من المكتبة إلى القارئ: روائع إهداءات الكتب
أتبَّعُ تقليدًا ممتعًا في اقتناء الكتب، دربتُ نفسي عليه حتى أصبح عادة أفعلها بشكلٍ آلي، وهي أن تقع عيني على قائمة المصادر والمراجع، ثم الإهداء، وبينهما يقعُ الكاتب؛ فأمّا قائمة المصادر فإنها تحوي تعب الليالي وعرق الأيام، اندهش من الكثرة وأبتهج لأن الضنى قد أنتج أدبًا وفكرًا، وحرَّك المطبعة لكتابٍ جديدٍ، وأما الإهداء فهو نقطة العرفان أو الشكر أو الغضب، تظهر منه روح الكاتب وإنسانيته، قد يهدي لنفسه أو لغيره من الأهل والأصحاب والأحباب، قد يهدي لحيوان أو جماد أو معنى، والأمثلة كثيرة.
ولا يمكن تغافل الإهداء أو اعتباره شيئًا هينًا، لأنه يفصح عن الكثير، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، وأحيانًا كثيرة يكون وثيق الصلة بمتن الكتاب أو قصة الرواية. الإهداء هو مُفتتح الحكاية وأول الخيط لقراءة الكتاب، وإن كان الأستاذ «محمود محمد شاكر» (أبو فهر) يقول: «مفتاح كل كتاب فهرسٌ جامعٌ، فاقرأ الفهرس قبل كل شيء»، فإني أقول بأن «الإهداء هو الجسر الذي يصل بينك وبين الكتاب، فاعبره برفق، وتمهَّل».
الإهداء المرير والإهداء الصادم
من الإهداءات التي احتوت على مرارة، ما كتبه «عبد الرحمن منيف» إلى أصدقائه في روايته «حين تركنا الجسر»:
ويسرد منيف قصة زكي نداوي، الذي يحكي إلى كلبه عن المرارة التي لاقاها في حياته وما فعل الأصدقاء بعده وكيف كانت الحياة، ولعله الإهداء الأول الذي رسَخَ في بالي، وكان السبب في تجميع ما لفت انتباهي من إهداءات الكتب.
أما الإهداء الصدمة والذي جعلني أندهش تمامًا، ما قاله مؤلف كتاب «صندوق النقد الدولي: قوة عظمى في الساحة العالمية» للكاتب «أرنست فولف»:
لم أكن أعرف السبب الذي جعله يكتب هذا إلا بعد قراءة الكتاب، والذي فضح فيه السياسة القذرة التي يتبعها صندوق النقد الدولي، والتي تتمثل –باختصار- في احتلال الدول اقتصاديًا وإغراقها بالقروض والديون وفوائدها، إلى حد أن الدول تعلن إفلاسها تمًامًا، وتنهار قواها.
الأم أصل الحياة
لأن الأم أصل الحياة ومنتهى الرجاء، فكان هناك شطر كبير من الكُتاب والشعراء ممن أهدوا إلى أمهاتهم ما كتبوه، يأتي على رأسهم الشاعر «محمد عفيفي مطر» في سيرته الذاتية «أوائل زيارات الدهشة: هوامش التكوين»، حيث قال:
وإن كان لم يتعرض بالشكل الموسع في سيرته لأمه مثلما تحدث عن أبيه، إلا أن الفضل للأم كان أسبق، ولعله أراد أن يوازن بين الإهداء للأم، والمتن للأب.
أما الشاعر «أحمد الشهاوي» فقد تنوعت إهداءاته لأمه ما بين دواوينه وكتبه، فقد أهدى إليها عام 1998 ديوانه «قل هي» وقال:
وبعد ثمانية عشر عامًا، أعاد إليها بإهداء أجمل في كتابه «نواب الله»:
وممن أهدى إلى أمه، كان الأستاذ «علي أبو دهن»، في شهادته عن اعتقاله بسجن تدمر، والتي سجلها في كتابه المفجع «عائد من جهنم: ذكريات من تدمر وإخواته»، قائلاً:
الإهداء إلى القارئ
ولأن المفكرين مُبتلون بحزازاتٍ من البشر وكثرة الأغبياء في زمانهم، فقد أهدى طه حسين كتابه «مع أبي العلاء في سجنه»:
وعلى نهجه وطريقته وبعده بعشرات الأعوام، كتب «علي الوردي» في إهداء كتابه «مهزلة العقل البشري»، تحت عنوان «إهداء وحذر»:
لقد فهم كل من طه حسين وعلي الوردي، أن تعديل طريقة التفكير وتغير المجتمعات وإصلاحها، أشد على النفس من نقل الجبال الرواسخ، وقد نبَّها بذلك في إهدائهما لمؤلفتهم.
وتحت عنوان «تملق الكاتب للقارئ»، فقد أهدى يوسف زيدان كتابه «التقاء البحرين: نصوص نقدية»، وهو يتناول بالنقد ستة أعمال أدبية:
ويقصد بهما: بحر الكتابة الإبداعية، وبحر الكتابة النقدية. وقبله بقرون كان الجاحظ الذي افتتح كتابه «الحيوان» بدعاء لقارئ كتابه، قائلًا:
والتملق والتودد ومحاولة شد انتباه القارئ إلى منطقة الكاتب، تقليد رسّخ الجاحظ مبادئه، وسار عليه الكل فيما بعد، على أن التملق ليس شيئًا سيئًا، وإنما هي اتقاء لنقد القارئ الذي جعل الجاحظ يفتح كتابه بالدعاء له.
وفي شكل ونمط آخر من أشكال التودد للقارئ، أو تحريض القارئ على توسيع دائرة المعرفة، كان الباحث «وليد فكري» في كل كتبه تقريبًا يهدي إلى القارئ، في كتابه «دم الخلفاء» كّتَبْ:
إلى رسول الله
أما رسول الله محمد، فقد تشرف العديد من الكتاب بإهداء كتبهم إليه، وإن كان «عبد الرحمن الشرقاوي» أهدى كتابه «محمد رسول الحرية»:
فإن الشاعر «محمد عفيفي مطر»، يفوز بأجمل إهداء كتب لرسول الله، وذلك حين أهدى ديوانه «أنت واحدها وهي أعضاؤك انتثرت»، قال:
أما الأستاذ «أحمد بهجت»، في كتابه «الله في العقيدة الإسلامية»، فقد قارب عفيفي مطر في إهدائه، وقال:
ومن ذكر صاحب الروضة، إلى ذكر آل بيته الكرام، كان إهداء مسرحية «الحسين ثائرًا» للأستاذ «عبد الرحمن الشرقاوي»:
الإهداء الأطرف
من أطرف وأجمل من كتب إهداءات كان «بلال فضل» في كتابه الممتع «في أحضان الكتب»، والذي أهدى كتابه إلى مكتبته قائلًا:
فهو بذلك قد سدَّ الباب على من أراد الإهداء بعده إلى مكتبته، ولو كان هناك جائزة لأجمل الإهداءات، أتصور أن بلال فضل، سيكون من الفائزين الأوائل بهذه الجائزة.
ومن بلال فضل إلى الشاعر «محمد محمد الشهاوي» الذي أهدى إلى القصيدة ديوانه «إشراقات التوحد»، قائلًا:
أما بعد، فإني مُخيرٌ عن نفسي بأني لو كتبت كتابًا يومًا ما، فإن إهدائي سيكون: «إلى أمي التي أخبرتني أن أكف عن شراء الكتب، فكنت عاقًا بها ولم أكف عن الشراء أبدًا».