من صنعاء إلى إسطنبول: تضاعيف المدن ونوافذ العزلة
ما زالَ عالقًا في ذهني، رحلة الصَّيفِ السَّنوية التي نتجه فيها إلى صنعاء، في محاولةٍ للتخلصِ من قيظِ المدينة، وحرارتها التي لا تُداهن، كانت صنعاء تمثلُ للكثيرِ منّا، مدينة عالمية، بزحامِها، وعمرانها، ومناخها، ودهشتها، وسيرتها الأولى.
عندما ننتقلُ إلى صنعاء، نعيشُ حياةً مغايرةً لحياةِ المدينة المستلقيةِ على البحر، ففي مدينتنا نمشي بلا أحذية، نركضُ في كلِّ مكان، كل ساحةٍ صغيرةٍ قابلة لأن تتحولَ إلى ملعبِ كرة قدم، وكل الأكياسِ المرمية في شوارعنا، المتطايرة في الفضاء، والعالقة في البراميلِ الصدئة، جميعها قابلة لأن تُجمعَ لتصبحَ كرة قدمٍ صالحة للعب.
لا نستطيع أن نفعلَ كل ذلكَ في صنعاء، كان جوها البارد يشعرنا بـ «مهابةٍ متوحشة»، نحاول أن نسايرهم، فلا نشتري أكياسَ الماء بـ «خمس ريالات» من أي دكانٍ عابر، وإنما نضطر لشربِ الماء المعلَّب، ونتناول وجبةَ العشاء في مطعمِ «منهاتن» في شارع الزبيري، بدلًا من مطعم «الراعي» العتيق في مدينتنا.
كل ما سبقَ، لا معنى له، أو بمعنى آخر: ليس هو المقصود من الفكرة التي أريدُ أن أضعكم فيها، كان لزامًا أن أدلِفَ إلى الحياةِ بينَ المدينتين، من أجل أن أعرضَ فكرتي، وقد علمتَ شيئًا عن المهابةِ المتوحِشة التي كنتُ أشعرُ بها في صنعاءَ الحلم.
الانتظار الأبدي
في يومٍ صيفي، وجدتني وحيدًا في المنتصفِ الأخيرِ من النَّهار، في صنعاء الكبيرة كما كانت تبدو لي يومها، ذهبَ أخي مع بعضِ الأصدقاء إلى منطقةِ «التحرير»، دون أن يأخذني، ظللتُ متكِئًا على الأملِ في عودتهم سريعًا، فلا معنى للمدينةِ الفاخرة إذا كنتَ وحيدًا… لأنها تتحولُ فجأةً إلى سوطٍ يضربكَ عاريًا، لم أكن أعرفُ حينها أنَّ الصديقَ يحولُ دونَ ألمِ السِّياط!
خمس ساعاتٍ كان الانتظار فيها جليسي، وما كانَ يخففُ عني إلا الجلوس في كافتيريا قديمة، عند بوابةٍ خشبيةٍ مهترئة بانت عليها آثار الرطوبة والزمان. طلبتُ «كندا دراي كولا»، لم أكن بعدُ أعشقُ الشَّاي، ولو كنتُ أعرفه جيدًا؛ لما بقيتُ قلقًا أنتظرُ أحدًا يخففُ عني وحشةَ المكان.
في الكافتيريا، عُلقَ تلفازٌ قديم، يبثُّ أغانٍ يمنية كلاسيكية، كأنَّ القائمينَ على القناة، أحسوا بوحدتي، وشعور الغربة التي أصابتني مبكرًا؛ ليبثوا الحلقة الأخيرة من مسلسلي الأثير «النَّمر المقنع»، انفرجت أساريري قليلًا، انهمكتُ في المشاهدة بكلِّ أحاسيسي؛ طلبًا للنِّسيان، لم أكن أعلمُ أني سأبقى أمدًا من العمرِ في طلبِ النِّسيانِ دونما استجابة!
انتهيتُ من مشاهدةِ «النَّمر المقنع»، واكتشاف حقيقة «تامر»، الصحفي الفاشل، الذي كان يتخفَّى في زيِّ «النَّمر»، ثم تحوله في الدقائقِ الأخيرة إلى إنسانٍ نبيل، بعد أن كان شابًا صعلوكًا لا معنى له، في نظرِ الجميع، وعندما قَدِمَ الأصدقاء وأخي؛ رأيتُ صنعاءَ وقد استحالت مرةً أخرى إلى مدينةٍ نبيلة، وتناسيتُ ساعات الوحدة التي قضيتها منتظرًا طلبًا للنجاة.
عندما كبرتُ كنتُ لا أذهبُ إلى صنعاء إلا برفقةٍ صالحةٍ للتسكعِ في كلِّ أزقةِ المدينة وأنحائها، ليبقى الألقُ في قلبي متوهِجًا، وحتى لا تتسللَ إلى روحي مهابتها المتوحشة.
الشاهد في كل هذه الثرثرة؛ أني ما زلتُ أذكر لحظةَ الاكتئاب التي ضربتني في السَّاعاتِ الخمس التي انتظرتها، أتخيلها دومًا كأني في كرسي الكافتيريا منتظرًا… أُمَنِّي نفسي بقدوم أحدهم، لا أدري لماذا شعرتُ بالخذلانِ يومها؟ وأبى أن يتركني… كلما مررتُ بخاطرٍ حزين، تتداعي لي تلكَ الليلة… رغم مرور السَّنواتِ الطوال؛ لكنها أخذت مكانها لتكونَ ليلةً من ليالي الوحشة التي لا تُنسى، إذ إن صدى المواقف التي نظنُّ بأننا نسيناها ترافقنا مدى الحياة. وتشيِّدُ في ذاكرتنا منزلًا سنعودُ إليه عاجلًا أم آجلًا.
ربما يفسِّر أُنسي وفرحي بالأصدقاء، والحرص على وجودهم في حياتي في أي مكانٍ رمتني إليه يدُ القدر؛ تلكَ الليلة، التي شعرتُ فيها أنَّ الأصدقاءَ مكونٌ خارجيٌ من عناصرِ الرُّوح، بذهابهم تذبل، وتتعرضُ لسِياطِ الأيام المؤلمة!
في أيِّ بقعةٍ أهبطُ إليها، أول خاطرٍ يحومُ حولي، كيفَ يمكنني أن أشيِّد صداقة في هذا المكان؟ ولا يزالُ الإنسان غريبًا حتى يظفرَ بصديق؛ ليبقى مواطنًا خالصًا.
فطرةُ الحب الجِبلِّي
غادرتُ مدينتي تاركًا حفنةً من الذكرياتِ عزيزة وأليمة، منثورة في شوارعها وميادينها، وقلوب ساكنيها. وما زلتُ أتذكر جيدًا أني قدِمتُ إلى «إسطنبول» فجرًا. كانَ في استقبالي صديقٌ من حسناتِ الأيام، لم أشعر لحظةً في المدينةِ الكبيرة أني غريب؛ ربما لأنَّ إسطنبول تُلقي في رُوع زائرها أنها مدينةٌ تعيشُ في داخلك، تشبه إلى حدٍ ما «الفِطرة الأولى»، «فطرةُ الحب الجِبلِّي»، ما إن تعانقُ هواءها حتى يتبدَّى لك إلفٌ مستحكِمٌ في النَّفس، ومعرفة عتيقة غائرة في الذَّاكرة والرُّوح، لا تستطيع أن تعرف متى كان اللقاء الأول؟ لأنَّ «الفطرة المتجذرة» هي البدء والأصل، فكأننا نعودُ إلى مكاننا الأول عندَ اللقاءِ بها، فتزول بواعثُ الوحشةِ والنُّكران.
تجولتُ فيها منذ اللحظةِ الأولى لوصولي، كنتُ كأني عدتُ إلى مدينتي التي تركتها بلا وداع، أغلب الظن؛ أنَّ الفضل في ذلك يعودُ إلى صديقي الذي رافقني طيلةَ بقائي هناك! فعندما تركته، وأسلمني إلى محطةِ الوداع؛ للتوجه إلى المدينةِ التي سأدرسُ فيها، بدأت عواصفُ الاكتئاب تضربُ في أذني شيئًا فشيئًا، كنتُ أعلم أني أقدِمُ على مدينةٍ لا أعرفُ فيها أحدًا، فما المدنُ بلا صديقٍ إلا خرابةٌ في فلاة!
وصلتُ إلى المدينةِ فجرًا، وصولي المتكرر إلى المدنِ في ساعاتها الأولى يُشعرني بشيءٍ أشبه بالنَّقاء، لأنَّ المدنَ لا تُظهر فتنتها إلا في ساعاتِ الحياة الأولى، أو عندما تنامُ ليلًا، فور تمكِّنِ الليلِ منها.
استقبلني طالبٌ لطيف، حاول أن يسدَّ مسدَّ صديقي، فهدَّأ خاطري قليلًا… ثمَّ أسلمني إلى غرفتي وحيدًا، بعد أن ألِفَتْه نفسي. في الغرفةِ عشتُ وحيدًا فترةً من «العمر»، العمر هنا أخذ معناه من قاموسِ الوحشة، وإن كانت أيامًا معدودة. قضيتُ تلكَ الأيام الأولى كأني في الكافتيريا التي قضيتُ فيها منتظرًا خمس ساعات!
في تراثنا العربي كتبَ أحد أساطين الأدب سِفْرًا عظيمًا عن «الصداقة والصديق»، لعل «أبو حيان التوحيدي»، الذي آلمته الحياة، وخدشته بأظفارها، كانَ مدفوعًا بمزاجه ونفسيته وظروف حياته إلى التفتيش عن الصَّداقة وإحلالها مكانًا أوليًّا في علاقاته مع النَّاس، وإلى العناية بموضوعِ الصداقة، والتعرف على ماهية الصَّديق.
الذين يمرونَ في الحياةِ مرورًا ليسَ عابرًا، استحقوا أن يقتطعَ «أبو حيان» قطعةً من العمرِ في الحديثِ عنهم، تخليدًا لشيءٍ من المآثر، ووصفًا يليقُ بمكانهم ومكانتهم التي ترمِّمُ الأوجاع الملتصقةِ بنا من وعثاءِ الحياة، ولهذا نجده ينقلُ عن أحدهم قوله: «إذا ماتَ لي صديقٌ سقطَ مني عضوٌ»، وينقلُ عن آخرٍ قوله: «الرجلُ بلا صديقٍ كاليمينِ بلا شمال». وهو تعبيرٌ دقيق، ينتسبُ إلى دائرةِ الحقيقة، لا علاقةَ له بالمبالغةِ والمجاز، فحياةٌ بلا صديق، تفتقدُ لمعنى الحياة، لأنه يسهِمُ في بقاءِ جذوتها متوهجة، وتنطفئ بغيابه.
عندما ضربتنا الموجة الأولى من «فيروس كورونا»، ودَخَل العالَمُ في «عزلةٍ إجبارية»، كانَ حولي العديد من الأصدقاءِ في المكانِ الذي كنتُ أعيشُ فيه، انتفى عنَّا مفهوم العزلة، وكنَّا أقرب إلى «عزلةٍ صاخبة جدًا»، بتعبير «بوهوميل هرابال». بدا العالَم مكتئِبًا، مُوحِشًا، ووحدنا كنَّا نعيشُ عزلةً مجازية، جرَّدها من معناها الكثيف حضور الأصدقاء، الذين انتصروا على «الفيروس» في معركته العنيفة لعزلِ الإنسان، وإبقائه وحيدًا، منتظرًا فرجَ انزياح الغمَّة، كما انتظرتُ ببراءةٍ قدومَ الأصدقاء ذاتَ يومٍ حزين.