظهر من لا مكان. دعنا نتخيل شعاع الضوء كموجة مرسومة على بالونة تنتفخ، كلما انتفخت البالونة كلما ازداد الطول الموجي للموجة بسبب مطّها في أثناء خط سيرها، هذا هو سبب الانزياح الأحمر للمجرات المبتعدة عنّا، ليس الأمر أن تنضغط أو تتمدد الموجات بسبب اقتراب أو ابتعاد المجرة عن المراقب. لذلك كلما كانت المجرة أبعد كلما كان انزياحها أكثر احمرارًا، لأنه خلال المسافة الأطول يزداد مط موجة الضوء بشكل أكبر. هنا أيضا يجب أن نلاحظ أن انزياح المجرات الأحمر، عادة، لا يجعلنا نراها بلون أحمر.
أين مركز الانفجار العظيم؟
أين هي حدود الكون؟
ما الذي يوجد خارج الكون؟
ما الذي حدث قبل الكون؟
تبدأ سلسلة الأسئلة بهذه الطريقة: تقول النظرية أن الانفجار العظيم Big bang حدث قبل 13.8 مليار سنة، حسنًا، أين مركز الانفجار إذن؟ لماذا نرى المجرات تتباعد عن بعضها البعض فنبدو دائمًا وكأننا مركز الانفجار؟! أليس ذلك غريبًا؟! ثم، إذا كان هناك انفجار كما تدّعي، في أي وسط يحدث؟! وما هي حدود هذا الانفجار الآن؟ هل يمكن أن نسافر إلى مكان ما فنسقط من على الكون؟!
الأمر بالفعل غريب، فقط حينما تتصور أن الانفجار «حدث بداخل» الكون، لكنه بديهي حينما نقول أن الانفجار «هو» الكون نفسه. في الحقيقة، يتخذ مصطلح «الانفجار العظيم» طابعًا سينيمائيًا أكثر من كونه معبرا عن حالة الكون في لحظة بدايته، فالأمر ليس انفجارًا بالمعنى المفهوم بقدر ما هو تمدد، ظهور للزمان والمكان – «الزمكان» – كما نعرفه، حتى أن الاستخدام الشائع لصيغة الماضي حينما نقول أنه «حدث» منذ ما يقرب من 13.8 مليار سنة غير دقيق هو الآخر، لنستخدم زمن المضارع قائلين أن الانفجار العظيم «يحدث» منذ 13.8 مليار سنة، لا يزال تمدد الكون قائمًا متسارعًا عن ذي قبل.
يعد مثال البالون الذي ينتفخ تدريجيًا هو أشهر مثال يتحدث عن فكرة تمدد الكون، كان أول من ضربه هو أرثر ايدنجتون في كتابه «الكون المتمدد» 1933، لنحضر بالونًا صغيرًا ثم نرسم عليه نقط ملونة متجاورة في كل مكان، ثم نبدأ بنفخ البالون؛ نلاحظ أنه مع ازدياد الحجم تبتعد النقاط عن بعضها البعض، النقاط لا تجري هنا لكن البالون نفسه هو ما يتمدد، تلك بالضبط هي فكرة تمدد الكون، لكن النقاط على البالون تتمدد في فضاء ثنائي البعد، سطح البالون، أما الكون فيتمدد في كل الأبعاد، لكن تشبيه البالون هنا، أو أي تصميم مخروطي الشكل كتلك التصاميم التي تملأ «جوجل صور»، قد يكون مضللًا حينما يحاول الإجابة عن سؤالنا الأساسي: أين مركز الكون؟!
الأمر ليس كدائرة تزداد في المساحة بينما لا يزال مركزها هو نفس الموضع، لو كان الكون هو خط مستقيم، ما بين كل نقطة ونقطة فيه سوف تظهر نقطة جديدة، ثم تظهر أخرى ما بين النقط الجديدة والنقط القديمة … وهكذا. كل مجرة في الكون تبتعد عن كل مجرة أخرى في الكون، لكن يحدث أن تكون بعض المجرات قريبة للغاية من بعضها البعض كمجرتنا والجارة أندروميدا فتقاوم سرعة انجذابهم التمدد ويرتطمان في مرحلة ما بعد 4.5 مليار سنة تقريبًا. كذلك رصد التلسكوب هابل عدد لا بأس به من المجرات المتداخلة، لا علاقة لتلك الحكاية بتمدد الكون وابتعاد المجرات عن بعضها، هو فقط تجاذب حدث بسبب تقارب في الماضي السحيق بين مجرتين.
دعنا نتخيل الانفجار العظيم كطفل ينمو، يبدأ كنطفة صغيرة، ثم تزداد في الحجم بالتدريج من الرضيع، للطفل، للمراهق، للشاب، حتى تصل إلى حجمك الحالي، هل يمكن هنا أن أسألك: أين الخلية التي كانت مركز نموك؟ كل خلية في الجسم تنقسم وتعطي خلية أخرى بجانبها وهكذا، لا يوجد مركز يحدد موضع الخلية الأولى، كذلك في الكون: دائمًا أنت المركز.
مشكلة تشبيه البالون المنتفخ هي أن القارئ سوف يضع في حسبانه مركز البالون أو مركز الكرة الداخلي، هذا هو ما يصنع التضليل، فالكون كله هو سطح البالون فقط، لا يمكن للكون هنا إدراك مركز البالون المنتفخ أو في أي وسط ينتفخ . إذا كانت الأرض هي نملة تتجول على سطح بالون كروي ينتفخ تدريجيًا ولا تعرف ما تعنيه كلمات كأسفل وأعلى، كل ما يمكن أن تراه هو سطح البالون فقط، فتمدد البالون بالنسبة لها يحدث في كل مكان، وقوفها بين أي مجموعة من النقاط على سطحه سوف يعطيها انطباعًا أنها هي المركز دائمًا لأن كل النقاط تبتعد عن كل النقاط في كل الاتجاهات، النملة هنا تتواجد في كيان ثنائي البعد يتمدد بداخل وجود رباعي البعد (طول/عرض/ارتفاع/زمن يسير للأمام دائمًا)، أما الكون فهو كيان رباعي البعد يتمدد بداخل – ربما – وجود خماسي البعد. تتوقع افتراضات نظرية الأوتار وجود أبعاد مكانية إضافية يمكن للكون أن يتمدد بداخلها، حيث يقع الكون كاملًا على غشاء رباعي البعد يقع بدوره بجانب مجموعة من الأغشية Branes، تتوقع فرضية الكون الهولوجرامي أن الكون هو انعكاس لأفق ثنائي البعد، العديد من الافتراضات في الأفق لكن لا يوجد تأكيدات بعد.
إذا أحضرت كرة قدم ووضعت إصبعك على أية نقطة فيها وقلت أن هذا هو مركز سطح الكرة فإنك على صواب، في كل مرة تنقل فيها إصبعك فأنت على صواب لأن سطح الكرة لا مركز له، بالنسبة للكون فالأمر ذاته يحدث، حينما تمتلك تقنية للقفز إلى المجرة أندروميدا جارتنا والتي تقع على بعد 2.5 سنة ضوئية فنحن ما زلنا في المركز، حينما نقفز من أندروميدا إلى مجرة المثلث فنحن ما زلنا في المركز، حين نصل إلى مجرة السيجار في كوكبة الدب الأكبر فنحن ما زلنا في المركز.
دعنا الآن نعتمد على ما تعلمناه في السطور السابقة ثم ننطلق لإجابة باقي الأسئلة، نحن إذًا كتلك النملة، لها حدود في الإدراك، لا نعرف ما الذي يوجد خارج الأبعاد الثلاثة، لا يمكننا حتى وضع تصور قريب لذلك إلا بلغة معادلات رياضية المجردة ما زالت تقع ضمن حدود إدراكنا، لا نعرف ما الذي يحتوي الكون ذاته بحيث يتمدد بداخله، الانفجار العظيم Big Bang هو انبثاق للزمان نفسه وللمكان نفسه، لذلك فـالسؤال عن «خارج الكون» أو «قبله» لا يعني شيء، التعبيرات كـ «قبل الكون»، «بعد الكون»، «خارج الكون»، «اخر الكون»، «حدود الكون» هي تركيبات لغوية تستخدم في قصائد الشعر فقط لكنها غير ذات معنى، اللغة هنا قاصرة على وضع صياغة معبرة عن تلك المساحة من التساؤل.
فيم يتمدد الكون؟ لا يمكن هنا أن نجيب بـ «لا نعرف» فقط، لكن يجب أن نضيف أن السؤال بـ «فيم» هو سؤال محلّي Local له علاقة بالحديث عن أبعاد كالتي نعرفها وتساؤلات كالتي تنطبق على تلك الأبعاد كـ «أين» و«متى»، نحن هنا نسأل بـ «أين» بينما لا يوجد هناك «مكان» كما نعرفه وبـ«متى» عن «لا زمن»، وذلك تناقض جوهري.
- Quantum mechanics: Myths and facts Hrvoje Nikoli´c
- Astronomy for dummies
- Relativity for Everyone – How Space-Time Bends – Kurt Fische
- What are the Stars? – Ganesan Srinivasan
- التعالق أكبر لغز في الفيزياء – أمير أكزيل
- Astrophysics Is Easy!- Michael Inglis