تمام مكارم الأخلاق
لا تكاد تشرق شمس ربيع الأول إلا وتلفّنا كمسلمين جميعًا عاطفة قوية جياشة تحملنا على نسمات حب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، عاطفة فياضة تكاد تستعصي على الفهم، ويثبتها الواقع. فبمرور القرون، وابتعادنا الزمني، نظل أوفياء لذكرى مولده -صلى الله عليه وسلم-، يتملكنا الشوق والحنين، وتتجاذبنا عوالم الإيمان النورانية الشفافة.
عاطفة حب وإيمان وشغف وامتنان لمقام النبي، لا تفلح أحوالنا كأمة في مجموعها من بعدنا كثيرًا أو قليلاً –كل حسب درجته- في ترجمتها عمليًا لممارسة واتباع تعليمات سيد الثقلين وهديه، والتمسك بتمام الرسالة التي أرسله بها رب الكون تبارك في علاه!. ورغم هذا الفشل في الترجمة العملية لمحبته واتباعه والقيام بواجب الاقتداء كما ينبغي له أن يكون، فإن عاطفة الحب تظل حاضرة بقوة تحيي الأمل في نفوسنا أن هذا الحب الحي القائم في قلوبنا وضمائرنا قادر في لحظة فارقة من لحظات الحاضر والمستقبل على انتشالنا من هذا الضياع الذي نعيشه والتيه الذي يتقاذفنا هنا وهناك!
إن أول محاولة لترجمة مشاعر الحب الفياضة التي تربطنا بسيد الخلق، محمد -صلى الله عليه وسلم- تتمثل في فهم وإدراك طبيعة الرسالة الخالدة التي بعثه الله بها ولها. ولا شك أن أول ما يتبادر إلى ذهن الإنسان بمجرد سؤاله عن جوهر رسالة الإسلام أنه تحويل الناس عن عبادة آلهة متفرقين من صنع البشر وخيالهم، إلى عبادة الله سبحانه وحده، وهو المعبر عنه بإخراج الناس من الكفر إلى الإيمان، أو من الضلال إلى الحق، أو من الظلمات إلى النور، وكلها معانٍ مقبولة يعبّر عنها القرآن الكريم في كثير من آياته البيّنات. ولكن هل تبادر إلى أذهاننا يومًا السؤال الخطِر: لماذا؟
لماذا أراد المولى عز وجل في علاه تحويل الناس من الكفر إلى الإيمان به، وهو غني عن العالمين، سواءً آمنوا أو كفروا؟. «وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ» آل عمران97، كقوله عن نبيه موسى: «وقال موسى إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعًا فإن الله لغني حميد» إبراهيم8، وقوله: «إن تكفروا فإن الله غني عنكم ولا يرضى لعباده الكفر» الزمر7، إلى غير ذلك من الآيات.
فالله تبارك وتعالى يأمر الخلق وينهاهم لا لأنه تضره معصيتهم، ولا لأنه تنفعه طاعتهم، بل نفع طاعتهم لهم وضرر معصيتهم عليهم، كما قال تعالى: «إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها» (الإسراء: 7).
وثبت في صحيح مسلم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما يرويه عن ربه أنه قال: «يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا. يا عبادي، لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئًا».
في تقديري أن جوهر رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- يكمن في الإجابة عن هذا السؤال: لماذا أراد الله تعالى أن يحول الناس من الكفر إلى الإيمان به وحده لا شريك له؟
فهل يتفق معي القارئ الكريم أن تحول المرء إلى الإيمان بالواحد الأحد يعني في حقيقته تحول تلقي الأوامر في كافة شؤون حياته الخاصة والعامة إلى الأخذ عن الله وحده؟، وأن التحول إلى الإيمان يقتضي أن يظل الإنسان معلقًا بأمر السماء ووحي السماء وما يوجبه عليه رب العالمين، وما ينهاه عنه سبحانه؟؛ أي أن منهج حياته منذ الميلاد إلى الممات يصبح كدفتي كتاب بين أمر الله ونهيه.
جوهر رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- إذن هو إنقاذ البشرية من الانقياد إلى الأهواء والخرافات والأساطير والأوهام والتجارب التي تحتاج أزمنة طويلة من التطبيق قبل أن يثبت فشلها أو عجزها أو قصورها، إلى الانقياد إلى منهج الله تعالى لخلقه.
فما حقيقة رسالة محمد -صلى الله عليه وسلم- كما وصفها هو بنفسه؟!، أليست هي تمام مكارم الأخلاق؟!
ففي الحديث: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»، وفي رواية: «إنما بعثت لأتمم حُسْنَ الأخلاق».
ففي احتفائنا الدائم بحب محمد -صلى الله عليه وسلم- علينا أن نضع نصب أعيننا جوهر رسالته، وأن نتواصى بالتطبيق العملي لترجمة هذا الحب واقعًا في حياتنا، فإذا كان لا بد من التذكير بممارسة الحب سلوكًا فعليًا في حياتنا، فليكن تواصينا بالتخلق بجوهر رسالة النبي -صلى الله عليه وسلم- مكارم الأخلاق وأحاسنها، فإن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم.