من شيطنة «ماركس» إلى شيطنة «ميلتون فريدمان»
بعد حقبة الاستعمار وتسرب الفكر الشيوعي لقلب المنطقة العربية، واتجاهات التأميم التي برزت بعد صعود الأحزاب القومية والاشتراكية إلى سدة الحكم، ومع عدم تحقيقها التوقعات التنموية التي انتظرتها الشعوب؛ لم يكن هنالك من هو أنسب من «ماركس» ورفاق أفكاره من اقتصاديي الملكية العامة، والتخطيط والتقييد الاقتصادي لتعليق حالة الخيبة عليهم.
للأمر سياقات أخرى بالتأكيد، أبرزها الحرب الباردة في تلك الفترة، والتي وضعت بصماتها على كل الصراعات السياسية الاقتصادية في العالم، فكانت الولايات المتحدة الأمريكية تدعم كل من يناهض المعسكر الاشتراكي وتنتهز كل فرصة لتحجيم أو إسقاط الأنظمة الموالية للاتحاد السوفيتي. ظهر ذلك جليًا عندما وقف «العالم الحر» بقيادة «ريغان» في الولايات المتحدة و«ثاتشر» في بريطانيا مع المقاتلين الأفغان ضد الروس، وزودوهم بالخبرات الفنية والمساعدات المالية.
بعد انهيار الاتحاد السوفيتي وفشل الأحزاب العربية القومية والاشتراكية في تحقيق تطلعات الشعوب المستقلة حديثًا آنذاك، نال «ماركس» ورفاقه قدرًا وافرًا من التوبيخ والشتائم في عالمنا العربي بقيادة فقهاء الصحوة، ووجدت الحكومات العائلية مالكة الثروة والنفوذ في الخليج الفرصة مناسبة لدعم الصحوة في بدايتها ، فكانت الصفقة تلقائية سلسلة:
نوفر لكم الأمن، حرية التعبير، وتلعنون بالمقابل الاشتراكيين واليسار أنصار تفتيت الثروة على منابر المساجد، أشرطة الكاسيت، الكتب والصحف.
إلى أن اختلت المعادلة مرة أخرى عندما رفض قادة الصحوة الإسلامية فكرة التعاون مع عالم رأسمالي، ليس لسياساته الاقتصادية والتنموية؛ وإنما لأنه «ليبرالي» لا يعبأ بنظام القيم الإسلامية، فتم الزج بهم داخل السجون وخفتت أصواتهم في العالم العربي مرة أخرى.
وجد العالم العربي في الفكر السياسي الاقتصادي للمعسكر الاشتراكي مبرره المناسب لحالة الفشل الاقتصادي والتنموي، فتم تجاوزه بسرعة كبيرة وغريبة للارتماء تحت مظلة عالم رأسمالي يتمركز هذه المرة في غرب أوروبا وأمريكا. رحب «صندوق النقد الدولي» ورفيقه «البنك الدولي» وكذلك الاقتصادات الكبرى بتلك الدول المترنحة، وقُدمت القروض والخبرات الفنية والاستراتيجية لإدارة التنمية وللإصلاح الإداري.
ولأن قضايا الفقر والعطالة واللامساواة قضايا «بارادايماتيكية» إذا صح استخدام مصطلح «توماس كون»، أي لها أبعادها الفكرية والأيديولوجية، لم يكن استيراد نماذج التنمية الاقتصادية الأمريكية والأوروبية أمر سلس يشبه عملية التركيب «installation» للبرمجيات على أجهزة الهاتف الحديثة، فقد واجهت تلك النماذج (البرمجيات) عدة عوائق حدت من فاعليتها وكفاءة عملها.
وهذه القضية المتهم الأول فيها ليس البنك الدولي أو الصندوق المصدر لتلك النماذج، وإنما تلك الدول التي لم تنجز ما سماه الدكتور «فضل الله علي فضل الله» المتخصص في شؤون التنمية بالاتفاق البارادايماتيكي «Paradigmatic Consensus» بين المفكرين في دول العالم الثالث، الذين يقفون في خط الدفاع الأول ويعيشون مشاكل الفقر والعطالة ونقل النماذج.
من المعلوم بالطبع أن الشروط الاقتصادية والسياسية المصاحبة للقروض والتي تأتي تحت إشراف ومراقبة «ضباط» العون الأجنبي للقوى الاقتصادية العالمية، الذين يُطلق عليهم تهذبًا «مستشارين» لم تكن لتنسجم بالضرورة مع أولويات الدول الفقيرة أو إستراتيجياتهم، لكنها كانت تحقق ما يجعل هذه الدول دائرة في أفلاك الدول المانحة.
ويبدو من المعلوم كذلك أننا ندرك بلا شك أنه يتم عنوة تصدير سياسات السوق الحر والخصخصة ونموذج دولة الحد الأدنى إلينا عن طريق تلك القروض الاشتراطية. إذًا، هل كان المقترض في دول العالم النامي ساذجًا أم مجبرًا؟ الواقع أنه لم يكن يفهم نفسه بعد، ولنكن أكثر دقة: لم يعرِّف نفسه بعد.
تذكرت ما حل بـ«ماركس» ورفاقه وأنا أستمع لأحد أئمة المساجد في السودان ينعت «ميلتون فريدمان» بالقاتل ويصفه بالوحش البشري، تخيلت ـ«كارل ماركس» وقد خرج من قبره يشير بيده ضاحكًا إلى قبر ـ«ميلتون فريدمان». وللعلم، الأخير هو الوريث الشرعي لـ«آدم سميث» صاحب نظرية اليد الخفية. فقد نظّر للسوق الحر وللدور الحكومي المناسب للحد من التدخل في الحريات الاقتصادية والاجتماعية، وحاز على «نوبل» في الاقتصاد عام 1976 ثم أصبح مستشارًا مقربًا من الرئيس الأمريكي «رونالد ريغان» فيما بعد.
ناضل «فريدمان» أكاديميًا من أجل الأفكار الرأسمالية وسياسات السوق الحر، وفي نفس الوقت كانت رئيسة الوزراء البريطانية «مارجريت ثاتشر» متأثرة بأفكار صديقه في الفلسفة الاقتصادية البريطاني النمساوي المعروف «فريدريك هايك». ومنذ ذلك الوقت، أي ثمانينيات القرن الماضي، وما تزال قبضة النظرية الرأسمالية ممسكة بزمام الاقتصاد العالمي من خلال المؤسسات الدولية والقوى الدولية العظمى وتمتد فلسفتها لتؤثر على التغيير في الهرم الاجتماعي «Social Mobility» للشعوب في العالمين المتقدم والمتأخر.
هذا التخبط الذي نمارسه بين السياسات الاقتصادية الاشتراكية والسياسات الرأسمالية، بين التأميم والخصخصة، بين التدخل الكنزي «intervention» الحكومي والسياسات النيوليبرالية أو بين الدولة في الحد الأدنى ودولة الرفاه؛ لم يحدث إلا لأننا لم ننجز بعد إجابات على الأسئلة الكبرى المتعلقة بالاجتماع البشري كسؤال العدالة وترسيم شكل المجتمع الصائب (أو كيف يكون المجتمع عادلًا) وكيف يكون التوزيع العادل للواجبات والحقوق، للدخل والثروة، للسلطات والفرص.
إن ما يحدث في واقع الأمر أننا لم نغير طريقتنا في فهم الآخر، نصطاد فقط العدو المناسب لحالة الفشل ثم نشرع في تجريمه. فمسائل الاقتصاد السياسي لا يتم التفكير فيها بمنهجية الدفاع وردود الأفعال، أو بالصراخ والهتاف بطريقة تجريمية وتجاوزية تصرف النخب الأكاديمية والمنظرين السياسيين عن التفكير فيها وتحليلها، إنها تحتاج لبناء تراكمي تقوده أفكار متعددة متنافسة حول ما يجب أن يتم تعريفه بالحالة العادلة. وهو ما لم يحدث في تاريخنا الحديث؛ فمجتمعاتنا لم تكن تخوض حروبها الفكرية الخاصة، بل كانت تنقُل صراعات الآخرين لميدانها.
ولأننا لم ننجز تعريف ماهية مجتمعاتنا بعد، كان الانتقال من شيطنة «ماركس» إلى شيطنة «ميلتون فريدمان» أمر متوقع، على الأقل يبدو أننا نحاول التعرف على ما لا يعبر عن خصوصيتنا، تمامًا كاتباع منهج التجربة والخطأ «Trial and Error».
صحيح أن الافتراض الرئيسي الذي تقوم عليه نظريات التنمية الخطية التراكمية هو قانون الحتمية التاريخية، الذي يقضي بتتبع خطى ومراحل تطور الدول المتقدمة، لكن ما يحدث شيء خارج قوانين العلوم الاجتماعية تمامًا.
إن المنطقة العربية لا تستفيد من القانون الخطي للتطور، فهي تتجاوز تجاربها تمامًا عن طريق ممارسات كالتحريم الديني والقطيعة الأيديولوجية في مسائل كالاقتصاد السياسي والاجتماع، الأمر الذي يسبب قطيعة تاريخية بدوره مع تجاربنا السابقة ومع تجارب الآخر.
فالعالم العربي يمكن أن يعود أيديولوجيًا مرة أخرى لاشتراكية صرفة إذا توافرت ظروف ملائمة، فذاكرته التاريخية ضعيفة بسبب العبور اللاتاريخي فوق التجارب التاريخية، ذاكرة لم يشيدها النقد والتفكير حول ما يعبر عن خصوصياتنا – كمجتمعات عربية / أفريقية مسلمة- في الاجتماع البشري.
ويبقى السؤال: هل يوجد بحث نظري في الفلسفة السياسية إجمالًا والعدالة السياسية، وما يتعلق بتوزيع الأعباء والاستحقاقات الاجتماعية والاقتصادية في تاريخنا العربي الإسلامي، يمكن أن يوضع جنبًا إلى جنب مع كتابات «أفلاطون» و«هوبز»، وفلاسفة العقد الاجتماعي، و«جيرمي بينتام» و«كانط» و«آدم سميث» و«كارل ماركس» و«جون رولز» وغيرهم؟ الإجابة بالطبع لا يمكن أن تتوقف عند «ابن خلدون».