من زراعة الفراولة إلى الاستثمار: لماذا ننتقد الفقراء؟
قُدِّر لهذه الجملة أن تصبح رمزا بليغا للطبقية على مدى التاريخ التالي لها. فبعيدا عن الجدل التاريخي حول مدى صحة هذه المقولة، التي ذكرتها «ماري أنطوانيت» ردا على تدهور أحوال معيشة الشعب الفرنسي، ورغم أن الكثيرين يرون فيها قدرا من المبالغة، فإن كل يوم يمر في زمننا هذا وفي بلادنا تلك، يثبت مدى دقة هذه الجملة في توصيف الفجوة العميقة بين الفقراء وغيرهم من طبقات.
ولن يكون من قبيل المبالغة القول إن الأوضاع في مصر قد تجاوزت هذه المقولة. فلك أن تتخيل أن «ماري أنطوانيت» قالت:
والفارق بين الجملتين عظيم، فالأولى منحت الفقراء حق تناول الكعك، حتى وإن حقا افتراضيا غير قابل للتحقيق، إلا أنه حق يمنح الفقراء نفحة من حياة الأغنياء، أما الثانية فقد حرمتهم من حق الحياة الكريمة من الأساس.
هذا بالضبط ما فعلته المذيعة في ذلك الفيديو الذي بثته الصفحة الرسمية لمحافظة بورسعيد، تحت عنوان «عدد من الوافدين من المحافظات الأخرى تم ضبطهم أثناء قيامهم بأعمال التهريب»، حينما وبّخت الأطفال وشهّرت بهم، وحينما تحججّوا بالفقر، لم تتوار حجلا، أو راحت تُحمل المجتمع أو الدولة بمنظومتها التعليمية والقيمية أي مسئولية، بل وبّخت الأطفال ثانية، بحجة أن هناك أعمالا شريفة أخرى من الممكن أن يلتحقوا بها، أعمال تحمل من المخاطر الجسدية والنفسية ما لا تطيقه لنفسها أو لأهلها، وأعمال أخرى يتعامل معها مجتمعها بأقصى درجات الدونية، فكلنا نتذكر وزير العدل السابق «محفوظ صابر» الذي قال:
وهي التصريحات نفسها التي أكدتها ممثلة السلطة التشريعية، النائبة «لميس جابر».
الفقراء هم سبب الفقر
كثيرة هي الدراسات التي أجُريت حول ظاهرة الفقر، في محاولة تحليلها والكشف عن أسبابها، وخلاصة الأمر في هذا الشأن، أن هناك مستويين رئيسيين لتفسير الفقر:
1. المستوى الرأسي:
وتظهر تحته عدة مستويات فرعية؛ تبدأ من «الفرد» عندما يركن إلى الاستسلام والتواكل، ويقبل الانهزام النفسي، ويفقد الثقة في قدراته الذاتية. مرورا بـ «المجتمع» حينما تقل مظاهر التكافل والتضامن والتعاون، ويكون المجتمع حينها مسئولا عن انتشار الرذائل والجرائم وتفشي الظلم والجور. وتظهر مسئولية «الدولة» في طبيعة النظام السياسي نفسه عندما يكون نظاما استبداديا، همه جمع الضرائب والاستحواذ على مصادر الرزق والاستئثار بها.
2. المستوى الأفقي:
في هذا المستوى تظهر مجموعة من الأسباب التي تتفاعل أفقيا، وتتدخل بنسبة أو أخرى في تصنيع ظاهرة الفقر وتوسيع مداها، بداية من الطبيعة الاستبدادية للأنظمة السياسية القامعة للحريات، مرورا بطبيعة النظام الاقتصادي الذي نجح في تصنيع ظاهرة الفقر والتحكم فيها بتجميع الثروة وتركيزها في أقل عدد، وكذلك الأمر مع النظام الاجتماعي الثقافي والنظام التعليمي والعلمي، اللذين يُهيئان البيئة المناسبة لتنامي مرض الفقر.
ومن المثير للسخرية أن النخبة المصرية «المثقفة» لم تستوعب من كل هذه الأسباب والتفريعات إلا مسئولية الفرد، والفرد فقط، عما أحاط به من فقر، فهناك عبارات باتت متوارثة في المجتمع المصري حول الفقراء، ومن ينتمي إليهم من العمال، مثل:
فبات كسل هذه الطبقة هو سبب فقرها وشقائها، وبالتالي، فإن أي سلوك انحرافي يقوم به الفقراء هو غير مُبرر لباقي الطبقات، حتى وإن كان بغرض توفير متطلبات الحياة الأساسية.
فالفقير مُدان بسبب فقره، ومُدان إذا ما حاول التخلص من فقره بأساليب غير شرعية (مُعتاد ممارستها في مجتمعاتنا)، ومُدان إذا ما خاطر بحياته للبحث عن عمل شريف أو أفق جديد، والإدانة هنا لا تأتي خوفا على حياة الفقير، وإنما خوفا على مظهر ورونق النظام السياسي.
الباعة الجائلون وثنائية «الخطر والاستسهال»
هذا الجزء المقتضب من حوار أطفال بورسعيد، يكشف لنا عن تناقض صارخ في لغة الحوار التي تستخدمها النخبة المصرية في مواجهة الفقراء، وكأن هذا الحوار جاء ليكشف ببساطة ووضوح عورات المجتمع المصري وتناقضاته تجاه الفقراء.
فما بين الطريق السهل أو «الاستسهال» وتعريض النفس للخطر فروق عظيمة، يدركها أي مبتدئ في تعلم اللغة العربية، ومع ذلك نجدهما يجتمعان معا في توصيف فعل واحد لشخص واحد، شريطة أن يكون هذا الشخص فقيرا.
هكذا وُصف أطفال بورسعيد، وهكذا وُصف ضحايا مركب الهجرة غير الشرعية، الذي غرق في مدينة رشيد بالبحيرة، في سبتمبر/أيلول 2016، والذي شهد إنقاذ 164 فقط من 400 مهاجر كانوا على متن السفينة.
لم يسلم الأحياء والأموات، ممن كانوا على ظهر هذه المركب، من انتقاد «النخبة» المصرية المثقفة، التي استخدمت الثنائية نفسها (الخطر والاستستهال). فعلى سبيل المثال، انتقد المدون المصري «إبراهيم الجارحي» فكرة الهجرة غير الشرعية، ودعا غيره من الشباب إلى تبني مشروع زراعة «فراولة أورجانيك» فوق أسطح المنازل، وهو المشروع الذي لن يكلف الشاب سوى 8000 جنيه، وسيحقق منه عائدات كبيرة، وفق زعمه.
وغالبا ما يكون تبني هذا النوع من الخطابات بدافع من اثنين؛ إما تطهير الدولة من ذنب هؤلاء الضحايا، الذين باتوا في لغة الخطاب «أغبياء» أو «كسالى» وأحيانا «مجرمين». أو تبرئة النفس وطبقة المثقفين من مسئوليتهم المجتمعية تجاه هؤلاء الفقراء الضحايا.
ولكن مثل هذه الخطابات تتعرى تماما حينما يجري الحديث عن قضية لا تصلح فيها ثنائية (الخطر والاستسهال)، ولا يستطيع المثقف الحديث عن المنظومة القيمية للمجتمع، الذي نصّب نفسه حاميا لها، ويرى أن الفقير ينتهكها. وهي قضية الباعة الجائلين.
تلك القضية التي شغلت الرأي العام –نسبيا- عقب قيام الحكومة بطرد الباعة الجائلين من شوارع وسط القاهرة، في أغسطس/آب 2014، وقد هلّلت «النخبة» المصرية لهذه الخطوة، مبررين ذلك بأن هؤلاء الباعة كانوا يشوهون المنظر الجمالي لشوارع القاهرة. دون البحث عما إذا كانت الدولة قد وفرت لهم بديلا ناجعا، يحافظ لهم على قدر معقول من الدخل.
والجدير بالذكر أن تقديرات الخبراء لعدد الباعة الجائلين يقترب من خمسة ملايين بائع في عموم أنحاء الجمهورية، 15% منهم من النساء، وتبلغ نسبة الأمية بينهم حوالي 28% للذكور و70% للنساء، و68% منهم تحت سن الأربعين.
وتؤكد الدراسات أن نسبة 90% على استعداد للاشتراك في نظام تأميني ولدفع ترخيص سنوي لحق البيع، ونسبة 87% على استعداد لدفع إشغال طريق بصفة سنوية، وهو ما يتناقض مع سلوكهم الحالي؛ حيث 98% من الباعة الجائلين مخالفين للقوانين، وهذا إن دل على شيء إنما يدل على الطبيعة التعجيزية للإجراءات الحالية الخاصة باستصدار تراخيص البيع وإشغال الطريق.
كذلك تُظهر الإحصائيات أن 87% من الباعة الجائلين لا يرضون أن يعمل أبناؤهم بنفس المهنة. وهو الأمر الذي يعكس بلا شك عدم رضا أولئك الباعة عن مهنتهم وأسلوب حياتهم، ويعكس ما يلقاه هؤلاء البائعون من تعب وإهانة في سبيل سد احتياجاتهم الأساسية.
خلاصة الأمر، تتعدد القضايا والحالات، ويظل الفقير هو المتهم الأول في أعين «النخبة» المصرية.