من الوحي إلى التجربة الدينية
في تعليقه على كتاب “الفن القصصي في القرآن” لمحمد أحمد خلف الله، رأى “خليل عبد الكريم” أن ثمة فكرتين يمكن اعتبارهما بحق أجرأ ما في كل الكتاب الذي أثار جدلا كبيرا انتهى برفض الرسالة ومنع الشيخ الخولي من الإشراف على رسائل بعدها. وهي أفكار تعتبر جديدة وطريفة بالفعل على عكس الأفكار التي تم إثارتها كدليل على تجديف خلف الله والتي للمفارقة لم يخترعها خلف الله بل استند فيها لعدد من أئمة التراث مثل اعتبار نزول الملائكة في بدر كذا قصة جنة عدن مجرد تمثيل.
الفكرة الأولى هي اعتبار خلف الله أن القرآن لم ينف وجود الأساطير فيه، إنه نفى فقط كونها من عند محمد؛ فالقرآن يحوي بالفعل أساطير الأولين.
الفكرة الثانية اعتبار خلف الله أن كثيرا من قصص الأنبياء يعبر عن نفسية النبي محمد وأوضاعه الاجتماعية في مسيرته للدعوة إلي الله، هذه الفكرة وصفها خليل عبد الكريم بأن “كل الكتاب في كوم وهذه الفكرة وحدها في كوم، حيث أن هذه الفكرة قد تفضي لاعتبار القرآن كلام محمد!”(1).
سنترك لمقال آخر فكرة علاقة القصص القرآني بالأساطير، ونحاول هنا مناقشة فكرة تشكل القصص القرآني بنفسية الرسول وأوضاعه الاجتماعية، وعلاقة هذه الفكرة بالشكل الذي نتصور عليه شكل اتصال النبي بالله.
مراعاة الله لأحوال المخاطب (محمد أحمد خلف الله):
ربما لم يخطر على بال خلف الله كون هذه الفكرة التي تربط الوحي بنفسية النبي وأوضاعه الاجتماعية قد تفضي إلى اعتبار الوحي كلام النبي محمد، ليس فقط لابتعاد كتابه عن قضايا اللاهوت وتوقفه عند مهمة أدبية هي قراءة القرءان كنص أدبي أو كتاب العربية الأكبر كما كان يسميه أمين الخولي أستاذ خلف الله والمشرف على رسالته؛ ولكن لأن الواضح لمن يقرأ الكتاب هو أن خلف الله لا يتحرك بنظريته عن القصص بعيدا عن الإطار المعرفي الذي يحكم تصور علاقة النبي بالله باعتبارها علاقة وحي أو تنزيل عمودي ينتقل فيه القرآن من الله إلى النبي دون أي تأثير للأخير فيه، رغم اعتباره كثيرا من هذه القصص لا يملك أحقية تاريخية. فالله هو الذي يريد أن يعبر بما يفهمه الناس، والقرآن لأنه موجه للجاهليين كان -رحمة بهم- يعبر بما تفهمه عقولهم. القرآن اختار اللغة العربية ولذا تداخل مع آدابها، ولأنه كتاب العربية الأكبر فقد ضرب الأمثال والقصص المنتشرة في الجزيرة العربية دون اهتمام بصحة انطباقها على الوقائع التاريخية، بل فقط لأهداف أخلاقية وتربوية ولتثبيت فؤاد النبي، ولنستخدم كلمة لم يستخدمها خلف الله فنقول: لخلق قصة خلاص ينتظم فيها النبي محمد فتكون قصته مع قومه قصة أبدية الطابع.
كل شيء هنا وفي انتماء كبير لدرس محمد عبده في المنار مردود لإرادة المتكلم بالقرآن أي الله، لذا فمع خلف الله ورغم هذه الفكرة عن تأثر القصص بنفسية النبي محمد وأوضاعه الاجتماعية ورغم نفي الأحقية التاريخية للقصص يظل القرآن كلام الله المنزل، لذا فالحديث عن مراعاة من القرآن للاجتماع الجاهلي ولنفسية الرسول أمر أكثر اتساقا من الحديث عن تأثير لهما في القرآن في هذه الحالة.
وبعيدا عن مدى تنبه خلف الله لما قد تعنيه هذه الفكرة لو قرأت لا داخل فكرة الوحي أو التنزيل العمودي بل في مواجهته -كما يفترض عبد الكريم من أن هذا هو مقصد خلف الله الذي تركه ليتوصل إليه القارئ الفطن- فلم يكن ممكنا الانتقال من فكرة المراعاة الإلهية لحال المخاطبين ولنفسية النبي إلى فكرة التأثير، أو من فكرة القرآن كلام الله المنزل -الذي يستطيع ألا يراعي لكنه راعى لفضل رحمته حال المخاطبين- إلى فكرة القرآن كلام محمد المتأثر بنفسيته وباجتماعه عبر نفس الطريقة التي تصور بها خلف الله القصص القرآني -أو جزء منها- كأساطير، لا حقائق، منتشرة في الجزيرة، وكذلك عبر نفس الطريقة التي فهم بها نفسية النبي حين اعتبر هذه الآثار النفسية هي الخوف واليأس وما شابه. فالانتقال لو تم وفقا لهذه الرؤى لكان معناه اعتبار محمد هو مؤلف النص ومبدعه وخالقه، أي اعتبار “إن هذا إلا اختلاق”؛ وهو رأي أسوأ ما فيه ليس نفي ألوهية القرآن، بل أسوأ ما فيه أنه يتحرك من داخل فكرة الاتصال كوحي أو كتنزيل عمودي نفسها. فالاتصال بالسماء وفقا لهذا المنظور هو إما كلام الله الموحى وإما كلام رجل يكذب على الله، فداخل هذه الإطار المعرفي ليس ثمة سوى ثنائية واحدة، النبي في مقابل مسيلمة، المسيح في مقابل سيمون الساحر، ولا تلوح هنا أي محاولة لتجاوز هذه العلاقة نفسها نحو علاقات أعلى تكسر هذه الثنائية لافتراض نمط آخر يكون عليه اتصال الله بالنبي.
أيضا ما يجعل هذا الانتقال شديد الصعوبة هو المعنى الذي تتحمله كلمة “نفسي” في هذا السياق الزماني، فالنظرة الشائعة وقتها عن نظرة علوم النفس إلى الدين، كانت تفضي لخوف شديد تجاه كل مقاربة نفسانية للوحي، فلا شيء ينتظر من هذه المقاربة سوى اعتبار الوحي حالة من حالات الصرع أو الهستريا. كان هذا وراء حصر خلف الله المشاعر النفسية التي يستجيب لها القرآن في ما ذكرنا من خوف و يأس، و غياب فكرة القلق الأصلي أو الوجودي كذلك الشك الجذري بكل مراتبه عن اهتمام خلف الله في قراءته القصص.
والأهم من هذا كله أن تعامل خلف الله لم يكن موجها بالأصل تجاه النبي بل تجاه القرآن، ولعل النبي محمد لم يحظ بعد باهتمام كهذا الذي وجه للقرآن منذ بدايات عصر النهضة والذي تعد أطروحة خلف أحد تجلياته ولحظاته المفصلية. فمع سيطرة السؤال الاجتماعي والسياسي بالذات على ذهن مفكري النهضة وفي سياق الإجابة على الاتهامات الموجهة للإسلام وامتحان قدرته على صنع حضارة ومدنية كان الانشغال الأكبر موجها لبلورة تصور يجيب على هذه الأسئلة وصياغة تصور لتأويل القرآن بحيث لا يعارض العقل. و كان الاهتمام بالنبي اهتماما بالدفاع عنه ضد اتهامات الاستشراق الكلاسيكي بالكذب والقراءة السيئة للتوراة والإنجيل -وهي من دوافع كتابة خلف الله أطروحته- والحسية و إشعال حروب مقدسة.
ربما أيضا كون النبي محمد جزء رئيس من الخطابين الصوفي العالم والشعبي الذين تنكر لهما خطاب النهضة ورأى النهوض في نبذ الأول وتربية الثاني كان سببا وراء عدم بحث قضية النبوة أو إيلائها أهمية كبير؛ إن لم يكن وراء قراءة النبي كقائد سياسي أريب مع الاهتمامات التي سادت في أوائل الأربعينات الباحثة عن زعيم أو عبقري(2). في كل هذا نحن بعيدين عن تناول وقراءة للنبي محمد كنبي. هذا يعني أن محمدا ظل في الخطاب الإصلاحي كما هو قبله ناقل سلبي للرسالة وقدوة وأسوة في الأخلاق والعبادة، لذا فهو مضطر دوما لترك مكانه ليأخذ القرآن بدلا عنه كل الاهتمام. من هنا تأخذ ملاحظة خلف الله أهمية كبيرة، فهي تعيد النبي للصورة مرة أخرى داخل نسيج القرآن ذاته، إنها وهي تجعل قصص الأنبياء هي قصة النبي نفسه تجعل القرآن كله تقريبا ظلالا للنبي.
التموضع البشري لكلام الله (نصر حامد أبو زيد):
استطاع نصر أبو زيد تقديم الأساس الفلسفي لفكرة خلف الله، فنظرته التي ضمنها كتابه “مفهوم النص” عن كون النص، أي نص، يكون في بدايته نص منتج “بفتح التاء” هي التي تبرر لماذا كان على القرآن اللجوء لأساطير الأولين؛ هذا لكونه في هذه المرحلة كان لازال نص منتجا “بفتح التاء”. غير أن تفسير نصر هذا يختلف عن رؤية خلف الله حيث ينتقل ولو قليلا من إطار “المراعاة النابعة من إرادة الرحمة” الذي يحكم كتاب خلف الله لإطار آخر هو إطار القانون غير المخترق، وهذا لأن نصر من البداية كان قد حيد الله من المعادلة، فهو يقرأ القرآن لحظة تموضعه بشريا كما يقول. هذا ما ساعده على أن يقول أن القرآن كان عليه أن يتداخل مع الأساطير الموجودة، دون حديث عن إرادة الله هنا.
لكن هذا التحييد لله المتكلم بالنص وقراءة النص وحده مفترضة أن للنص عالمه، هي نفسها تعتبر إقرار لكون إرادة الله محددة وليست مطلقة، فإرادة الله تقف عند حد قواعد عالم النص ولا تستطيع اختراقها، فعالم النص المستقل مستقل تجاه الله بالأساس كذا دخول المخاطبين جزء من النص وفقا لقواعد الخطاب، وهذا ما يجعلنا خارج فكرة المراعاة الإلهية النابعة من إرادة الرحمة تجاه فكرة القانون المحدد للإرادة. لكن التمسك بالقرآن منذ تموضع بشريا كما حيد الله فقد حيد النبي أيضا. ورغم تحويل القرآن لفضاء يتسع لواقع الجزيرة الروحي والاجتماعي فقد غاب عن صفحته النبي محمد ذاته.
لكن لو تركنا كتاب “مفهوم النص” الهادف لبلورة وعي بالجانب الواقعي في النص القرآني وكيفية تداخله مع عقائد الجزيرة نحو كتابات أخرى لنصر سنجد اهتماما بالنبي محمد. نستطيع إرجاع هذا الاهتمام لأسباب عديدة أهمها خروج نصر الواضح من التمعن في كتاباته خارج “إبستيم التربية” الذي يشكل نمط علاقة مثقف النهضة مع الناس وتدينهم الشعبي، ما فتح له باب الاهتمام بالتصوف الشعبي. نتج عن ذلك دراسة متميزة للسيرة النبوية كسيرة شعبية. ورغم أن هذه الدراسة لا تتعرض للنبي نفسه ولكن لنص السيرة، إلا أن مقاربة نصر هذه للسيرة تلفت الذهن لوجود نبي غير رسمي.
وبمعالجتها نص السيرة نفسه وتجاوزها إشكال التاريخي والأسطوري داخل هذه السير وهو الإشكال الذي حصر داخله المحدث و المؤرخ، تنفذ نحو طريقة تشكيل تاريخ النبي في المخيال الجمعي، وتبرز كيف هو تشكيل لا يتم مرة واحدة ولا يتم كذلك بعيدا عن التفسير الرسمي للنبوة، بل يتم بالتدريج حاملا تأثير الصورة الرسمية للنبي، فكما يقول ابن هشام أن سيرته هي اختصار وتركيز لسيرة ابن إسحاق. فإذا كان من مدارات هذا التركيز حذف المشين و المعيب، فإن هذا يعني أننا أمام تنقية لصورة النبي وإعادة رسم لها لا تنفي تأثرها بالثقافة العالمة. هذه الإشارة شديدة الأهمية تلفت النظر بقوة لوجود ما هو محذوف أو مسكوت عنه من سيرة النبي، شيء رفضته الثقافة العالمة واعتبرته مشينا! لتترك الباب مفتوحا للسؤال هل تصور النبوة كاصطفاء والاتصال كوحي أو تنزيل عمودي هي تصورات تبناها الجميع منذ أول لحظة، أم هي تصورات نشأت بالتدريج أيضا وخضعت للتنقية و الحذف كما في عبارة ابن هشام؟
نجد انشغالا آخر بالنبي في كتابه عن الإمام الشافعي حيث انشغل بتحرير الاجتماعي في شخصية النبي ونقد فكرة تحويل كلامه وأفعاله كلها لوحي، التي تؤسس لمرجعية السنة مع الشافعي.
لكن في كل هذا ظل التعامل مع النبي قائم بعد التحدث بالقرآن بالفعل، أي بعد تموضعه بشريا كما قلنا؛ إلا في حالة ما حفظت لنا السيرة من تصورات أخرى عن اتصال النبي بالسماء تفتحها دراسة السيرة كمرآة تعكس تطور صورة النبوة و الاتصال. وحين سئل نصر عن فكرة النزول المعنوي للقرآن وصياغة النبي اللفظية له والتي كانت تعني تناول فكرة النبوة ذاتها وكيفية الاتصال -أو دراسة القرآن قبل تموضعه بشريا- اعتبرها نصر فكرة مجالها اللاهوت وخارجة عن المدخل الذي يوفره له منهجه الألسني رغم ذكر كتب علوم القرآن لها كأحد الآراء في كيفية نزول القرآن(3).
الوحي كتجربة صوفية (عبد الكريم سروش):
في إيران قام مفكر آخر ينتمي لتراث عرفاني كبير هو عبد الكريم سروش بإثارة قضية النبوة ومعنى الوحي، عبر فتح هذه النبوة على تجارب العرفاء، فإذا كانت أفكار المصريين خلف الله ونصر وهي من أجرأ الأفكار تعاملا مع القرآن لم تثر مشكل النبي إلا بصورة تنتمي للتشريع ولفت نظر لوجود ما هو مسكوت عنه في سيرته كما مع نصر، أو بانتباهة نحو تلون القصص بأحواله النفسية والاجتماعية مع خلف الله.. فإن النبي مع سروش أصبح هو مدار الاهتمام كله، وهذا راجع لما قلناه عن عمق تراثه العرفاني في مقابل السند المعتزلي العقلاني وسيطرة الهم النهضوي على المصريين. وكما أن النبي ليس مجرد رجل يتواصل مع الله دونما دور اجتماعي فكذلك دوره الاجتماعي الذي غلب على اهتمام خطاب النهضة العربي لا يبرر لنا إهمال هذا الجانب في تناولنا له وهو الجانب الذي يركز عليه سروش في دراساته.
يقول سروش “القرآن كلام محمد”، “القرآن مرآة ذهن النبي”، “لشخصيته دور مهم في صياغة هذا النص، و كذلك سيرته و حياته، بما في ذلك والده و والدته، ومرحلة صباه، وحتى حالاته الروحية. ولو قرأتم القرآن تشعرون أن النبي أحيانا يكون في غاية الجذل و الفصاحة، بينما أحيان أخرى مفعما بالملل … وهذه هي الناحية البشرية التامة من الوحي”(4).
إذن نحن أمام نقطة خلف الله عن انعكاس نفسية النبي في النص لكن منطلقها هنا ليس إرادة الله الرحيمة بنا وبأفهامنا أو بنفسية النبي بل هذا الانعكاس الذي يجعل القرآن مرآة ذهن النبي منطلقه رؤية مختلفة تجاه الوحي، فالوحي ليس تنزيلا عموديا من الله لا يشارك فيه النبي بشيء، بل اتصال بين الله والنبي، اتصال فيه النبي مبدع وخالق، الله خالق محمد ومحمد خالق القرآن كما يقول سروش.
كثير من السجال ثارت بعد كلام سروش هذا وكتب كثير من المراجع العلمية الشيعية في نقده، سجال مع سماحة سبحاني، وأوراق مقدمة من آخرين، لكن ربما أفضل ما كتب في نقد فكرة سروش والأهم لموضوعنا هنا هو ما كتبه سماحة العلامة طباطبائي(5). فقد وضع طباطبائي يده على أهم نقطتين في فكرة سروش كلها، ومصدر خلافه مع فكرة الاتصال كوحي أو تنزيل عمودي:
الفكرة الأولى: الربط بين الوحي والكشف الصوفي أو تحويل الوحي لتجربة دينية.
والفكرة الثانية: تشبيه النبي بالشاعر.
النبي يتواصل مع الله تماما كما يحدث الكشف الصوفي، يرى النبي مضمون الوحي لكنه يعبر عنه بعقلية شعرية تعكس بيئته ونفسيته-النفسية لا تظهر فقط في القصص كحالة خلف الله بل في تفاصيل النص كله – هذه هي سردية سروش البديلة لفكرة الوحي العمودي التقليدية، إنها عبارة عن إبستيم النحل في مواجهة إبستيم الببغاء، وتصور علاقة الله كعلاقة وصال وقرب لا علاقة بعد، وتصور الكون على غير فكرة المدراء والوكلاء والسفراء لو استخدمنا تعبيرات سروش نفسها -فكرة الوصال و القرب في مقابل البعد جزء رئيس من خطاب نصر أبو زيد أيضا-.
يرى طباطبائي أن الإشراق مختلف تماما عن النبوة، و يبني هذا بالأساس على اختلاف كلام الإشراقيين وشطحهم في مقابل اتساق النبوة وصدقها. و هذا كلام صحيح تماما طالما نجزئ كلام المتصوفة والعرفاء كما يفعل هو، في حين يتوصل من يقرأ خطاباتهم بصورة أشمل لضرب من قواعد شبه عامة تنطبق على معظمهم حتى في حالة اختلاف الأديان التي ينتمون لها. أما عن اختلاف أقوال المتصوف الواحد فهذا ليس راجعا لكذب الإشراق أو خطأه بل لكون هذا الاختلاف جوهري ودائم وجذري في كل تجارب الاتصال القائمة على قبض وبسط، وهو ما يلفت سروش النظر لوجوده داخل القرآن نفسه، هذا لو قرئ القرآن قطعا بصورة تختلف عن قراءته كنص منجز ونهائي؛ وهي فكرة يشاركه فيها نصر الذي يرفض أدوات رفض التناقض كالمحكم و المتشابه مفضلا قراءة النص متوترا معتبرا أن الاختلافات الأمبريقية في المعنى الديني هي خلافات أصلية لا يمكن رفعها بتأويل سلطوي أو كلياني(6).
التركيز من سروش على التجربة واعتبارها جزء رئيسا في النبوة “قبل المصاغة كلاميا” ينتقل بفكرة التأثير النفسي من السياق الذي تحدث فيه خلف الله نحو سياق أوسع كثيرا. فقصص القرآن ليست انعكاسا لنفسية النبي أي خوفه وأمله بل هي نتاج لاتصال محمدي بالسماء مخترق بكل مشاعر الشك والقلق والعدم التي ثبت كونها جزء من كل تجارب الاتصال وأكبر دليل على عمقها وصدقها. ففكرة التجربة الدينية وحدها تستطيع تفسير فكرة الانعكاس عند خلف الله، لكن هذا بشرط تحرير فكرة خلف من ضيق المجاز نحو رحابة الرمز. فالمجاز الذي يبني عليه خلف الله فكرة القصص القرآني يظل قاصرا عن إيفاء فكرة التجربة الدينية حقها مهما اتسع هذا المجاز ليشمل القصص التمثيلية. فالمجاز يظل مرتبطا بوجود حقيقة بعيدة يتم تمثيلها لتقريبها من عقل المتلقي، وهذا ما يجعل تقنية المجاز غير قادرة على الانتقال من الوحي كتنزيل للوحي كتجربة، ويجعلها قابعة داخل تصور “البعد” لا القرب.
وبسبب حفاظ سروش على تقنية المجاز فقد صعب عليه هو أيضا الانتقال من إطار الوحي كتنزيل إلى إطار التجربة الدينية، فاقتصر كشفه للدور النبوي في القرآن على نفي السلبية عن النبي ونفي اعتبار النبوة محض اصطفاء، ليجعل النبي مبدعا استطاع بقوته الروحية معاينة مضمون الوحي ثم ترجمته، فتحول الوحي معه من تنزيل عمودي إلهي لصعود أو معراج محمدي، ولعله واضح جدا انتماء التصورين لنفس التصور الهرمي الذي يرفضه سروش في حديثه عن “القرب” في مقابل “البعد” فلا تزال الحقيقة معلقة ولا فارق إن كنا نصعد لها أو تنزل إلينا.
كان تجاوز تقنية المجاز يوفر لسروش لا تفادي نقد طباطبائي وغيره بالتفريق بين النبي والشاعر الذي اعتمده سروش فحسب، لكن أيضا كان يوفر له الوصول بالفعل لإبستيم النحلة مبدعة العسل أو النبي مبدع الوحي، لا الوقوف بين النحلة والببغاء، عند الهدهد ربما.. فالهدهد يشاهد واقعا منجزا “مضمون الوحي/مملكة بلقيس” ثم يحكي ما يشاهده عبر مخيلة قوية كالنبي عند سروش، ولا يزال هدهد سروش كالببغاء يعبر عن “البعد” لا “القرب والوصال” الذي ينشده سروش جوهرا للعلاقة بالله.
الهوامش:
(1) محمد أحمد خلف الله، الفن القصصي في القرآن، سينا-الانتشار، لندن-بيروت-القاهرة، الطبعة الرابعة 1999.
(2) إشارة لكتب العبقريات للعقاد ومنها كتاب عبقرية محمد، وهي الكتب التي انتشرت مع ما يراه زكي نجيب عودة نحو الذات أو ما يعتبره محمد جابر الأنصاري دمج توفيقي بين الإيمان الرومانسي بالبطل الفرد وبين التراث الإسلامي. (محمد جابر الأنصاري، الفكر العربي وصراع الأضداد).
(3)حوار أجراه مع نصر: محمد علي الأتاسي مخرج فيلم في انتظار نصر.
(4) الوحي والظاهرة القرآنية، إعداد وتقديم حيدر حب الله، ص62، 63.
(5) نفسه، ص255، دراسة بعنوان “التباسات فهم النبوة و الوحي، مشاكل الاعتماد على العقل الشعري و الصوفي”.
(6) نصر حامد أبو زيد، التجديد و التحريم و التأويل، ص216.