هذا المقال يُنشّر ضمن مسابقة «إضاءات» وأسبوع العلوم المصري للمقال العلمي/التقني.

من أين نأتي؟ وإلى أين نحن ذاهبون؟ أو بمعنى آخر، كيف بدأت الحياة؟ وما هو مصير الإنسان المستقبلي؟ كانا هذان السؤالان المحور الأساسي الذي قامت عليه رواية دان براون الأخيرة – الأصل «Origin».

وقد ظهر هذا المحور الفكري في الكثير من الأعمال الفنية الأخرى مثل لوحة الفنان الفرنسي بول غوغان، ويخبرنا هذا بمدى احتياج الإنسان إلى السعي في البحث عن إجابة تلك الأسئلة الوجودية. اهتم العلماء على مدار التاريخ بالإجابة على هذين السؤالين، وإن لم يكن بشكل مباشر. ولكن يمكننا فك جزء كبير من الغموض الذي يحيط بنا منذ أن بدأ الإنسان في السعي للوصول لمعرفة كيف كانت البداية.

مهلاً، إن موضوع نشأة الحياة معقد ومتفرع إلى حد كبير. نحن هنا لسنا بصدد الإجابة عن هذين السؤالين. ولكن سنحاول بشكل أو بآخر الوصول لأقرب أوجه الحقيقة عن طريق دراسة ومعاينة ما وصل إليه العلم الحديث من اكتشافات وأبحاث.


من الذي جاء قبل الآخر؟

قبل أن ندخل في النظريات والأبحاث التي تتحدث عن نشأة الحياة. يجب علينا أن نعي ما واجهه العلماء في رحلتهم أثناء البحث عن الإجابة. كانت أهم تلك المشكلات هي المفارقات العلمية الفلسفية. إنها مفارقات كمفارقة الدجاجة والبيضة، من الذي جاء قبل الثاني ومن نشأ من الآخر؟

حسنًا.. فقد اصطدم العلماء بشيء من هذا القبيل، ولكن على مقياس أصغر بكثير. لكي تبدأ الحياة على الأرض لا بد من وجود جزيئات وراثية لها خصائص تمكنها من نقل البيانات الوراثية لصنع البروتين، على سبيل المثال الحمض النووي. فتلك الجزيئات هي ما يجعل الكائن الحي كما هو عليه. ولكن لكي تستطيع الخلايا استنساخ الحمض النووي أو صناعة المزيد منه فهي تحتاج إلى البروتين.. والذي يجعل الأمر مزعجًا حقا أن عملية التصنيع هذه لا يمكن أن تتم بدون الدهون (Fatty Lipids) التي تمكن بدورها الخلية من الحفاظ على محتوياتها داخليًا، وتلك الدهون يتم تكوينها عن طريق البروتين المُصنع بتوجيه محكم من الحمض النووي.

حسنًا لقد أصبح الأمر معقدًا للغاية، كل شيء يعتمد على الآخر لينشأ. ولكن في مقال تم نشر ه سنة 2015 على موقع Sciencemag.org أعلن بعض الباحثين عن إيجادهم حلاً لتلك المعضلة عن طريق تركيبات كيميائية يمكنها أن تبدأ ببعض العمليات البسيطة التي تؤدي إلى صناعة الجزيئات الحيوية الأساسية: الأحماض النووية، والأمينية والدهون. وهذا ما تحتاجه الحياة الأولية لتنشأ.

يوجد بعض النظريات والمقترحات التي تفسر نشأة الحياة على الأرض بشكل علمي. ونحن هنا لا نتحدث عن نظرية التطور الشهيرة، بل ما حدث قبل التطور نفسه، فتلك النظرية تصف الحياة بعد أن نشأت لا في لحظة بدايتها.

ذكر دان براون في كتابه «الأصل» مثال بسيط يمكننا من استيعاب الفكرة، يقول براون[1]: تخيل أنك تمشي في نفق طويل جدًا لا يوجد به إنارة إلا تلك التي أمامك وخلفك بقليل، فأنت لا ترى أوله ولا آخره، ثم تنظر في الظلام الذي خلفك فتسمع صوت كرة تقفز، من ثم ترى هذه الكرة وهي تقترب منك ثم تعبرك وتتقدم للظلام الذي أمامك.

السؤال هنا ليس هل الكرة تقفز؟ لأنه يمكننا بالفعل رؤية ذلك. السؤال هو لماذا تقفز هذه الكرة وكيف بدأت تقفز؟ هل ركلها أحد أم أن من طبيعتها أن تقفز هكذا؟ أم أن قوانين الفيزياء في هذا المكان تُملِي على الكرة أن تقفز بهذا الشكل؟ وإلى متى ستظل تقفز؟ .. هذه الكرة تمثل التطور، فنحن لا نعرف لماذا بدأ ولكننا نراه يحدث حولنا، ولا نستطيع النظر بعيدًا في الماضي كفاية لنرى كيف بدأ، أم نستطيع.


الحياة في حساء بدائي ساخن

يُقَدِّر العلماء أن الحياة بدأت على الأرض منذ حوالي 3.4 مليار سنة، وجاء هذا التقدير من دراستهم لحفريات دقيقة جدًا – أي لا يمكن رؤيتها بدون ميكروسكوب – حيث وجدوا فيها أحد أبسط أشكال الحياة وأقدمها. في هذا الوقت من عمر الأرض كانت طبيعتها وبيئتها مختلفتين تمامًا عن الذي نعرفه الآن، فقد كان الغلاف الجوي للأرض يفتقر للأكسجين ويتكون من هيدروجين وميثان وبخار الماء وغاز الأمونيا وثاني أكسيد الكربون.

قد تعتقد أن هذا الجو ليس ملائمًا للحياة، ولكن عن طريق خلط هذه العناصر مع بعضها البعض مُؤَيَّدَةً بعوامل أخرى يمكننا الحصول على أحماض أمينية والتي منها نحصل على البروتين. وهنا جاءت أحد ألمع الأفكار لتجربة علمية لمحاكاة ما حدث على الأرض منذ 3.4 مليار سنة في المعمل.

أجرى ستانلي ميلر و هارولد أوري من جامعة شيكاغو تجربة في عام 1953 لإثبات أن الأحماض الأمينية يمكنها أن تنشأ في بيئة تماثل تلك التي كانت عليها الأرض. عن طريق تجميع الغازات المُكَوِّنَة للغلاف الجوي في هذا الوقت ووضعها فوق حوض من المياه يمثل المحيط المبكر للأرض. ثم تعريض هذا المحلول لشحنات كهربائية تحاكي البرق. وبعد إجراء التجربة لعدة أيام استطاعوا إيجاد العديد من الأحماض الأمينية التي شُكلت من مواد غير عضوية في هذا الحساء البدائي.

و في سياق متصل نشر المركز الوطني لمعلومات التكنولوجيا الحيوية (National Center for Biotechnology Information) مقالاً مفصلاً عن كيفية إجراء نفس التجربة. صحيح أنه بعد عدة سنوات من التجربة ظهرت بعض الشكوك في المجتمع العلمي حول درجة صحة المحاكاة التي قام بها ميلر وأوري، تبقى هذه الفكرة العظيمة أول إثبات على أن المواد العضوية التي هي أساس الحياة يمكن أن تنشأ من مواد غير عضوية تحت تأثير عوامل محددة.


الحياة على ظهر النيازك

توجد فرضية أخرى تفسر وجود الأحماض الأمينية على سطح الأرض عن طريق اقتراح أنها جاءت من الفضاء الخارجي على ظهر النيازك التي كانت تصطدم بالأرض، وما يدعم تلك الفرضية أكثر هو أنه في هذا الوقت لم تكن المجموعة الشمسية مستقرة بشكل تام، وكانت هناك الكثير من الصخور التي تحوم في جميع أنحائها، لذا كان من المحتمل أن من بين الكثير من تلك النيازك التي كانت تسقط على كوكبنا ما يحتوي على تلك الجزيئات الضرورية لبدء الحياة. ليس هذا فقط، فقد وجدنا نيازك على الأرض تحوي بالفعل أحماضًا أمينية بل وبعض المركبات الأساسية للحمض النووي؛ قواعد نووية (Nucleobases).

وهذا ليس بالأمر الجديد، فنحن نكتشف تلك الجزيئات على النيازك منذ حوالي 50 عامًا. وتم إجراء الكثير من الأبحاث والتحاليل والتجارب عليها. فعلى سبيل المثال، في عام 1969 سقط نيزك ضخم جدًا في أستراليا، عُرف فيما بعد بنيزك مورشيسون، وهو من أكثر النيازك التي تم دراستها نظرًا لضخامة حجمه واحتوائه على المُرَكبات العضوية.

هذه الصخور الآتية من الفضاء قد تكون العامل الرئيسي الذي أدَّى إلى نشوء الحياة على الأرض. وقد أظهرت بعض التجارب المعملية أن العمليات الكيميائية للأمونيا والسيانيد والتي تتوفر بكثرة في الفضاء قد تَصنَع قواعد نووية مشابهة لتلك التي على الأرض. (كتب تشارلز كيو. تشوي مقالاً مفصلاً عن هذا الموضوع على موقع Space.com). ولكن هذه الفرضية لا تجيب على السؤال، هي فقط تعيد صياغته. فبدلاً من قول كيف بدأت الحياة على الأرض؟ أصبحنا نقول: كيف بدأت الحياة في الفضاء؟


النظام الذي وُجِد ليخلق اللانظام

القانون الثاني من الديناميكا الحرارية ينص على أن الطاقة تنتشر بشكل مستمر وأن القصور الحراري (Entropy) للكون بشكل عام يتجه للزيادة. حسنًا ماذا إذا قلنا أنه في حالات معينة، لكي تزيد العشوائية ككل تتجمع الجزيئات طبيعيًا لتُشَكِّل هياكل مُعَقَّدَة تساعد في امتصاص ومن ثَمَّ حرق الطاقة بكفاءة أكثر مسببة بذلك زيادة القصور الحراري في الكون. كان هذا ما اقترحه البروفيسور المساعد في الفيزياء الحيوية في معهد MIT، جيريمي إنغلاند في عام 2013. في عملية أطلق عليها التبدد (Dissipation)، حيث تتكون بنية معقدة مثل الكائنات الحية بهدف تشتيت الطاقة بشكل أفضل. بمعنى آخر، لكي يزيد الكون من العشوائية فيه يصنع هياكل منظمة تساعده على ذلك. على سبيل المثال، النبتة هي بنية حيوية معقدة ومنظمة تستقبل أشعة الشمس المُركزة وتبددها عن طريق عمليات حيوية وكميائية، وبذلك تزيد من القصور الحراري في الكون. لتأخذ في الاعتبار جميع الكائنات الحية، بما في ذلك البكتيريا بأنواعها. إنه النظام الذي وُجد ليخلق اللانظام.

وقد عمل إنغلاند على تجربة نظريته في أنظمة محاكاة متطورة على الحاسوب، ودعمت نتائج هذه التجارب فرضيته أن استعمال أنظمة المحاكاة على الكمبيوتر – Computer Simulations – مفيدة وفعالة لتصميم تجارب قد تكون صعبة على أرض الواقع، وهي تقلل من مُعَامِل الخطأ البشري. فمثلاً يمكننا إعادة صنع تجربة ميلر-أوري على الحاسوب وسيكون من السهل حينها رصد النتائج وتسريع الوقت وتغيير العوامل المؤثرة.

وكان هذا بالفعل ما فعله فريق من العلماء في جامعة بيير إت ماري كوري الفرنسية، حيث صنعوا نموذجًا معقدًا على الكمبيوتر ليحاكي تجربة ميلر-أوري، وقد حصلوا على نتائج مشابهة بالفعل. يكمن الأمر في درجة التعقيد التي صُنِعَت بها المحاكاة، فكلما كانت تفصيلية أكثر كانت النتائج أكثر دقة.


ماذا بعد نشأة الحياة وتطورها؟

حسنًا.. ها قد وصلنا إلى نهاية المطاف، لقد وضعنا الأساسيات التي ساعدتنا على فهم بعض الطرق التي كان من الممكن للحياة أن تنشأ من خلالها. ولكن ماذا بعد ذلك؟ قد تقولون إنه التطور، ولكن إلى أين يأخذنا التطور؟ إلى أي مدى سيتطور الإنسان؟

الإجابة على هذا السؤال أمر صعب، كل ما يمكننا فعله هو توقع المستقبل بناءً على ما نراه حاليًا. في بعض الأطروحات، يتوقع المحللون الإحصائيون أن التكنولوجيا ستتطور بشكل كبير مُسَيطِرَةً بذلك على حياة الإنسان، ليس بمعنى الذكاء الاصطناعي الذي سيقضي على البشرية، ولكن ستصبح التكنولوجيا والإنسان شيئًا واحدًا، كائنًا واحدًا. ونحن نرى بدايات شيء كهذا مثل تركيب أطراف صناعية أو أجهزة تحسين السمع …إلخ.

قامت مجلة Scientific American بسؤال كبار العلماء عن رأيهم في كيف سيتطور الإنسان في المستقبل؟ وكانت إحدى الإجابات من د. أولشانسكي، حيث قال: إن أكبر تأثير على التطور البشري سيأتي من التغييرات التي سنتمكن من القيام بها في جينات البشر، مثل التخلص من مسببات الأمراض والشيخوخة.

قد يبقى هذا الموضوع مفتوحًا لفترة طويلة من الزمن دون إجابات، وستختلف التفسيرات والفرضيات، بل ستتضارب في بعض الأحيان. ولكن لنعلم أنه لن يهدأ بال للعلم إلا بإيجاد إجابة لهذين السؤالين.

المراجع
  1. Brown, D.. Illustration of Evolution, Chapter 42, Origin. 2017