من قلب نبتة الخشخاش: المورفين من الأساطير لمختبرات الكيمياء
من الفوضى الأولى انبثق خمسة آلهة؛ جايا، تارتاروس، نيكس، إيريبوس، إيروس. من اجتماع «نيكس» (إلهة الليل) و«إيريبوس» (إله الظلام) أتي «هيبنوس» إله النوم عديم الأجنحة، والذي أصبح بدوره أبا لإله الأحلام «مورفيوس» صاحب مهمة توصيل رسائل الآلهة إلى البشر ذوي القوة والشأن، متجسدا في أحلامهم على صورة بشرية.
قفزة نحو المستقبل، تحديدا منذ خمسة آلاف سنة، أطلق السومريون على الخشخاش اسم نبات السعادة في إشارة لحقيقة أن استعماله لأغراض غير مقتصرة على الطب كان أمرا موغلا في القدم. تحدث كبار أطباء الإغريق عن فوائد مستخلص الخشخاش -الذي يطلق عليه أفيون– في تخفيف الألم المبرح. وبين «ديسقوريدوس» كيف يمكن استخلاص الأفيون باحترافية من جوزة الخشخاش. أيضا أشار الأطباء وقتها لخطورته في مرحلة مبكرة من تطور علم الطب وحاولوا الحد من تداوله ووصفه. إلا أن جزءا لا يتجزأ من ثورة «باراسيلسوس» على الطب القديم كان أن أعاد وحاول نشر استخدام الأفيون كعلاج بصورة جديدة عبارة عن محلول أسماه لودانوم، ومنذ ذاك الوقت أصبح الأفيون دائما في مركز دائرة مسكنات الألم. كان كل ذلك بفضل المادة النشطة الأعلى تركيزا في الأفيون والتي أطلق عليها «فريدريك سيرتونر» اسم «مورفين».
بطاقة تعريف
جزيء المورفين
يندرج المورفين تحت تصنيف كيميائي يعرف باسم الأفيونيات opiates، وهي مركبات شبه قلوية alkaloids، أي تحتوي على ذرة نيتروجين قاعدية على الأقل، تلك القاعدية التي تسمح بتحويل المورفين إلى هيروين بالتفاعل مع حمض. للمورفين –والأفيونات عموما- قدرة على التأثير على الجهاز العصبي مباشرة متسببا في قدرة فائقة على تخفيف الألم. إلا أن هذه الميزة أدت لمشكلة كونه قابل للإدمان بسرعة شديدة.
تكمن قدرة المورفين على تخفيف الألم في تفاعله مع النيورونات neurons المسئولة عن نقل الإشارات العصبية، وذلك من خلال مستقبلات عصبية خاصة تعرف باسم مستقبلات أشباه الأفيونات opioids receptors. ولكي يتمكن أي مركب من التفاعل مع مستقبلات أشباه الأفيونات منتجا تأثير شبيه بتأثير المورفين، عليه أن يخضع لشروط محددة من حيث تركيبه وشكله الفراغي، فيما يعرف باسم قاعدة المورفين morphine rule والتي تشترط في أغلب المركبات المتفاعلة مع المستقبل أن يمتلك ذرة نيتروجين ثلاثية وذرة كربون رباعية تفصلهما ذرتي كربون، بالإضافة لوجود حلقات أروماتية. عند توافر هذا الشكل الفراغي والتوزيع الذري، يمكن ببعض التنويعات الكيميائية إنتاج عدد من المركبات التي تعمل بنفس طريقة المورفين وتؤدي لتأثير مشابه لتأثيره بدرجات مختلفة كما لو كان الأمر مقطوعة موسيقية. فمثلا، تحويل مجموعة الهيدروكسيل عند ذرة الكربون رقم 3 إلى مجموعة ميثوكسي يؤدي لتكوين مركب الكودين وهو ثاني أعلى المركبات تركيزا في الأفيون (بنسبة لا تتعدى 2.5%) بينما تؤدي «الأستلة acetylation» أي تحويل مجموعتي الهيدروكسيل عند ذرات الكربون رقم 3 و6 إلى مجموعات أسيتيل CH3CO إلى تكوين مركب ثنائي أسيتيل المورفين والمعروف باسم «هيروين».
المورفين كمحطة بين الأفيون والهيروين
يختلف المؤرخون حول العام الذي قام فيه «فردريك سيرتونر» بعزل المورفين من الأفيون في سابقة لم تحدث قبل ذلك في تاريخ الكيمياء العضوية. ذلك أنه كانت هذه العملية هي أول عملية عزل أو استخلاص لمركب طبيعي يعمل كمادة فعالة من نبات مخدر، لكن على كل فإن الحدث قد وقع ما بين العام 1803 و1806م، مع احتمالية أن يكون «أرماند سيكوين» قد اكتشفه بشكل مستقل ومتوازي مع سيرتونر عام 1803م. آنذاك، كان سيرتونر قد قام بمعالجة الأفيون بالماء والأمونيا بحيث تمكن من فصل مادة بلورية ذات لون أبيض يميل للاصفرار، وكانت هي المورفين النقي ذو التأثير الأقوى بما يناهز العشر مرات من الأفيون. بالطبع يمكن تفهم ذلك بالإشارة لحقيقة احتواء الأفيون على أكثر من 25 شبه قلوي تختلف في درجة نشاطها ويمثل المورفين 21% من تركيزها –بالكتلة.
ولأن المورفين يعمل كقاعدة، كان من الطبيعي أن يحاول العلماء مفاعلته مع أحماض ورؤية ما سينتج، وهو ما حدث عام 1874م عندما أضاف «تشارلز ألدر رايت» حمض الأستيك وأنهيدريد الأسيتيك إلى المورفين مع التسخين لساعات. في نفس الوقت كان «فيلكس هوفمان» يحاول أيضا إضافة مجموعات أسيتيل للمورفين. أدى نجاح الكيميائيان إلى ظهور الهيروين الذي سيصبح الدواء الأكثر انتشارا للسعال الجاف والسل لمدة ليست بقصيرة بعد اكتشافه. بل وقيام شركات أدوية ضخمة مثل إيلي ليلي –المعروفة بسيطرتها على إنتاج البنسلين والإنسولين في أوائل ظهورهما– ببيع المخدر الجديد دون الحاجة لوصف طبيب، وكذلك قيام شركة باير بتوزيعه على أنه بديل آمن غير مسبب للإدمان للمورفين وقد يساعد في علاج إدمان المورفين أيضا. كان الأمر أضحوكة تجارية ضخمة استغرقت أعواما حتى أدرك الأطباء كذبها بحلول عشرينيات القرن العشرين. أما بالنسبة للمورفين ذاته فقد كانت البداية صعبة نوعا ما. كانت العقبة التي أدت لتأخر انتشار المورفين كدواء بشكل مستقل عن الأفيون هو كيفية إيصاله لمكان عمله في الجسم، فهو لا يمكن تدخينه أو شمه أو تناوله. لذا كان على المورفين انتظار خمسينات القرن التاسع عشر حتى ظهور إبر الحقن Hypodermic syringes على يد «ألكسندر وود» و«تشارلز برافاز» لتقوم بمهمة توصيله لداخل الجسم.
نحو عمق الجزيء
في العام 1925م أعلن سير «روبرت روبنسون» عن اقتراحه للتركيب الكيميائي لجزيء المورفين بعد مرور قرن وربع القرن من عزله لأول مرة. لم يكن السبب في هذا التأخير المهول هو عدم الاهتمام، فقد كان السعي وراء مثل هذا الإعلان سعيا مضنيا بذل فيه الكثيرون جزيل الوقت والجهد، لكن الأمر كان يحتاج لفهم عميق لم يصل إليه إلا روبنسون. كانت الميزة الأساسية التي امتلكها روبنسون ومكنته من استنتاج الهيكل الصحيح هو معرفته القوية بالعديد والعديد من أشباه القلويات التي أمكن بمقارنتها استنتاج التركيب المعقد للجزيء. لم تكفي تلك المعرفة -رغم عمقها -لاكتشاف طريقة تحضير المورفين التي كانت الطريقة الوحيدة للحصول عليه حتى هذا الوقت هي عزله من الأفيون. كان الأمر بحاجة لسباق علمي محموم وفرته الحرب العالمية وإمكاناتها.
أضحت المعامل والمختبرات خلال الحرب العالمية الثانية جبهة حرب بحد ذاتها. كان الصراع دائرا حول إيجاد أسلحة أكثر تطورا، أغذية ومؤن أسهل في النقل وأكثر قدرة على احتمال الظروف التي يعيش فيها الجنود، أدوية أكثر فعالية لتقليل خسائر الأرواح وغير ذلك من المهام التي ألقيت على أكتاف العلماء. أدت هذه الأوضاع لتطور كبير في الكيمياء التخليقية أتت معظم ثماره بعد الحرب مباشرة ومن ضمنها تصنيع مارشال جيتس للمورفين جزئيا عام 1948م وكليا عام 1952م بواسطة «تفاعل ديلز» ألدر الشهير.
يمثل تفاعل ديلز-ألدر* علامة محورية في الكيمياء التخليقية لا يضاهيها تفاعل آخر. السبب في مثل هذا الموقف هو أن هذا التفاعل مثل البوابة التي اجتازتها البشرية نحو تصنيع المركبات الطبيعية Natural products؛ أي المركبات التي تصنعها النباتات (وبعض الحيوانات) بشكل طبيعي من مضاعفات وحدة بنائية تسمى تربينات Terpenes . ليس هذا فقط، فقد مكننا هذا التفاعل من تصنيع أشباه القلويات الهامة كما حدث مع المورفين. كان الأمر خارقا واستحق جائزة نوبل لـ «أوتو ديلز» و«كيرت ألدر» بجدارة.
علمتنا كيمياء المركبات الطبيعية أن للطبيعة دائما وجهان. تحكي الأسطورة في الشرق أن بوذا حاول منع نفسه من النوم فقام بقطع جفنيه ورماهما. عند لمس الأجفان للأرض نبتت زهرة الخشخاش التي أعطت البشرية النوم والكوابيس المخيفة. بعد آلاف السنين من الاستهلاك وقرنين من البحث العلمي ربما كان هذا هو بالضبط ما تمنحه لنا تلك الزهرة. نوم عميق كابح للألم، وكابوس مخيف بين الإدمان والموت المحتمل.
* يقوم ديلز-ألدر على تفاعل مركب يحتوي على رابطتين ثنائيتين متبادلتين (أي رابطة ثنائية، تتلوها رابطة أحادية، تتلوها رابطة ثنائية) مع ألكين مستبدل. تتضافر الروابط معا لتكوين حلقة جديدة فيما يعرف باسم Cycloaddition حيث يطلق على المركب الأول اسم Diene والثاني Dienophile. لفهم كيفية تطبيق هذا التفاعل على تخليق جيتس، يمكن رؤية التخليق هنا.
- Opioid Analgesics: Chemistry and Receptors- Alan F. Casy, Robert T. Parfitt
- Morphine- Gregory D. Busse, D. J. Triggle
- Organic chemistry- Leroy G. Wade