من الأسطورة إلى العلم؛ كيف يرى الإنسان الظواهر الطبيعية؟
بعد أكثر من 350 عامًا من إدانتهم له، قامت الكنيسة الكاثوليكية في الحادي والثلاثين من أكتوبر لسنة 1992 بتصحيح واحدٍ من أهم الأخطاء التي حدثت في تاريخ الكنيسة؛ حيث أعلنت الكنيسة الكاثوليكية ذلك اليوم بأن العالم الإيطالي «جاليليو جاليلي» كان مُحقّا حين أعلن أن الأرض هي التي تدور حول الشمس وليس العكس. وقد شهد عام 1633 محاكمة الفاتيكان للعالم الإيطالي جاليليو جاليلي بتهمة الهرطقة والخروج عما هو معلومٌ من الدين بالضرورة؛ حيث تجرّأ السيد جاليليو وأعلن في كتابه الشهير (حوار حول النظامين الرئيسيين للعالم) أن الأرض تدور حول الشمس، مخالفًا بذلك تعاليم الكنيسة التي كانت تؤمن بغير ذلك. أسفرت المحاكمة حينها عن الحكم القاضي بحبسه مدى الحياة، والذي خُفّف بعد ذلك إلى تحديد إقامته في منزله لمدة ثماني سنوات حتى وفاته عام 1642.
لقد كان النزاع بين جاليليو والكنيسة واحدًا من أهم المواقف التاريخية التي توضح مساحات الخلاف الممكنة بين العقل والعقيدة، وبين العلم والإيمان، وتعتبر واحدةً من المحطات المهمة في مراحل تطور رؤية الإنسان للكون وتفسيره للظواهر الطبيعية المختلفة.
الإنسان ورؤية الواقع
لم يكفّ الإنسان منذ بدء الخليقة عن محاولة فهم وتفسير ما يدور حوله من أحداث، وما يتبدى له من ظواهر في الواقع الذي يعيش فيه سواءً كان هذا الواقع طبيعيًّا أو اجتماعيًّا، وعن محاولة تطويع وتغيير ذلك الواقع لصالحه. عادة ما تبدأ تلك المحاولة بطرح مجموعةٍ من الأسئلة التي تشكل إجاباتها ما يطلق عليه (الرؤيةالكليةWorldview). تتكون الرؤية الكلية التي يتبنّاها مجتمعٌ ما كأساسٍ لثقافته من 6 مكونات، هي: نموذج الحاضر، نموذج الماضي، نموذج المستقبل، نظرية القيم، نظرية الأفعال، نظرية المعرفة.
1. نموذج الحاضر
ويتعلّق بتصور أفراد المجتمع لطبيعة الواقع الذي يعيشون فيه. ولا يقتصر مفهوم الواقع هنا على العالم الماديّ؛ بل يمتد ليشمل الواقع المعنويّ بما يتضمنه من كياناتٍ وعلاقاتٍ اجتماعية. ويتشكل هذا النموذج من إجابات على أسئلة من قبيل: ما طبيعة العالم الذي نعيش فيه؟ وكيف يعمل؟ وما طبيعة العلاقات بين الموجودات؟ ومن نحن؟ وهي كلها أسئلة عما هو كائن بالفعل (الحاضر).
2. نموذج الماضي
ثاني مكونات الرؤية الكلية هو (التفسير) أو نموذج الماضي، الذي يحاول الإجابة على أسئلةٍ من قبيل: من أين أتى العالم الذي نعيش فيه؟ ولماذا اتخذ شكله الموجود وليس شكلًا آخر؟ ومن أين أتينا؟ إنها الأسئلة التي تدور حول أصل الإنسان والكون الذي يعيش فيه.
3. نموذج المستقبل
وحيث أن أول مكونات الرؤية الكلية عن الحاضر، وثانيها عن الماضي، يصبح من المنطقي أن يكون ثالثها عن المستقبل أو عن التنبؤ بأحداثه لتكتمل بذلك مسيرة الإنسان من الماضي إلى المستقبل مرورًا بالحاضر. لذلك فإن إجابة الإنسان على أسئلة مثل: إلى أين نحن ذاهبون؟ أو ما هو مصيرنا؟، تعتبر هي أهم مكونات ذلك العنصر.
4. نظرية القيم Axiology
وهي إجابات الإنسان على الأسئلة الأساسيّة الآتية: ما هو الخير؟ ما هو الشر؟ لماذا هذا الفعل خيّر؟ ولماذا هذا الشيء شرير؟ وتعتبر الإجابات على هذه الأسئلة بمثابة الأهداف التي يسعى الإنسان لتحقيقها وتمنحه معنًى لحياته كما تشارك في توجيه أفعاله.
5. نظرية الأفعال Praxeology
حيث أن نظرية القيم تزوّد الإنسان بمجموعةٍ من المفاهيم والأفكار عما يجب أن يصبو إليه وما ينبغي عليه تجنبه؛ فإنها لا تحدد له كيفية تحقيق تلك الأهداف فعليًّا ولا طريقة تنظيم أفعاله، وهنا يأتي المكوّن الخامس ليبيّن كيفية تحويل تلك الأفكار والقيم إلى أفعالٍ تحقق نتائج ملموسة.
6. نظرية المعرفة Epistemology
وهي مختصة بتقييم المعرفة ذاتها، ووضع القواعد والمعايير التي نستخدمها لتقييم صدق أو كذب تصوراتنا وأحكامنا ومعرفتنا بالواقع.
بالطبع لا يمكن الإجابة على كل هذه الأسئلة، ومن ثمّ الوصول لرؤيةٍ كلية، دون توافر منظومةٍ ذهنيةٍ تقدم للإنسان الأدوات التي تعينه على إدراك معطيات هذا الواقع وتنظيمها في بناءٍ مُتّسق، وتتيح له استنتاج ردودٍ مقنعةٍ على هذه الأسئلة. وهكذا، لم يتوقف الإنسان عبر التاريخ عن ابتكار وتطوير واستخدام العديد من المنظومات الذهنية؛ بدءًا من الأساطير وانتهاءًا بالعلم الحديث.
ويتوقف نجاح هذه المنظومات ومن ثمّ التمسك بها على أمرين؛ الأول هو قدرتها على تقديم تفسيراتٍ مقبولةٍ لأحوال الإنسان، وأحوال الواقع الذي يعيش فيه، (ومن الجدير بالذكر أن قبول ما يتم تقديمه من تفسيراتٍ من عدمه يرتبط ارتباطًا وثيقًا بقدر ومستوى المعرفة المتوافرة لدى الإنسان، ومن ثمّ فهو ليس معيارًا موضوعيًّا)، أما الأمر الثاني فهو قدرتها على تقديم حلولٍ فعّالة للمشكلات التي يواجهها هذا الإنسان في حياته. وهكذا فإن إخفاق المنظومة الذهنية السائدة في فترة من الفترات في أيٍّ من هذيْن الأمرين أو في كليْهما يدفع الإنسان لتطويرها أو حتى استبدالها كليةً بمنظومةٍ أكثر قدرةً وفعالية. ولقد شهد تاريخ الفكر الإنسانيّ عددًا من النقلات الفكرية التي انتقلت بالإنسان من منظومةٍٍ ذهنيةٍ استبان عجزُها وقصورُها، إلى منظومة أخرى أكثر فعالية، ويمكننا تحديد منظومتيْن أساسيّتين تطوّر من خلالها الفكر البشري حتى العصر الحديث:
- منظومة الفكر الأسطوري/الغيبي.
- منظومة الفكر العلمي بمراحله المختلفة.
الفكر الأسطوري/الغيبي
استمرت محاولات الإنسان في تطوير منظومةٍ عقليةٍ تساعده على فهم العالم وتطويعه لمصلحته منذ بدء الخليقة، وسيطر على تلك المحاولات منظومة الفكر الأسطوريّ/الغيبيّ منذ ظهور الإنسان العاقل وحتى أواخر القرن السابع عشر.
كيف نشأت الأسطورة؟
لم يكن أمام الإنسان في تلك المرحلة إلا الخيال لتفسير الظواهر الطبيعية المختلفة، ومن ثمّ وضع الأسس التي يتعامل بها مع تلك الظواهر في محاولةٍ لتطويعها لمنفعته، ومن ثمّ فقد استخدم ذلك الخيال لحياكة (الأسطورة)؛ نظرًا لعدم قدرته على تفسير تلك الظواهر الطبيعية. والأسطورة عبارةٌ عن حكايةٍ دراميةٍ أبطالها أشخاصٌ غامضون أو قوًى علويّة يقومون بتمثيل ظواهر الطبيعة المختلفة، تقوم أحداث تلك الحكاية بوضع الظواهر الطبيعية في سياقٍ قصصيٍّ يعطي تبريرًا لتلك الظواهر. ومن أهم المبادئ التي ترتكز عليها الأساطير مبدأ حيوية الطبيعة Animism، وهو المبدأ الذي يقوم على أساس صبغ الظواهر الطبيعية (غير الحية) بصبغة الحياة؛ فتصبح تلك الظواهر كما لو كانت كائناتٍ حية تحسّ، وتنفعل، وتتعاطف، أو تتنافر مع الإنسان.
ولقد ظلت الأسطورة المصدر الرئيسي، ما لم يكن الوحيد، لرؤية الإنسان الكليّة – بكافة مكوناتها السابق ذكرها – للعالم الذي يعيش فيه سواء كان طبيعيًّا (ظواهر الطبيعة) أو اجتماعيًّا (البنى الاجتماعية السائدة كعلاقة الحاكم بالشعب وخلافه)، حيث وفرت الأساطير للإنسان تصورًا سهلًا لفهم واستيعاب نشأة الكون وطبيعة الأشياء والعلاقات التي تربطها سويًّا (نموذج الماضي ونموذج الحاضر)، وبيّنت أيضًا كيف تؤثر تلك الأشياء على مستقبله سلبًا أو إيجابًا (نموذج المستقبل)، كما اشتملت معظم الأساطير على توجيهاتٍ للإنسان بما ينبغي عليه فعله تجاه المواقف المختلفة في الحياة بما في ذلك توضيح ما هو خيّرٌ وما هو شرير؛(منظومة القيم والأفعال). لكنها عجزت عن تقديم وسيلةٍ يستطيع بها الإنسان التحقق من صدق أو كذب تصوّراته عن ذلك الواقع الذي يعيش فيه (نظرية المعرفة).
ومع عدم وجود وسيلةٍ لتقييم صدق أو كذب تصورات الانسان عن الواقع الذي يعيشه وبالتالي عدم وجود آلية للتحقق من صدق الأسطورة من كذبها؛ تعددت الأساطير، وأصبح لكل أمّةٍ أساطيرها التي تعكس رؤيتها الكلية للواقع، ولم يكن من الممكن المفاضلة بينها؛ فتعددت الثقافات وتباينت طرق النظر لأحوال الطبيعة بقدر تباين البشر.
لا نعتقد أنه من الممكن حصر كافة الأساطير التي أنتجتها المجتمعات الانسانية، لكن يمكننا تصنيف معظمها – طبقا للموضوع – إلى عدة أنواع، منها على سبيل المثال: أساطير النشأة Cosmogony التي تناقش أصل الكون، الأساطير الأخروية Eschatological التي تناقش نهاية الكون، أساطير البطولة (مثل قصة برومثيوس الذي منح البشر النار، وقصة هرقل)، الأساطير الكونية التي تعطي تفسيراتٍ للظواهر الكونية المختلفة، الأساطير العقائديّة التي تخبر الإنسان عن أصل الاحتفالات الدينية والطقوس التي يؤديها.
ومع تقدم البشرية في العمر، أصبح الإنسان أكثر قدرةً على الملاحظة والقياس، وأصبحت الأساطير مع مرور الوقت غير كافية لتفسير الظواهر الطبيعية له بشكلٍ يرضيه، مما أدى في النهاية لوجود العلم وحلوله محلّ الأسطورة.
يُتبع.
- After 350 Years, Vatican Says Galileo Was Right: It Moves
- 3) "التنوير الغائب" دار العين للنشر، 2006؛ السيد نصر الدين السيد
- 4) ثقافتنا المعاصرة: التحديث أو الكارثة. دار المحروسة، 2010؛ السيد نصر الدين السيد
- 5) التفكير العلمي. سلسلة عالم المعرفة،مارس 1978، الدكتور فؤاد زكريا