القصة الكاملة لصراع «كوالياريلا» الوهمي مع المافيا
ما أن يتجاوز اللاعب عامه الرابع والثلاثين، إلا وتتراجع بوضوح لياقته البدنية، وتهبط قدرته علي مجاراة الخصوم، ويفقد إيقاع المباريات. وهنا يبدأ في تحضير نفسه لمرحلة جديدة من مسيرته. يفضل البعض اعتزال اللعبة، ثم الحصول على منصب إداري في ناديه. وينجذب آخرون نحو عالم التدريب. ويتجه البعض الآخر نحو أستوديوهات التحليل مستغلًا جماهيريته. الأكيد أنه من المستبعد أن يقدم أحدهم الآن أفضل مواسمه على الإطلاق، إلا لو كان هذا هو «فابيو كوالياريلا».لم يتخيل أحد عندما بدأ الموسم أن ينتهي دون أن يحتل «كريستيانو رونالدو» صدارة هدافي الكالتشيو، وحتى لو راهن أحدنا على هدّاف آخر، فهو غالبًا «ماورو إيكاردي» أو «كرزيستوف بياتيك»، لكن كوالياريلا؟ وهو في السادسة والثلاثين من عمره؟ هذا أمر مذهل بل وخرافي. لم يكن ذلك أكثر الأمور إثارة في حياة كوالياريلا، بل ثمة قصة يمكن وصفها بالسينمائية عاشها المهاجم الإيطالي، وكادت تعصف بمسيرته وبحياته كلها بعدما ورطه أحدهم في عالم الجريمة الإيطالية، وربما كان مصيره الآن هو السجن أو الموت، لولا أن فابيو نجح في تبرئة ساحته.
كوالياريلا بام بام
لا يحظى فابيو كوالياريلا برقم كبير من المتابعين على حساب انستجرام، ولا ينشر في الغالب إلا صورًا تقليدية من المباريات أو مع أصدقائه. هو لا يعيش حياة صاخبة، ولا يفضل التواجد في الحفلات، بل من النادر أن تجد له ظهورًا إعلاميًا على الشاشة. هو شخص انطوائي، لا يجيد التفاعل مع الجمهور. بالطبع لم يكن بهذه الحالة في شبابه، بل كان لاعبًا يغمره الحماس والطاقة. وكان يعيش ليحقق حلم طفولته؛ وهو أن يصبح لاعبًا في صفوف نادي مدينته: نابولي، ثم يدخل كبديل في إحدى المباريات ويسجل هدفًا أكروباتيًا في اللحظات الأخيرة، لينفجر ملعب السان باولو بالهتاف باسمه. وفي مايو/آيار 2009، كان كوالياريلا أسعد إنسان في العالم. أخبره رئيس نادي أودينيزي، الذي كان يلعب له آنذاك، أن نابولي يرغب في الحصول على خدماته. لم يفكر فابيو للحظة ووافق على الفور، بل طلب من أودينيزي مساعدته لحسم الصفقة سريعًا.كان أودينيزي يحتل المركز السابع، بينما نابولي في المركز الثاني عشر. وقد ظن البعض أن ذلك الانتقال يعد تراجعًا في مسيرة كوالياريلا، لكنه لم يستمع إلا لصوت قلبه، وكان في الأول من يونيو/حزيران لاعبًا في صفوف النادي الجنوبي. هناك استقبلته جماهير نابولي بحفاوة منقطعة النظير، كانوا يشعرون بأنه منهم، وقد اختارهم وفضّلهم على أندية أقوى وعروض مالية أكبر. يكفيك فقط أن تعرف أنهم ألفوا أغنية خاصة لكوالياريلا، وهو أمر لم يحدث إلا مع «دييجو مارادونا» فقط! يقول مطلع الأغنية:
الخيانة
وقّع كوالياريلا عقدًا طويل الأمد يربطه بنابولي لخمسة مواسم، ووعد ببذل قصارى جهده من أجل الحصول على مقعد مؤهل للبطولات الأوروبية، وهو الأمر الذي دفع بعض الجماهير للمطالبة بمنحه شارة القيادة، خصوصًا بعد ما شكل ثنائيًا جيدًا رفقة «لافيتزي». إلا أنه مع انتصاف الموسم، هبط مستوى فابيو بشكل ملحوظ، وبدأ في حالة تشتت وقلة تركيز غريبة. لم يفهم أحد ماذا حل بالمهاجم المدلل، لكن الجماهير لم تتوقف عن دعمه والهتاف باسمه، حتى بعدما فقد مركزه الأساسي لصالح الوافد «إدينسون كافاني»، لكن بحلول أغسطس/آب 2010 سيتغير كل شيء.إذ خرجت أنباء عن بدء مفاوضات بين يوفنتوس ونابولي على إعارة كوالياريلا، كان ذلك الأمر صادمًا حتى أن جمهور نابولي لم يصدقه، وظنوا أنها مجرد شائعات أطلقها صحفيون ينتمون للبيانكونيري. لم يمضِ وقت طويل، وتكشف لهم أن بقاء فابيو لن يدوم أكثر من أيام، حتى أعلن الناديان صباح السابع والعشرين من أغسطس/آب عن رحيله. الأزمة لم تكن فقط في رحيل كوالياريلا بعد موسمه الأول، بل كانت في رحيله لعدو نابولي اللدود: يوفنتوس. حينها تحوّل من اللاعب صاحب الجماهيرية الأوفر، لذلك الخائن الذي تخلى عن النادي لأجل المال، وتبدلت كل تلك المحبة الغامرة لكراهية لا حدود لها.بدأت الجماهير في الهتاف ضده علنًا، ثم قامت بإحراق قميصه، وقد لاحق بعضهم أفراد أسرته كأمه وأبيه موجهًا لهما السباب والوعيد، وأصبح اسم كوالياريلا لعنة على أهله وأصدقائه. أكثر من ذلك هو كم المضايقات التي تعرض لها فابيو نفسه عند زيارة أهله، بل إنه اضطر أحيانًا للتنكر حتى لا يثير مع أحد المشاكل. الغريب أنه لم يخرج للدفاع عن نفسه أو تبرير موقفه، ظل صامتًا ورفض الحديث لوسائل الإعلام، وهو ما عزز شعورًا لدى مناصري نابولي أن فابيو لا يمتلك شيئًا يقوله، وقد باعهم فعلًا نظير المال. وقد ظلت هذه الفكرة مسيطرة عليهم حتى بعد رحيله عن اليوفي وانضمامه لتورينو. لكن في موسم 2015/2016 سيحدث أمر غريب للغاية، عندما حل تورينو ضيفًا على ملعب سان باولو، وتم استقبال كوالياريلا بصافرات الاستهجان والهتافات العدائية. ومع حصول تورينو على ركلة جزاء، تقدم فابيو وسجل هدفًا في شباك نابولي، لكنه رفض الاحتفال، بل ورفع يده للجماهير بالاعتذار، وهو سلوك لا يصدر أبدًا عن لاعب تهاجمه الجماهير بهذا الضراوة!
الجحيم
حتى بعدما أثارت تلك المباراة الجدل، رفض فابيو أن يعلق، بل احتاج لأكثر من سنة أخرى حتى يقص الحكاية كلها، ويتحدث عن المعاناة التي عاشها لأكثر من خمسة أعوام كاملة، وحوّلت حياته جحيمًا لا يتصور.
والحكاية بدأت بعدما انضم لنابولي بأيام، عندما وصل لبريده الإلكتروني عدّة رسائل مشفرة. حينها سارع بالتواصل مع صديقه «جوليو دي ريسو»، وهو يعمل في مجال صيانة الهواتف المحمولة وشبكات الاتصال. المفاجأة أن جوليو أيضًا استقبل نفس الرسائل المشفرة، لكنه أخبر فابيو أنه يعرف من يمكن أن يساعدهما. كان ذلك ضابط شرطة يدعي «رافايلي بيكولو».
اجتمعا سويًا معه، وشرحا له الأمر، قبل أن يطلب منهما ترك الهواتف لتتبع أصحاب تلك الرسائل. عاد بيكولو وقد كتب باسميهما شكوى، وتعهد أن يوصلها للسلطات المعنية. شكر الثنائي ضابط الشرطة على مساعداته، وأهداه فابيو قميصًا موقّعًا، ولم تصله الرسائل المشفرة ثانية، إنما وصله ما هو أكثر رعبًا.
علي مدار الأسابيع القادمة، كان صندوق البريد الخاص بمنزل أسرته يستقبل بشكل دوري رسائل مجهولة ومخيفة. رسالة تهدد فابيو بإطلاق النار عليه، وأخرى تتوعده بإدراجه في قوائم المافيا، وثالثة تضع اسمه ضمن المتهمين باغتصاب الأطفال، وأخيرة تحمل قطعة من كفن كُِتب عليها «كفن كوالياريلا».
أحكم الخوف قبضته على حياة فابيو تمامًا، وفقد تركيزه داخل الملعب، كان فقط يفكر بالشخص الذي يكرهه لتلك الدرجة، حتى خروجه من البيت تحوّل لعقاب نفسي قاس، إذ كان يستقبل اتصالات مجهولة تخبره أنه مراقب الآن، ويمكنهم إطلاق النار عليه في أي وقت.
هرع فابيو إلى بيكولو، وقد وعد الضابط بتولي الأمر، فقط طلب من أسرة كوالياريلا إبقاء الأمر سرًا والاشتباه في الأقارب والأصدقاء، ثم هم بكتابة أكثر من شكوى تستغيث بالسلطات. لم تتوقف الرسائل، بل زادت وتيرتها، حتى أن الوالدين شرعا بإخفائها بعد هبوط أداء فابيو بشكل ملحوظ.
في الواقع كان كوالياريلا يشك في كل الناس، ويخفي الأمر عن ناديه وزملائه، ويسأل نفسه كل ساعة عن الجرم الذي ارتكبه ليعيش هذا الجحيم. كان يبكي يوميًا، ويتمزق ببطء.
إنه هو
المشكلة أن إحدى تلك الرسائل قد وقعت بشكل أو بآخر في يد إدارة نابولي، ولم يتخذ مالك النادي «دي لاورينتس» موقفًا إيجابيًا بدعم لاعبه، بل تسرب إليه الشك من تورط كوالياريلا بالفعل مع المافيا، حتى أن التواصل بين اللاعب الإيطالي والإدارة وصل لأقل درجة ممكنة.
كان حصارًا مكتملًا يحاوط فابيو، وهنا تبلورت في رأسه فكرة الهروب. اختار أبعد نقطة ممكنة عن نابولي، وقطع 550 ميلًا نحو الشمال لينضم ليوفنتوس. هل كان أمامه خيارات أخرى تحافظ على علاقته بجمهور نابولي؟ ربما، لكن الأكيد أنه كان في أسوأ حالاته نفسيًا وذهنيًا أثناء اتخاذ القرار. المهم أنه رحل، وجنى من وراء ذلك عداوة استثنائية، وكان مرغمًا على الصمت.
وبعد عامين، تفاجأ كوالياريلا باتصال غريب من والده. أخبره الأب أنه ذهب لمكتب الشرطة ليستفسر عن الشكاوى التي يرسلها باستمرار للسلطات مما يتعرضون له. هناك صُدِم الأب بعدما عرف أن تلك الاستغاثات لم تصل، ثم قابل بيكولو مصادفة وسأله عن الأمر، ليبدو الضابط متوترًا بشدة ومعللًا الموقف بأنه هو الآخر يستقبل تهديدات على هاتفه. وعندما طلب منه الأب أن يراها، ازداد توتره وأخبره أنه قام بحذفها.
تساءل الأب؛ لو كان بيكولو يستقبل تهديدات، فلمَ يقوم بحذفها؟ ألا يعد ذلك دليلًا قويًا في القضية؟ ثم نقل لفابيو شكوكه حول بيكولو. استبعد الابن تلك الشكوك، لكن بعد عام آخر قابل صديقًا له يعمل محاميًا، ثم حكى له الأمر برمته، ليسأله المحامي عن اسم الضابط الذي يتولى القضية، وما أن أجاب كوالياريلا باسم «رافايلي بيكولو»، إلا وسيرد صديقه «إنه هو!».
كان ضابطًا فاسدًا، بل ومريضًا نفسيًا، يهوى تهديد الأشخاص وتضليلهم وفرض سطوته على حياتهم. وقد كرر ذلك الأمر مع كثيرين من قبل، وأفلت من العقاب، لكن هذه المرة كان المحامي قد جمع كل الدلائل من أسرة فابيو، وأوقع بيكولو في المصيدة.
بالطبع صُعِق كوالياريلا، لم يكن يفهم لماذا فعل به الضابط كل ذلك؟ لقد كان ودودًا للغاية معه، ويقدم له القصمان والصور، ويدعوه أحيانًا للمباريات، ولم يكن ليبخل عليه لو طلب المساعدة المادية، لكنه رغم ذلك كان مصممًا على محاكمته ليكون عبرة لمن يتلصص علي حياة الآخرين بهذا الشكل الفظيع. استمرت محاكمة بيكولو لشهور، ثم حكم عليه بالسجن لخمسة أعوام، قبل أن يقرر كوالياريلا في فبراير/شباط 2017 أن يحكي الأمر برمته.
الخلاص
استقبلت الجماهير الإيطالية الأمر بموجة تعاطف كبيرة، وتمت تحية فابيو في عدّة ملاعب، لكن ما فعله جمهور نابولي في ملعبهم كان له مذاق خاص. إذ رفع مناصرو فريقه السابق يافطة كٌتِب عليها «ارفع رأسك يا فابيو، لقد خضت معركتك بكرامة، أهلًا بك دائمًا في الجنوب».
الآن انتهى ذلك الكابوس المرعب، انتهى بعد أن سرق من كوالياريلا أفضل سنوات عمره. وقد كان مُصِرًّا على استعادة حياته مرة أخرى، خصوصًا وهو يملك الآن القوة الذهنية والنفسية، ولا يوجد أي مشتتات تنال من تركيزه وتؤثر على مستواه.
المبهر أن مستواه فاق كل التوقعات، وعاد من جديد كوالياريلا مهاجمًا مزعجًا، يحول العرضيات لأهداف، ويوجه زملاءه ويبث فيهم الحماس، وقد أنهى موسم 2017/2018 وهو رابع هدافي الكالتشيو متفوقًا على أسماء تصغره كميرتينز وهيجوأين ودجيكو.
أما ما جرى هذا الموسم فهو شيء لا يصدق. هذا المهاجم الذي يمتلك 36 عامًا، ولا يلعب في فرق القمة، ولا يزامله أفضل صنّاع الألعاب، تمكن للمرة الأولى بحياته من اعتلاء صدارة الهدافين رغم وجود رونالدو، وختم الموسم وفي جعبته 26 هدفًا وصنع ثمانية أخرى. هل رأيت شيئًا كذلك من قبل؟
في كل هدف كان يسجله كوالياريلا، كان يفتح ذراعيه ويصرخ، وكأنه يتخلص من أغلال قيدته وعطلت مسيرته، ويعلن انتصاره على الظروف، ويقدم لنا درسًا ملهمًا يتجاوز حتى كرة القدم برمتها، إنه فابيو كوالياريلا وقد جعل جماهيره تحلم من جديد.