من طهران إلى قُم .. وبالعكس
رحلة استغرقت ما يُقارِبُ العقدين (1963-1979)، من انتفاضة 15 خرداد 1342 (حسب التقويم الشمسي الفارسي) إلى العودة في 12 بهمن 1357؛ لذا رُبّما كانت أشق الرحلات بين طهران وقُم وأطولها في التاريخ هي رحلة الإمام الخميني، رحمه الله؛ من الإمبراطورية البهلوية إلى الجمهورية الإسلامية، مرورًا بتُركيا والعراق وفرنسا. هذه المسافة التي يقطعها راكب السيارة اليوم في حوالي الساعتين؛ قطعها الإمام في أعوام. لكنه لم يكُن انتقالًا شاقًا داخل نطاقات الجغرافيا فحسب، بل انتقالٌ أشق في دروب التاريخ والوعي الإنساني، وطفرة هائلة في الوعي والوجدان الشيعيين، وتغيير اجتهادي نوعي في الفكر والممارسة السياسية الإسلامية في العصر الحديث. وبقدر مشقَّة الرحلة من قُم إلى طهران، كانت مشقَّة العودة الرمزيّة من طهران إلى قُم، عودة الفقيه مُمتطيًا السلطة السياسية للمرة الأولى منذ استقرار تقليد المرجعيّة في التاريخ الشيعي؛ العودة إلى الوسط العلمي/الاجتماعي الذي علا فيه صوت الإخباريين المعطِّلة، والمعارضين لعودة الشيعة لصيرورة التاريخ، والرافضين لإنهاء حالة الانسحاب السلبي من المجال العام لحركة الأمة المسلمة في ظل غيبة الإمام “المعصوم”. ورُبّما كان موقع بناء ضريح الإمام الخميني على الطريق بين قم وطهران، أقرب إلى طهران منه إلى قُم، وأقرب منهما معًا للمطار الدولي الجديد، الذي أُطلق عليه اسم قائد الثورة الإسلامية؛ رُبّما طوى ذلك كثيرًا من الرموز التي تختزل آلام هذه الغُربة الطويلة وآمالها ومآلاتها. الغُربة التي بدأت بدعوةٍ ربّانيّة، ولم تنته بتأسيس الدولة “الإسلامية” الحديثة، بل استمرت في ركاب الحداثة بحثًا عن فردوسٍ أرضيّ مُستحيل الوجود في التاريخ.
“هي مدينة مُستحدثة إسلامية لا أثر للأعاجم فيها، وأول من مصّرها طلحة بن الأحوص الأشعري، وبها آبارٌ ليس في الأرض مثلها عذوبة وبردًا، ويقال إن الثلج ربما خرج منها في الصيف. وأبنيتها بالآجرّ، وفيها سراديب في نهاية الطيب، ومنها إلى الرّي مفازة سبخة فيها رباطات ومناظر ومسالح”؛ هكذا وصفها صاحب مُعجم البلدان، الذي نقل كذلك عن الإصطخري أنها: “مدينة ليس عليها سور، وهي خصبة وماؤهم من الآبار وهي ملحة في الأصل، فإذا حفروها صيروها واسعة مرتفعة، ثم تبنى من قعرها حتى تبلغ ذروة البئر فإذا جاء الشتاء أجروا مياه أوديتهم إلى هذه الآبار وماء الأمطار طول الشتاء، فإذا استقوه في الصيف كان عذبًا طيبًا، وماؤهم للبساتين على السواني، فيها فواكه وأشجار وفستق وبندق”.
ويذكر البلاذري في واقعة فتحها أنه “لما انصرف أبو موسى الأشعري من نهاوند إلى الأهواز فاستقراها ثم أتى قُم فأقام عليها أيامًا وافتتحها، وقيل وجّه الأحنف ابن قيس فافتتحها عنوة، وذلك في سنة 23 للهجرة، وذكر بعضهم أن قمّ بين أصبهان (اﻵن: إصفهان) وساوة، وهي كبيرة حسنة طيبة وأهلها كلهم شيعة إمامية، وكان بدء تمصيرها في أيام الحجاج بن يوسف سنة 83 للهجرة. وذلك أن عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث بن قيس كان أمير سجستان (حاليًا تُسمّى سيستان؛ جنوب شرقي إيران قُرب حدودها مع باكستان وأفغانستان) من جهة الحجاج ثم خرج عليه، وكان في عسكره سبعة عشر نفسًا من علماء التابعين من العراقيين، فلما انهزم ابن الأشعث ورجع إلى كابُل مُنهزمًا كان في جملته إخوة يقال لهم عبد الله والأحوص وعبد الرحمن وإسحاق ونعيم وهم بنو سعد بن مالك ابن عامر الأشعري، وقعوا إلى ناحية قم وكان هناك سبع قرى اسم إحداها كمندان، فنزل هؤلاء الإخوة على هذه القرى حتى افتتحوها وقتلوا أهلها واستولوا عليها وانتقلوا إليها واستوطنوها، واجتمع إليهم بنو عمّهم وصارت السبع قرى سبع محال بها، وسميت باسم إحداها وهي كمندان؛ فأسقطوا بعض حروفها فسميت بتعريبهم قمًّا. وكان مُتقدم هؤلاء الإخوة عبد الله بن سعد، وكان له ولدٌ قد رُبّي بالكوفة؛ فانتقل منها إلى قمّ وكان إماميًا، فهو الذي نقل التّشيُّع إلى أهلها فلا يوجد بها سُنّيّ قط”.
عُشّ آل محمد، صلى الله عليه وسلم؛ كما يُلقِّبها الشيعة الإيرانيّون. إنها مدينة قُم. افتتحها أبو موسى الأشعري صاحب رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ ومصَّرها وعمّرها أحفادُه المتحدِّرين من اليمن، فشكّلوا قاعدتها السكّانيّة-المدينيّة الأولى؛ فهي مدينةٌ إسلاميّة التكوين عربيّة الطابع منذ اللحظة الأولى. وهي ثامن مُدن إيران من حيث الكثافة السُكّانيّة، إذ يزيد تعداد سُكّانها قليلًا على المليون. تقع على بُعد حوالي 150 كيلومترًا جنوب غربي طهران، وبينهما خط سكك حديديّة لم يكتمل. وتشتهر بحرارة جوّها مع جفافه، ونُدرة سقوط المطر نظرًا لمُحيطها الصحراوي وبُعدها عن البحر، وهو ما يشي بأن مناخها قد تغيَّر اليوم عمّا وصفه ياقوت في زمانه؛ ورُبّما زاد ذلك بسبب وجود بعض مُنشآت تخصيب اليورانيوم وأنابيب النفط حولها. وتحتذي قُم خُطى مشهد في التحديث العمراني، إذ تتم إزالة البيوت القديمة المنخفضة بوسط المدينة، لحساب أبراج إسمنتية قبيحة (راجع مقالي الأسبق:من طوس إلى نيسابور).
وهاهُنا، في قُم؛ تُجدل السرديّة الشيعية الإيرانية، كسجادة فارسيّة؛ من فُسيفساء تاريخية وحديثيّة، على نولٍ من عاطفة تضطرم بحُب آل البيت النبوي وتولّيهم. ولا يملك المُحبّ المخلص لهذا البيت وآله الأطهار إلا أن يتشقق قلبه عن حُب هؤلاء الذين تولّوه وتفانوا في حبّهم، برغم عُجمتهم؛ ولو أنكر عليهم غُلوًا أو شططًا مما يُنكره المنكرون. هذه السرديّة التي تلعب فيها الثقافة الشفاهيّة الدور الأبرز، بعكس أوهام البعض؛ ليست سرديّة نظريّة مُنفصلة عن الحياة وحبيسة الصدور، بل هي سرديّة حيّة تشكَّلت من جدليّة الوعي التاريخي النابض بصدق العاطفة والسلوكيات الإنسانيّة اليومية الملتزمة إلى حدٍ ما بمقتضيات هذا الوعي. وليست مواكب العزاء الدائمة ولا الازدحام الشديد لأجندة المواسم الشيعية السنويّة بالإحياء الدائم لكل اللحظات المفصليّة في حياة النبي وآل بيته، بدءًا بمولده صلى الله عليه وسلم ومرورًا بمبعثه وهجرته، وانتهاءً بوفاته، ومثل ذلك لآل بيته؛ ليست هي الوسيلة الوحيدة لشحذ هذه السرديّة وحفظ فعاليّتها التاريخية. إذ يلعب الشعر الفارسي دوره في بناء السردية، سواء الغزليّات أو العرفانيّات؛ مع إسقاط الخلفيّة المذهبيّة لأكثر شعراء الفُرس وعرفاؤهم، الذين غلب عليهم التسنُّن على مذهبي الأحناف أو الشافعيّة. هذا التجاهُل/الجهل بتنوّع المذاهب العقديّة لأكثر الشُعراء والعُرفاء الفُرس الكبار مصدره هيمنة السرديّة الشيعيّة الشفاهيّة، والتي تتم تغذيتها يوميًا بما يحفظ لها حيويّتها. ورُبّما كان هذا الوعي أحد مفاتيح فهم حجم الاختلاف بين الواقع اليومي وما سُطِّر في كتب التراث الشيعي، خصوصًا حين يستدعيها الطائفيّون للاحتجاج، برغم الضعف الشديد لمقدرتها التفسيريّة، وإن انطوت على بعض الحقائق التاريخيّة.
وتشتهر قُم بحلوى تُسمّى “سوهان”، والتي يتخصص في بيعها ما يربو على الألفي متجر. وتُصنع هذه الحلوى هشة القوام من دقيق القمح وصفار البيض والزبد، والهيل (الحبهان) وماء الورد والزعفران، بالإضافة للفستق واللوز. وفي إصفهان يُضاف لها العسل، بديلًا عن السُكَّر الذي يستخدمه القمّيون؛ ليزداد لمعانها وهشاشتها.
وتحتضن قُم مرقد السيدة فاطمة شقيقة الإمام على الرضا، الإمام الثامن عند الشيعة الإماميّة وصاحب المرقد الشهير في مشهد؛ وابنة الإمام موسى الكاظم (الإمام السابع) حفيد رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وقد صارت المدينة أكبر مركزٍ علمي شيعي بعد الثورة الإسلامية، متجاوزة بذلك حوزة النجف الأشرف بالعراق. وإذا كان تاريخ حوزة قُم يعود إلى القرن العاشر الميلادي تقريبًا، إلا أنها ابتُليت بالجزّار المجنون تيمورلنك، في القرن الرابع عشر الميلادي؛ فذبح أهلها، وطمس معالمها. وقد اكتسبت المدينة أهميّتها الدينية التي استمرَّت إلى اليوم في العهد الصفوي (1501- 1785 ميلادية)، حين فُرض التشيُّع رسميًا (وبقوّة السلاح أحيانًا) باعتباره المذهب الرسمي للدولة. ويُعتبر محمد بن إبراهيم الشيرازي، المشهور ب”صدر المتألهين” أو”ملا صدرا”؛ خاتمة فلاسفة الشيعة وأبرز الوجوه العلمية في تلك الفترة. لكن حوزة قم المعاصرة تدين بفضل إعادة إحيائها، عام 1922؛ إلى آية الله العُظمي عبدالكريم حائري يزدي. وقد ازدهرت ازدهارًا كبيرًا في زمن آية الله بروجردي، منتصف القرن العشرين؛ حتى صار يُجبى إلى مراجعها مبالغ ماليّة غير مسبوقة الضخامة؛ مُتمثِّلة في زكوات الشيعة وأخماسهم (الخُمس هو سهم النبي، صلى الله عليه وسلم؛ وآل بيته، ويُجبى للإمام أو من ينوب عنه للإنفاق غالبًا على فقراء بني هاشم). ومن أهم مزارات المدينة مسجد جمكران، الواقع خمسة كيلومترات جنوب غربيها؛ والذي يكتظ بالمصلّين والزوّار ليلتي الأربعاء والجمعة من كل أسبوع. إذ يعتقد الشيعة بأن الإمام المهدي (المنتظر)، الإمام الثاني عشر في سلسلة الأئمة من آل بيت النبي؛ سيظهر في هذا المسجد.
وعدد المؤسسات البحثيّة/العلميّة المستقلِّة والفاعلة في قُم يتجاوز الثلاثمئة؛ ما بين مراكز بحثية ومراكز تحقيق، تعمل جميعها في مجالات العلوم الشرعية والفلسفية وبعض التخصُصات البينية التي تتقاطع فيها هذه المجالات مع مجالات العلوم الإنسانيّة والعلوم الطبيعية. هذا عدا الجامعات الحكوميّة والخاصة، والمدارس الحوزويّة التقليديّة الخمسين، وأشهرها المدرسة الفيضيّة، حيث تلقى الإمام الخميني علومه ودرَّس بها؛ والتي لعبت دورًا مهمًا في الإعداد للثورة الإسلامية. وترتبط هذه المؤسسات العلميّة بعدد كبير من دور النشر التابعة، والتي نُقلت مؤخرًا إلى مركز تجاري حديث الطراز هائل الحجم مُتعدد الطوابق (بالفارسيّة: مجتمع ناشران)؛ حتى تخلو أماكنها في وسط المدينة. وتوجد في قُم الكثير من المكتبات العامة؛ أشهرها مكتبة آية الله مرعشي نجفي، التي تُعتبر من أكبر مكتبات المخطوطات الإسلامية في العالم، وتلي في ذلك المكتبة الأزهرية مباشرة.
في عام 1891م؛ حُمل السيد جمال الدين الأفغاني مريضًا، بواسطة أعوان ناصر شاه القاجار؛ من ضريح “شاه عبد العظيم” جنوب طهران إلى حدود إيران مع الدولة العثمانيّة، حدود إيران والعراق الآن؛ مطرودًا للمرة الثانية بلا مال أو غطاء … وبغير كتبه وأوراقه الشخصيّة، التي خلّفها عند صديقه الحاج محمد حسن أمين دار الضرب، أحد أكبر التجار الإيرانيين في حينه. وبعدها بقرنٍ ورُبع تقريبًا خرجتُ من إيران مُتحسسًا درب الأفغاني رحمه الله، ومارًا بشاه عبدالعظيم الحسني رضي الله عنه. خرجت مُفعمًا بأحلام السيد لهذه الأمة، تحدوني عِبرة التاريخ وعَبرته؛ حاملًا كتابات الأفغاني وأوراقه الشخصيّة، لنشرها في مصر التي احتضنت حركته أول أمره، وانتشرت منها شرارة دعوته لإيقاظ شعوب المسلمين من سُباتهم. وما بين صيحة الأفغاني وانتفاضة الخميني جرى في النهر ماء كثير غزير؛ ماء صنع ولاءات أجيال لهذه الأمة، ولحقيقة رسالتها المتمثلة في إخلاص العبودية لبارئها، وبذل النفس والأهل والمال في سبيل الدعوة لذلك. رحم الله أئمة هذه المسيرة، وألحقنا بهم غير مفتونين.