من داعش إلى «الحازميين»: جيتوهات التكفير الجهادية
أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، أطلقت هيئة تحرير الشام، التي تُسيطر على مدينة إدلب في شمال سوريا، عملية عسكرية ضد «جماعة جند الله» الجهادية، التى تمركزت طوال السنوات الماضية، بمنطقة جبل التركمان، (شمال منطقة اللاذقية بمحافظة اللاذقية السورية، على الحدود مع محافظة هاتاي التركية)، ضمن حملة موسعة لـلجماعة الأولى استهدفت المجموعات والتنظيمات المستقلة الناشطة في مناطق سيطرتها.
وفي حين هاجم الجهاديون، ولا سيما المقربون من تنظيم القاعدة في سوريا، هيئة تحرير الشام، متهمين إياها بالاستجابة للتفاهمات الروسية- التركية، للقضاء على المجموعات الجهادية عبر الوطنية، وغير المنضوية في إطار التفاهمات الدولية، بررت الآلة الدعائية لـ «تحرير الشام» حملتها، بأنها جاءت للقضاء على جماعة «جند الله» ذات النهج الحازمي المتشدد والهادفة إلى تعزيز وجودها في شمال سوريا، متهمةً الجماعة الأخيرة بتنفيذ عمليات «احتطاب» (سلب دون وجه حق)، وقتل انطلاقًا من دوافع أيديولوجية تكفيرية.
وأعادت تلك الاقتتالات الجهادية- الجهادية، ملف «الحازميين» إلى الواجهة من جديد بعد انزوائه، مع حسم الخلاف المنهجي داخل داعش، والذي جرى خلاله تصفية تيار أبو جعفر الحطاب (قيادي تونسي بداعش سابقًا)، والشهير إعلاميًا بالتيار الحازمي (نسبة لأحمد بن عمر الحازمي، الداعية السعودي الذي يتميز بأطروحاته المتشددة حول التكفير المتسلسل)، إثر سجالات وتدافعات تنظيمية داخلية.
وأكدت التطورات الأخيرة في شمال سوريا، أن المقاربة الداعشية الاستئصالية في التعامل مع «الحازميين» فشلت في القضاء على كل معتنقي هذا الفكر، أو علاج «الأفكار المؤسسة للتكفير الفائق»، والتي شغلت حيزًا كبيرًا داخل الفضاء الجهادي في سوريا منذ سنوات.
وارتبط بروز أفكار الحازميين وغيرها من الأفكار الجهادية على تنوعاتها وتبايناتها، بحالة السيولة التي عاشتها سوريا عقب اندلاع الثورة السورية، في مارس/ آذار 2011، إذ منحت تلك الحالة الجهاديين ملاذًا آمنًا للوجود والانتشار وممارسة عملية التجنيد والاستقطاب داخل وخارج سوريا.
سوريا: حاضنة الجهاديين النموذجية
ومع تحول سوريا إلى ساحة جذب جهادية عالمية، توافد إلى البلاد مجموعات متفرقة من المقاتلين العرب والأجانب سواء من القارة الأفريقية والآسيوية، أو من دول أوروبا، ودول الاتحاد السوفييتي، خصوصًا مع تعثر مسار الحركات الجهادية المقاتلة التي خاضت تمردًا مسلحًا ضد روسيا وغيرها من الدول.
لكن العديد من الجهاديين الأجانب، وخاصةً الوافدين من دول الاتحاد السوفييتي السابق كأذربيجيان والشيشان وغيرها، وبعض المقاتلين المنحدرين من بلدان أفريقية كالجزائر وتونس، أبدوا نزوعًا أكبر نحو التشدد في مسائل ومناطات التكفير، متأثرين بالتجارب الحركية التي تتوسع في تكفير عوام المسلمين، استنادًا إلى فكرة أن الجاهلية والكفر يسود المجتمعات المعاصرة والتي تطورت في سياقات معقدة ومتداخلة داخل جماعات متفرقة وعلى أيدي منظرين مختلفين.
وساهم تعدد الفواعل (الدول، والفواعل من دون الدول) في توزُع المجموعات الأكثر تشددًا في مناطق جغرافية متفرقة، وإن فضّل أغلبهم المكوث في المناطق الحدودية بين سوريا وتركيا، لاعتبارات متعلقة بموقعها الإستراتيجي بجانب تعدد الأطراف المسيطرة، وغياب السلطة الموحدة في تلك المناطق.
كما تسبب الشقاق الجهادي- الجهادي، الذي حصل بين تنظيم القاعدة وحلفائه من ناحية، وبين تنظيم داعش من ناحية أخرى، في تغيير خريطة انتشار المجموعات الأكثر تشددًا (الحازميين). فمع تمدد التنظيم الأخير داخل سوريا وقطعه الصلات القديمة مع القاعدة، سعت قيادة داعش العليا إلى استقطاب واستيعاب كل المجموعات الجهادية على الأرض، حتى وإن اختلفت القناعات الأيديولوجية الحاكمة، أملًا في كسب زخم حركي يعزز حظوظ داعش في المنافسة على قيادة الجهادية المعولمة.
وفي هذا الإطار، نجح أبو علي الأنباري في استقطاب أبو جعفر الحطاب التونسي، وغيره من الجهاديين المحسوبين على فكر الحازمي الأكثر تشددًا، وجرى ضم التونسي إلى أعلى لجنة شرعية في التنظيم ليكون ثالث ثلاثة هم أبو علي الأنباري، وأبو جعفر الحطاب التونسي، وأبو همام الأثري (تركي البنعلي البحريني)، بينما آثر آخرون عدم الانحياز إلى أي من التنظيمات المتصارعة واكتفوا بتأسيس مجموعات منغلقة على ذاتها تتبنى فكرة التوسع في التكفير، كما فعلت بعض المجموعات التي تمركزت في منطقة ريف المهندسين الثاني (غرب حلب السورية)، والتي تشكلت من فلولها لاحقًا جماعة «جند الله».
بين داعش وجند الله
لكن تعايش «المجموعات ذات الفكر الحازمي» الاضطراري مع التنظيمات والجماعات الجهادية الأخرى لم يدم طويلًا، فعلى سبيل المثال، اكتشفت إدارة أمن المجاهدين (تابعة لديوان الأمن العام الداعشي)، التي كانت معنية بالتدقيق المنهجي والأمن الأيديولوجي لدى عناصر داعش، أن عددًا من الجهاديين «الأعاجم» (الشيشانيين) -كما تسميهم- خططوا للانقلاب على قيادة التنظيم لاعتقادهم بكفرها وردتها، بسبب أخذ قيادة داعش الزكاة من السوريين في مناطق سيطرة التنظيم، وهو ما يعني أنه يُقر بإسلامهم ولا يكفرهم، خلافًا للمجموعات التي تتوسع في التكفير.
وقام الجهاز الأمني لداعش بتتبع وملاحقة المعتنقين لفكر الحازمي، فقبض على قيادتهم وأعدم اثنين، ومن أبرز تلك القيادات أبو عمر الكويتي وأبو جعفر الحطاب. كما سجن العشرات من معتنقي هذا الفكر، وأخضعهم لدورات «استتابة» في معتقلات التنظيم لإثنائهم عن أفكارهم.
وبالتزامن مع الحملة الداعشية، عمدت جبهة النصرة (نواة هيئة تحرير الشام الحالية)، إلى اتباع نفس المقاربة الاستئصالية في التعامل مع الحازميين، فاعتقلت 40 من قادة المجموعة الحازمية التي نشطت في ريف المهندسين الثاني، أواخر عام 2014، وطردت البقية إلى خارج مناطق سيطرتها.
وحاول عدد من حازميي «ريف المهندسين» المكوث في مناطق سيطرة داعش بالمنطقة الشرقية السورية (المحاذية للحدود العراقية التركية، والممتدة من الحسكة إلى دير الزور)، لكن الجهاز الأمني للتنظيم لاحقهم، بسبب خلافه الأيديولوجي معهم، ومن ثم عاد غالبية الحازميين (سواء الفارين من داعش، أو الهاربين من جبهة النصرة وعلى رأسهم أبو فاطمة التركي، وأبو حنيفة الأذري، وأبو علي المصري) إلى مدينة الدانا بريف إدلب الشمالي، وأسسوا جماعة جديدة سُميت بـ «جند الخلافة» (وهي بخلاف المجموعات التي تحمل نفس التسمية وترتبط بتنظيم داعش) قبل أن تتحول أواخر عام 2015 إلى العمل تحت اسم جماعة «جند الله».
وفي هذه الأثناء، اختارت الجماعة الوليدة أبو فاطمة التركي ليتولى قيادة الجماعة، كما جرى اختيار مجموعة من المقاتلين الآذريين لشغل المناصب العسكرية الهامة (أبو خليل الأذري، العسكري العام، وحمزة الأذري الأمير العسكري في جبل التركمان)، بينما جرى اختيار جهادي جزائري، هو أبو الفداء الجزائري، لشغل منصب الشرعي العام، واختير السوري عبد الباسط الدانا لشغل منصب «مسؤول الأنصار/ المقاتلين السوريين المحليين» بالجماعة، هذا وفقًا لما كشفه، لاحقًا، أسامة العدني (مساعد أبو مارية القحطاني، وصاحب قناة «الشمالي الحر» المحسوبة على هيئة تحرير الشام والنشطة عبر تطبيق تيليجرام للتواصل الاجتماعي).
وسعت جماعة «جند الله» إلى تأمين وجودها في شمال سوريا، فأنشأت مواقع لها داخل منطقة جبل التركمان، وبدأت في تجنيد السوريين المحليين عن طريق عبد الباسط الدانا، وجرى إخضاع المنضمين الجدد إلى دورات شرعية طويلة نسبيًا تبلغ مدتها 6 أشهر، لاستتابتهم من أفكارهم السابقة وتلقينهم مبادئ «الفكر الحازمي» المتوسعة في التكفير، كما أنشأت شبكات للتهريب والاتجار في السيارات والبضائع المهربة بالتعاون مع عصابات الجريمة المحلية.
البحث عن تحالفات جهادية
ونجحت «جند الله» في تعزيز وجودها في جبل التركمان واستقطبت العديد من مقاتلي الفصائل السورية، والجهاديين الأجانب، كما خاضت معارك ضد النظام السوري في المنطقة، بالتنسيق مع جماعة «جند الشام» بإمارة مسلم الشيشاني، وغرفة عمليات «وحرض المؤمنين» التي أنشأها تنظيم حراس الدين، فرع القاعدة السوري، مع فصائل جهادية مقربة منه، عام 2018، وشهدت إحدى تلك المعارك مقتل قائد الجماعة الأولى، أبو فاطمة التركي، ليخلفه نائبه، أبو حنيفة الأذري، في إمارة الجماعة.
وفي مقابل تنسيقها مع فرع القاعدة السوري، طرحت «جند الله»، في منتصف 2019، على قيادة داعش أن يقوم جند الله بتقديم البيعة للتنظيم، وأن يتحولوا إلى فرع تابع لداعش، لكن الأخير رفض بسبب الخلافات الأيديولوجية القديمة مع «الحازميين»، وبالتالي فشلت الجماعة المتمركزة في جبال التركمان في تأسيس تحالفات إستراتيجية مع أي من الجماعات الجهادية الكبيرة داخل سوريا.
وحتى مع فشلها في إبرام «التحالف الإستراتيجي»، نجحت جماعة جند الله في الاحتفاظ بوجودها داخل جبال التركمان، حتى أكتوبر الماضي، حينما قررت هيئة تحرير الشام تصفية الجيوب الجهادية الخارجة عن إطار سيطرتها، وذلك ضمن حملتها الأخيرة المنسقة ضد المجموعات الجهادية المستقلة.
وبعد قتال محتدم دام يومين بين «جند الله» وهيئة تحرير الشام، قررت الجماعة الأولى قبول اتفاق الهدنة ووقف القتال الذي تم إبرامه بوساطة من الحزب الإسلامي التركستاني، ونص على تبادل الأسرى بين الطرفين، وتسليم مواقع الجماعة في جبل التركمان لـلهيئة مقابل السماح بخروج الجماعة الأولى لخارج إدلب، غير أن الهيئة قررت نقض الاتفاق واعتقال مقاتلي الجماعة بعد خروجهم من جبل التركمان، فارضةً عليهم اتفاقًا جديدًا يقضي بتسليم السلاح والخضوع لدورات استتابة شرعية لنزع أفكار «الحازمي» وتصحيح تصوراتهم في مسائل التكفير، على حد وصف الهيئة.
ومع أن «تحرير الشام» اتبعت نفس أسلوب سلفها التنظيمي «جبهة النصرة»، في التعامل مع الحازميين في شمال سوريا، إلا أنها اعتبرت أن «المقاربة الاستئصالية» الأخيرة، كافية لإنهاء وجود المجموعات الأكثر تشددًا داخل مناطق سيطرتها، رغم أن هذا النهج أثبت سابقًا أنه مجرد حل وقتي مسكن لمعضلة أيديولوجية حركية، ما تلبث أن تعود في صورة جديدة، كما حصل سابقًا في شمال وشرق سوريا.