من فوكو إلى مايلي سايرس: التاريخ البعيد للجنسانية
محتوى مترجم | ||
المصدر | ||
التاريخ | ||
الكاتب |
عندما توفي «ميشيل فوكو» في عام 1984م ترك سلسلة غير منجزة من أربعة كتب تحت عنوان «تاريخ الجنسانية». نُشِرت منها المجلدات الثلاثة الأولى فقط. وعلاوة على ذلك، تغيَّرت خطته الخاصة بالسلسلة بشكل كبير بين نشر المجلد الأول في عام 1976م والمجلد الثاني، الذي صدر في سنة وفاته. ومع ذلك، ثمة شيء واحد لم يتغيَّر، وهو عنوان مشروعه، وهذا كان كافيًا في حد ذاته لإثارة حفيظة العديد من منتقديه. وبالرغم من أنَّ المواقف تجاه الجنسانيِّة تتغيَّر بشكل واضح مع مرور الوقت، فهل من الصواب الادّعاء بأنَّ الجنسانية لها تاريخ خاص بها؟ وهل من المؤكد أنها سِمة طبيعية تتغيَّر على منظور التطور الطويل، والبطيء للغاية؟
تاريخ فكر فوكو
لم تكن التساؤلات من هذا النوع بالقضايا الجديدة فيما يتعلق بأعمال فوكو. لقد كانت مصدرًا للجدل منذ وقت كتابه الرئيسي الأول، «تاريخ الجنون» (1961م). في هذا الكتاب، أيضًا، لم يعد العنوان بمجرد تاريخ لمعالجة الجنون، بل تاريخ الجنون نفسه. وهذا يعني أنَّ الجنون ينتمي أيضًا إلى فئة الأشياء التي لها تاريخ، وليس بين تلك الأشياء التي لا تتغيَّر تاريخيًا في الوجود الإنساني.
اعترض فوكو على أنَّ هناك علة إنسانيّة يسهل التعرف عليها تسمى «الجنون» الذي كان موجودًا على الدوام، ولكن كان يُعامل بشكل مختلف في عصور مختلفة. بدلًا من ذلك، فإنَّ الطريقة التي نتحدث بها عن الجنون – السلوكيات الخاصة التي نصفها بهذا المصطلح – تتغيَّر بمرور الوقت، وليس ثمة طريقة للتعرف على مَن هو مجنون خارج هذا الخطاب المتغيِّر. وهذا يمنح الجنون تاريخًا قابلًا للسرد.
في هذه المرحلة من الممكن أن يظهر العديد من الفهومات الخاطئة، التي تُستخدم لانتقاد فوكو وكذلك مفكرين مماثلين في التقليد القاري؛ لذلك فمن المهم التأكيد على ما لا يقوله. إنَّه لا يدّعي أنَّه لا يوجد واقع للجنون خارج خطاباتنا عنه. لا أحد، على حد علمي، قدَّم مثل هذا الادَّعاء برصانة. تجارب الجنون هي بلا شك حقيقية، وخطرة، ومؤلمة.قد تكون أسبابها إما في الظروف العصبية أو الاجتماعية، أو ربما مزيج من الاثنين معًا.
بهذه الطريقة، كما هو الحال في العديد من الطرائق الأخرى، تأثَّر فوكو بنيتشه بشكل كبير، الذي كتب عن أهمية الأفكار «السابقة لأوانها» – الأفكار التي تتعارض مع أفكار عصرنا الحالي؛ إما لأنَّها مقترضة من الماضي، أو لأنها تُبشِّر بمستقبل مختلف.ولكن حتى الآن (على الرغم من الثقة المفرطة من الأطباء النفسيين)، نحن غير قادرين على بيان هذه الأسباب بأي ثقة. وفي الوقت نفسه، تتغيَّر مقولة «الجنون» بشكل مختلف وفقًا للتغيرات في نظرياتنا. هذه التحولات، التي توسِّع أو تضيق فئة «الجنون»، يمكن رسمها زمنيًا. فمن خلال إدراك أنَّه كان يتم التفكير في الجنون وفق مصطلحات مختلفة جدًا عن مصطلحاتنا، يمكننا الحصول على درجة من الانفصال عن وجهات النظر الحالية، بدلًا من الانغماس الأعمى داخلها.
ثمة أفكار مماثلة تعزز أفكار فوكو في «تاريخ الجنسانيّة». وهنا أيضًا أراد فوكو أن يتحدى الرأي القائل بأنَّ الجنسانيّة البشرية هي سِمة ثابتة لحياتنا البيولوجية والنفسية التي سعت مختلف المجتمعات إلى تقييدها، أو شجبها، أو التعبير عنها.
بل على النقيض من ذلك، يرى فوكو أنَّ الأنماط المتنوعة للجنسانيّة يتم إدخالها إلى حيّز الوجود من خلال الطريقة التي يتم مناقشتها بها: فالأساس البيولوجي للجنسانيّة يتم صياغته وتشكيله باللغة التي نستخدمها لوصفه. في الواقع، إنَّ مفهوم وجود شخص ما لديه «جنسانيّة» هي فكرة حديثة للغاية، لم تكن موجودة قبل القرن الثامن عشر.
اليوم، نحن على دراية بالمناقشات حول جنسانيّة الأفراد، التي عادة ما تؤخذ للإشارة إلى ما إذا كانوا مثليين أو غيّريين أو ثنائييَ الجنس. غير أنَّ فوكو يشرح في المجلد الأول من «تاريخ الجنسانيّة» أنَّه على الرغم من أنَّ القانون قد منع العديد من الأفعال المثلية وعاقب عليها على مدى قرون عديدة في أوروبا، بدأ بعض الأفراد يتحدثون على أنهم «مثليون» في القرن التاسع عشر.
ويحدد فوكو فكرة «المثلي» كنوع خاص من الأشخاص، مع خصائص نفسية مميزة – بدلًا من شخص يقع في رذيلة قد تكون إغراءً لأي شخص – في مقالة نُشِرت في عام 1870م. كتب فيها: «كان اللوطيّ انحرافًا مؤقتًا، والآن أصبح المثليّ جِنسًا»، (ص 43). ومع ذلك، فإنَّ هذا التوصيف «جعل من الممكن أيضًا تشكُّل خطاب «عكسي»: بدأت المثليّة في التعبير عن نفسها، والمطالبة بالاعتراف بشرعيتها أو «طبيعيتها»، في كثير من الأحيان بنفس المفردات، وباستخدام نفس المقولات التي اُستُبعِدت منها طبيًا» (ص 101).
وهذا يجسِّد نظرية فوكو العمومية بأنَّ كل القوى الاجتماعية والسياسية تولِّد معارضة خاصة بها، وتخلق صراعًا حتى في محاولتها لقمعه. ولذا، اُستخدم مصطلح «المثلي»، الذي يصف فئة معينة من الأشخاص، لأول مرة من قِبل شخصيات ذوي سلطة، مثل الأطباء والأطباء النفسيين والقضاة. كما حدَّد مجموعة إشكالية معيَّنة ربما تخضع بعد ذلك للعلاج أو العقاب أو التسامح.
وحتى أولئك الذين دافعوا عن موقف رَخْو تجاه هؤلاء الأشخاص فعلوا ذلك، أولًا، من خلال تمييزهم ثمَّ، في معظم الأحيان، من خلال إعلان أنَّ أسباب حالتهم لا رجعة فيها. في المرحلة الثانية من هذه السيرورة التاريخية، تبنَّت المجموعة الموسومة «بالمثليّة» وتكيَّفت مع تلك التسمية، مع قبول مصطلح «المثلي» أو ما يعادله، وفيما يتعلق بأنفسهم كممثلين لجماعة مضطهدة يُساء فهمها، شاركوا في مقاومة القمع الاجتماعي.
ومن هنا بدأت سيرورة طويلة من الاحتجاج السري والمعلن، من أيام أوسكار وايلد إلى حركة تحرير المثليين في سبعينيات القرن المنصرم. هذا التبني الذاتي لكلمة «المثلي» كبديل غير ازدرائي لمصطلحات عامية أخرى، وتعزيز هذه الكلمة حتى أصبحت الآن مقبولة عمومًا، كان حالة نماذجية للتمرد اللغوي، الذي يسير بالتوازي مع، ويؤثر على، التغيير المطرد في المواقف الاجتماعية.
ومع ذلك، فإنَّ نقطة فوكو المركزية هي أنَّ السلطة هي التي أنتجت مقولة «المثلي»، التي أصبحت بعد ذلك موقعًا لمقاومة تلك السلطة. بمعنى أنَّ السلطة تخلق مقاومتها الخاصة: المقاومة لا تأتي من مكان ما خارج النظام الذي يثيرها.
وبعد أن أدت هذه المقاومة إلى تفكُّك الإدانة والعقاب، لم تعد هناك حاجة ماسة إلى الأشخاص الموسومين بأنهم «مثليون» لأن يتضامنوا معًا ضد مضطهديهم. كما لم تكن هناك حاجة للتفكير بشكل مختلف عن النشاط المثلي غير أنه مثل أي نوع آخر من التفاعل الجنسي. وفي السنوات التي انقضت منذ موت فوكو، تبخرت هذه التابوهات إلى حد كبير. لم يعد كثير من الناس يشعرون بأنَّ الأنشطة المثلية ستضعهم في فئة اجتماعية خاصة، وبالتالي لم يعد لديهم أي حافز قوي لتجنبها.
وقد وصفت هذه الحالة الجديدة بدقة الممثلة كريستين ستيوارت، التي، ردًا على سؤال حول جنسانيتها، قالت: «أعتقد أنَّه في غضون ثلاث أو أربع سنوات سيكون هناك الكثير من الناس الذين لا يعتقدون أنَّه من الضروري معرفة ما إذا كان الشخص مثلي الجنس أو سويًا» (مجلة نيلون، 2015م).
الكلمة الوحيدة التي ترغب ستيوارت في استخدامها للتعبير عن نفسها في هذا الصدد هي «مائع». هذه هي الكلمة التي أصبحت مألوفة في الآونة الأخيرة، واستخدمتها، من بين آخرين، عارضة الأزياء والممثلة كارا ديليفين ونجمة البوب مايلي سايرس، التي أصبحت متحدثة صريحة عن هذه المواقف والاتجاهات الجديدة. لم تعبِّر سايرس عن تجارب الكثير من الناس اليوم فحسب، بل أثَّرت أيضًا على تشكُّل المواقف والآراء بين جمهورها الواسع.
في مقابلة مع صحيفة «لوموند» في عام 1980م، أعلن فوكو:
وخلص فوكو إلى أنَّه يجب علينا الاعتراف بالفلسفة حيثما يكون التحليل مصحوبا بـ «تغييرات في السلوك، السلوك الفعلي للبشر وعلاقاتهم بأنفسهم وبالآخرين». ويترتب على ذلك أنَّ الفلسفة ليست شيئًا ينبغي تركه للفلاسفة المحترفين. فالأفكار الأصيلة يمكن أن تتدفق في العديد من المجالات المختلفة في ثقافتنا، وعندما تتحدى الآراء المطروحة، قد تستحق اسم «الفلسفة» إنَّ التفكير الجلي والأفكار الجديدة بعيدة كل البُعد عن كونها حكرًا على الأكاديميين فحسب. (في الواقع، غالبًا ما تكون الأوساط الأكاديمية آخر مكان ينبغي للمرء أن يبحث فيه عن الأفكار).
مايلي سايرس: الجنسانيّة الشاملة
طوال عام 2015م أجرت مايلي سايرس سلسلة من المقابلات التي، في رأيي، تضعها في طليعة التفكير المعاصر حول الجندر والجنسانيّة. كانت تلك المقابلات مثيرة وواضحة، وأظهرت ببراعة مدى ذكاء وصدق سايرس.
ولكن قبل مناقشة ما قالته، أودُّ أولًا أن أعود خطوة إلى الوراء، لشرح ما دفعها لاتخاذ مثل هذا الموقف العام بشأن هذه القضايا، ولماذا أصبحت -على حد تعبير إحدى المجلات التي حاورتها- «أكثر ناشطة اجتماعية غير مرغوب فيها في العالم».
كانت مايلي مغنية محبوبة وناجحة منذ سن الرابعة عشرة، عندما أعطتها قناة ديزني التلفزيونية دور البطولة في مسلسل «هانا مونتانا». لكنَّ موقفها تجاه نجاحها المالي ملهم واستثنائي بشكل ملحوظ في مجتمعنا التنافسي للغاية:
كانت مايلي مهتمة بشكل خاص بعدد الشباب المشردين الذين تراهم في شوارع لوس أنجلوس، وبدأت البحث في أسباب ذلك. وسرعان ما أصبح من الواضح أنَّ أحد أكثر الأسباب شيوعًا لعيش المراهقين في الشوارع هو أنَّ الآباء والأمهات قد ألقوا بهم في الشوارع لكونهم مثليين أو غير تقليديين جنسيًا. هذه الحقيقة المروعة جعلت القضية شخصية جدًا لمايلي، التي لم تكن مشاعرها الجنسية مقصورة على جنس واحد. وفي ظروف مختلفة، مع آباء أقل دعمًا، لكانت مايلي نائمة تحت جسر في مكان ما.
وفي ظلّ إصرارها على اتخاذ بعض الإجراءات بشأن هذه المسألة، اتخذت حملتها ثلاث طرق. أولًا، أنشأت مؤسسة خيرية «Happy Hippy Foundation» لتقديم المساعدة العملية للشباب المثليين المشردين. وثانيًا، وجَّهت نداءات عامة مختلفة من أجل التسامح، مؤكدةً أنَّها لا تحاول تغيير أسلوب حياة أحد، بل تطلب منهم أن يكونوا أكثر تقبلًا لأنماط الحياة المختلفة. وثالثًا، تحدثتْ بصراحة عن حياتها ومشاعرها في المقابلات التي ذكرتُها.
ليس من غير المألوف اليوم أن يعلن الناس في صناعة الترفيه أنَّهم مثليون أو ثنائيو الجنس، في هذه الدوائر على الأقل، تلاشى التحيُّز إلى حد كبير. ومع ذلك، لا تكره مايلي كلمة «ثنائي الجنس»، وتفضِّل «الجنسانيّة الشاملة» -الانجذاب لجميع الأجناس- لوصف نفسها.
فمن جهة، تعني كلمة «ثنائي الجنس» أنَّ هناك جنسين للاختيار بينهما فحسب، يندرج تحتهما الجميع. وهذا غير صحيح في الواقع. فالخنوثة أكثر شيوعًا بكثير مما يدرك معظم الناس. ووفقًا لبعض التقديرات، واحد من كل ألفي طفل لديه خصائص الخنوثة، ما يمثل عدة ملايين من الأشخاص في جميع أنحاء العالم. وبالتالي، حتى جسديًا، الجميع ليسوا ذكورًا أو إناثًا بشكل واضح. إذا أضفنا إلى ذلك الافتراضات الاجتماعية والنفسية التي تراكمت حول «الذكورة» و «الأنوثة»، فإنَّ عددًا كبيرًا من الأشخاص الآخرين لن يتم تصنيفهم بسهولة وفق تلك المصطلحات، أو سيشعرون بعدم الارتياح لأي تصنيف من هذا القبيل.
وفي هذا الصدد، تقول مايلي:
مجلة إيلي، المملكة المتحدة أكتوبر 2015م
عندما تجد شخصًا جذابًا، كما توضح مايلي، تستجيب لهذا الشخص كفرد، وليس كعضو في فئة مثل «ذكر» أو «أنثى». أي نوع من الأعضاء التناسلية لديهم ليس مهمًا حتى ممارسة الجنس، حينها يمكن للمرء أن يعدِّل سلوكه وفقًا لذلك.
قد يجد كثيرٌ من الناس أنَّه من الصعب التعاطف مع هذا الموقف. ولكن يمكن العثور على برهنة عملية في حملة مايلي «InstaPride»، التي دعت المتحولين جنسيًا وغيرهم من ثنائيي الجنس أو غير محدَّدي الجنس لنشر صورهم على موقع «إنستجرام». يتمتع بعض هؤلاء الأفراد بجمال جسدي فائق، دون أن نعرف أي شيء عن أعضائهم التناسلية.
لذلك، يصبح من الواضح أنَّنا يمكن أن نجد شخصًا جذابًا دون معرفة جنسه. فالانجذاب إلى شخص معيَّن يأتي أولًا، ومعرفة نوع جنسه ثانيًا. وفي مواجهة هذا الموقف الجديد، بدأ عمل الفيلسوفة النسوية جوديث بتلر يبدو متواضعًا: فنظرياتها لا تترك وراءها الانقسامات الثنائية للجندر التقليدي، أو بدائل لأن يكون الإنسان إما مثليًا أو غَيْريًا. وقد انطلق الكثير من الأشخاص مثل مايلي من مثل هذه المنظورات المحدودة.
في نهاية حفلتها في عام 2015م، صعدت مايلي على خشبة المسرح وهي ترتدي باروكة ملونة، وذيل حصان، وثدي مزيف، وقرن وحيد القرن في وسط جبينها وقضيب ضخم منحوت مربوط بين رجليها. في هذا الزي الرائع كانت تتحرك بخفة على المسرح تغني أغنيتها المثيرة (Karen Don’t be Sad) أو «كارين، لا تحزني».في هذا السياق أصبحت الأغنية دعوة داعمة لغير الممتثلين جندريًا من أجل مقاومة محاولات التنميط: «لأنهم سوف يسحقونك إذا استطاعوا / إنهم مجرد حفنة من الحمقى / يمكنك جعلهم عاجزين / لا تسمح لهم بوضع القواعد».
في يونيو 2015م، نشرت مايلي صورة لها على موقع إنستجرام (حيث لديها 26 مليون متابع) ترتدي تي شيرت يحمل شعار «الجندر انتهى»، وتبدو سعيدة للغاية بهذه الفكرة. وقد لاحظتْ أنه في الماضي، عندما كان يطلب منها الناس توقيعها الشخصي، كانوا يشيرون إلى أغنية معينة لها يحبونها على وجه الخصوص، ولكن الآن الشيء الأكثر شيوعًا الذي يقولونه هو،«شكرًا لكِ على موقفك».
ومن المؤكد أنَّ الأمر سيستغرق بعض الوقت لكي تصبح آراؤها واسعة الانتشار، ولكن هناك حركة محددة جارية لا يمكن أن تجد متحدثًا أفضل منها. لا يوجد شيء مفزع أو عدواني في تصريحاتها، بل مجرد فكاهة وتسامح. ومن الجدير بالذكر أنها أصبحت مشهورة لأول مرة على تلفزيون الأطفال بسبب شخصيتها المحبوبة، وهذا شيء لم يتغيَّر على الإطلاق.
«شولاميث فايرستون» ونهاية الجندر
في عام 1970م تنبأت الفيلسوفة النسوية شولاميث فايرستون بنهاية الجندر في كتابها «جدلية الجنس». وكتبت فيه:
ربما بدا ذلك وكأنه حلم طوباوي حينها، ولكن كما رأينا، أصبح الآن أقرب إلى الحقيقة.
كتاب فايرستون يُعدّ بمثابة كتاب «رأس المال» في مجال النسوية. وبناءً على عمل ماركس وإنجلز فيما يتعلق بالتقسيم الأساسي للعمل بين الجنسين في عصور ما قبل التاريخ، تقول فايرستون إنَّ أي ثورة اشتراكية لن تكتمل إلَّا بعد التغلب على هذا التقسيم الأصلي. وبنفس الطريقة التي رأى بها ماركس التنمية الصناعية للمجتمع كأساس يمكن من خلاله التغلب على التقسيم الطبقي، ولم يعد يخدم أي غرض ضروري، رأت فايرستون تطوير مزيد من السيطرة والرقابة على التكاثر من خلال وسائل منع الحمل وغيرها من التقنيات الطبية كأساس ضروري لإنهاء التقسيم الطبقي بين الرجال والنساء.
وللتكنولوجيا الصناعية دورها أيضًا؛ إذ إنها تُنهي الحاجة إلى القوة الغاشمة باعتبارها ميزة في الأنشطة البشرية. ومن ثمَّ تصبح جميع أشكال العمل مفتوحة لكلا الجنسين، ويصبح التمييز حسب الجندر غير ضروري. والواقع أنَّ هذا في كثير من البلدان غير قانوني بالفعل. وفي هذا السياق، تنبأت فايرستون أنَّ الأهمية الاجتماعية للجندر ستتلاشى.
تشارك فايرستون اعتقاد ماركس بالطبيعة الجدلية للتحولات التاريخية، حيث يتقدم التاريخ عبر صراع الطبقات أو الأفكار المتعارضة. وهذه هي النقطة التي تميِّزها عن فوكو، الذي تجنب وضع تنبؤات حول مسار التغيير الاجتماعي في المستقبل، وظلَّ دائمًا حذرًا من الفلسفات الجدلية للتاريخ التي طرحها هيجل وماركس.
ومع ذلك، فإنَّ هذا الانقسام بين فوكو والفلسفة الجدلية ليس مطلقًا كما يبدو. في محاضرة افتتاحية في كلية «كوليج دو فرانس» في عام 1970م، قال فوكو: «ينبغي علينا أن نحدد إلى أي مدى يمكن أن تكون مناهضتنا للهيجليِّة واحدة من الحيل الموجَّهة ضدنا، التي في نهايتها نجده واقفًا، بلا حراك، في انتظارنا».
كان انتشار الهيجليّة على نطاق واسع في الفلسفة الفرنسية في ذلك الوقت، في جزء منه، نتيجة لتفسيرات مثيرة للخلاف لهيجل – ولا سيما من ألكسندر كوجيف – وضعت تركيزًا لا مسوَّغ له على حتمية تاريخية وعلى شمولية كاملة وانغلاق من المفترض أنَّه مأخوذ نظام هيجل. في كتابات كوجيف، وليس في كتابات هيجل نفسه، نجد فكرة «نهاية التاريخ» التي عمَّمها لاحقًا فرانسيس فوكوياما.
وحتى السنوات الأخيرة، منع الشعبية الكبيرة لتفسيرات كوجيف لأعمال هيجل وجود تفاعل أكثر حصافة بين الفلسفة السياسية والفكر الهيجليّ. واليوم، ساعد كُتَّاب مثل سلافوي جيجك على تحرير هيجل من هذه التفسيرات المضلِّلة، وأصبح من الأسهل الآن معرفة حجم ما هو مشترك بين فوكو وهيجل. بالنسبة لكلا المفكرين، لا يحدث التغيير التاريخي كتطور مستمر ولكن من خلال تحولات مفاجئة، يتم فيها استبدال شكل واحد من أشكال المجتمع بآخر.
وبالنسبة لفوكو، كان الفرق بين هذه الأنظمة مرتبطًا بترتيبات مختلفة للسلطة السياسية والاجتماعية. وبالتالي في «المراقبة والمعاقبة» (1975م) يقارن فوكو بين السلطة السيادية الموحَّدة للعصر الإقطاعي والسلطة التأديبية الأكثر تشتتًا وتشظيًا للمجتمع الصناعي.لكنه لا يتناول أسباب هذه التغييرات بشكل مباشر.
وعلى النقيض من ذلك، ترى فايرستون أنَّ «النسوية هي استجابة النساء الحتمية لتطوير تكنولوجيا قادرة على تحرير النساء من طغيان أدوارهن الجنسية والإنجابية» (ص 37). وعلاوة على ذلك، «لا تتطور الثقافة من الجدلية الاقتصادية الكامنة فحسب، ولكن أيضًا من جدلية الجنس الأكثر عمقًا» (ص 179).
كما رأينا، فإنَّ تحليل فوكو للأهمية المتغيِّرة للجنسانيّة المثلية في الثقافة الغربية على مدى القرنين الماضيين يحدِّد مرحلتين، مقارنة بنتاج سلطة المعارضة الخاصة به:
– المثليون الذين تمَّ تحديدهم على أنهم مجموعة «منحرفة»، وهم هدف التدخل الطبي والقانوني.
– المثليون الذين يقبلون هذه الهوية، ويطلقون حملات من أجل المساواة والاندماج في المجتمع العام.
ويمكن القول إنَّ هذه المرحلة الثانية بلغت ذروتها في الآونة الأخيرة بقبول زواج المثليين في بلدان كثيرة. ولكن انتهاء هذا الصراع يولِّد حتمًا وضعًا جديدًا تمامًا، حيث:
– تم تجاوز ثنائية المثلية / السواء الجنسي، وفقدت فئة «المثليين» حدودها الصلبة وبدأت في الانحلال إلى «جنسانيّة شاملة» معاصرة.
مع هذه الخطوة الثالثة، التي ظهرت في السنوات الأخيرة فقط، منذ موت فوكو، يمكننا أن نرى ثالوثًا جدليًا جديدا بدأ في التشكُّل. هذا هو نوع الثالوث الذي يشكِّل فيه هيجل، وماركس، وفايرستون البنية الأساسية للتطور التاريخي.
لذلك، على الرغم من تنبؤ فايرستون بأنَّ الجنسانيّة الشاملة ستكون واحدة من نتائج الثورة النسوية، يمكننا أن نرى اليوم أنَّها تساهم في تلك الثورة، وتجعلها قريبة من التحقيق. إنَّ مثل هذا التغيير الثوري، الذي يضع حدًا للبنى الاجتماعية القمعية للجندر، سيخلق قريبًا عالمًا أفضل للجميع: النساء والرجال وغيرهم كذلك. لقد حان الوقت لنا جميعًا أن نتبنى ونشجِّع هذه التغييرات.