من ضيق الواقع إلى رحابة الخيال: قراءة في قصص «شريف صالح»
في كتابه الهام «الخيال من الكهف إلى الواقع الافتراضي» يتحدث د.شاكر عبد الحميد عن دور «الخيال» في جوانب مختلفة من حياة الناس، ويتناول «الخيال الأدبي» بشيءٍ من التفصيل ويعرض فيه نظرية «روزماري جاكسون» التي تفصّل الأدب وتقسمه إلى ثلاثة أنواع هي: الأدب العجائبي (الذي يحوي قصص الأساطير والحكايات الخرافية) والأدب الواقعي (المحاكاة الذي يحكي واقعًا خارجيًا معروفًا) والنوع الثالث من الأدب هو الأدب الخيالي (الذي يمزج الجانبين، فيعرض الأمور الواقعية ويضيف إليها الجوانب الخيالية والفانتازية في الوقت نفسه، وهو بذلك؛
وبالرغم من أن فن القصّة من أشد فنون السرد التصاقًا بالواقع وتعبيرًا عنه، إلا أننا نجد هذا النوع الثالث من الأدب (الأدب الخيالي) الذي يمزج بين الواقع والخيال هو طريقة الكتابة التي يرتضيها عددٌ من الكتّاب، ويحبون أن يعبروا بها عن واقعهم ومجتمعهم.
ففي الوقت الذي قد يبدو فيه الجنوح إلى الخيال محض هروبٍ من الواقع وإحباطاته، يرى آخرون الكتابة الأدبية معتمدةً على ذلك الجنوح الجميل بالخيال، وبناء العوالم الحرة وتحقيق الأحلام المستحيلة، ذلك أن الخيال الأدبي المنسوج «بالورقة والقلم» هو الذي يمكّن القارئ من أن يعيش فيه ويتفاعل مع أحداثه وعوالمه، بما يجعله أمرًا عظيم الشـأن ذا قيمة كبيرة لا تُضاهى، بل قد يقال عليه ما قيل في غيره (أنه لو عرفه الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليه بالسيوف).
فالخيال عند الكاتب أو الأديب أساسٌ من أساسيات كتابته يعتمد عليه وتقوم عليه كتابته كلها، ويتفاوت الكتّاب بطبيعة الحال في استخدامهم لتلك «المَلكة» وتطويعهم لها من خلال كتابتهم، إذ ربما يجنح بعضهم للواقع حتى لو استعمل خياله في مواقف أو شخصيات أو أحداث، في الوقت الذي نجد فيه كتابًا تقوم كتابتهم كلها على «الخيال المحض» وتدور عوالمهم كلها فيه.
وقد اعتمد «شريف صالح» هذا المنهج وتلك الطريقة واستطاع أن يعبّر عنه باقتدار في أكثر من مجموعة قصصية، بدءًا بـ «إصبع يمشي وحده» و«مثلث العشق» الحائزة على جائزة ساويرس عام 2011، ومرورًا بـ«شخص صالح للقتل» و«بيضة على الشاطئ» الحائزة على مسابقة دبي الثقافية عام 2011، و«شق الثعبان» وصولاً إلى مجموعته الأخيرة «دفتر النائم».
في مجموعة «بيضة على الشاطئ» تختلف العوالم وتتباين، فلا يقتصر الكاتب في أي قصّة من قصصه على سرد وتصوير عالم واحد داخل القصة، بل نجده في انتقال مستمر بين الواقعي والخيالي، بل هو يمزج بين هذا وذاك، ويتنقل من هذا إلى ذلك بسهولة ويسر، في قصة «الغواية الأولى» يبدو الموقف في الأساس دراميًا بامتياز، إذ ثمة أب يفقد ابنه الأوّل بعد أيام الانتظار والترقب الطويلة، ولكن الأمر يتحوّل إلى الفانتازيا دفعة واحدة وكأنها إحدى محاولات التغلب على مرارة الموقف!.
لا تسير القصص على وتيرة واحدة رغم ذلك، ولا تلتزم طريقًا واحدًا، بل يعمد «شريف صالح» إلى اختيار طرائق سردية مختلفة في كل قصة، بل إنه يضيف إلى بعضها تقنية جديدة هذه المرة وهي «الهوامش» التي يتدخل فيها السارد فيحكي للقارئ خلفياتٍ وأمورًا عن القصة لم ترد في النص الأصلي، مثلما فعل في قصة «وفاة غامضة لعدو صامت» حيث يشرح الكاتب تقنية كتابة القصة، وكونها خمس بدايات لقصة لم تنتهِ بعد، وقصة «تجشؤ»، وقصة «الطوّاف وسارق النحاس»، وقصة «عصر السنجة» للحد الذي تبدو معه هذه الهوامش سمة أسلوبية خاصة جدًا، وإضافة فارقة في طريقة القص ومحاولة لكسر إيهام القارئ بواقعية القصة.
في قصة «الطواف وسارق النحاس» تسير القصة بوتيرة تبدو تقليدية تدور أحداثها في عالم القرية والريف، بين «الحاج حامد» و«الكنج» و«الشيخ حسن» باحثين عن «سارق النحاس» وفجأة تثير «نعيمة العمشة» شائعة أن الشيخ حسن سيذبح «الحاج حامد» بعد العشاء، ليفاجأ الناس بعد أيام بتحوّل الحاج حامد وانصياعه لنصيحة الشيخ «حسن» بالذهاب للحج، وتدور تأويلات عديدة للمواقف عبر ألسنة أهل القرية.
ويبدو الخيال في هذه القصة متماشيًا مع عادات وتقاليد أهل الريف، وربطهم للمواقف والأحداث الغريبة بكرامات الأولياء أو كونها عقابًا خفيًا من السماء، ينسج «شريف صالح» قصته هنا، والتي يتسع مداها ومناخ تأويلها لأكثر مما تشي به صفحاتها، بكل تمكن، ويشعر القارئ أنه إزاء عالم رواية وتفاصيل ثرية تم تكثيفها لتكون في قصة قصيرة، وفي هامش الرواية يبدو واعيًا تمامًا لذلك مدركًا أن قرّاء الروايات مولعون بلعبة النهايات والمصائر فيضيف هامشًا يوضح فيه (المصائر الروائية لأبطال القصة) .
أما في مجموعته الأخيرة «دفتر النائم» فينتقل بنا «شريف» إلى عوالم تمتزج فيها الخيالات بالأحلام، فيما يبدو حضور «الواقع» بشخصياته وأحداثه طفيفًا عابرًا، مما يمنح فضاء «التأويل» مساحةً أكبر، فلطالما ارتبطت «الأحلام» بمحاولات عديدة للتأويل، إلا أن العوالم التي ينسجها «شريف صالح» في قصصه ليست -كما قد يظن البعض- ألغازًا تحتاج إلى من يفك شفراتها ويفسّر مضامينها، بل هي تقدم نفسها كما هي تمامًا نماذج للقصة المختلفة المكتوبة باحتراف، يندمج القارئ في عالمها بسرعة، ويجد نفسه خارجًا منها بسرعة أيضًا، محملاً بكمٍ من التساؤلات والرغبة في استكشاف عالمه بطريقة مختلفة في كل مرة، وهو ما تفعله الكتابة الإبداعية الناجحة دومًا.
أربعة وعشرون نصًا قصصيًا يمتاز بالتنوع والتكثيف في آنٍ معًا، ندور فيها حول عوالم الحلم والخيال والفانتازيا بين الطفل الذي يضيع من أبويه في «رحلة النهار والليل»، أو القطار الذي لا يصل إلى الفتاة التي أحبها في «تووووت»، أو «ست الحسن» التي تغوي الشاب فيفقد شعوره بالزمن في «كوخ ست الحسن»، وغيرها من القصص التي لا يبدو العالم فيها متشابهًا، أو يمكن الإمساك بتفاصيله كلها، بل على العكس تظهر المفاجأة طوال الوقت مهما بدا العالم المرسوم واقعيًا، كما تأتي النهايات طوال الوقت مفاجئة ومباغتة!.
يغيب الجسد عن الروح في «هروب الجسد»، ويحاول الفتى جاهدًا أن يفهم ما يدور حوله بعد أن قتلته رصاصة طائشة في «تهريب جثة»، ويفكر الابن في قتل والده الذي يضرب أمه «فيضحك عليه» بالدمى والألعاب التي تتميز بينها «ابتسامة بوذا»، ويسعى الأب جاهدًا أن يحيي ابنه من الموت فلا يحصل إلا على «ابتسامة» منه يراها الجميع معجزة!.
وربما تحيلنا تلك القصة (إحياء طفل) في هذه المجموعة إلى قصة «الغواية الأولى» في المجموعة السابقة، وكأنها تمثل امتدادًا لها، ومحاولة أخرى للتخلص من كابوسية الموقف الذي وجد الأب نفسه فيه بوفاة طفله!.
وهكذا يرسم «شريف صالح» عالمه القصصي بأسلوبه الفريد ولغته السلسلة معتمدًا «الخيال» و«الأحلام» مازجًا «الفانتازيا» بأحداث الواقع ومواقفه معًا، منتجًا كتابة قصصية متميزة، قد تلتقي مع عدد من تجارب القصص العالمية (مثل إدجار آلان بو) وغيرها، ولكنها تحمل طابعها العربي والمصري الخاص.
تجدر الإشارة في النهاية إلى أن «شريف صالح» قرر أن يبتعد قليلاً عن عوالم قصصه المتميزة واجتذبه عالم فيسبوك، فقرر أن يخوض تجربة الرواية لأول مرة مع روايته «حارس الفيس بوك» التي صدرت مؤخرًا عن الدار المصرية اللبنانية.