من القضية إلى الوجود: في ضيافة محمود درويش
تعالجُ هذه المقالة، مَسألة الشّعر الدرويشي باعتباره صوتًا إنسانيًا سخّر كل جهده لقضيتهِ الأساس؛ الدّفاع عن قضية فلسطين، وفيه يتجاوزُ ما هو عروبي وقومي، وذلك عبر دِيوانَيهِ «أحد عشرَ كوكبًا»، الذي أنتجهُ سنة 1992، و«جِدارية» سنة 2000. وقد تشكل بناءُ هذه المقالة من ثلاثة محاور، الأول: يتحدث عن الملاقاة التي أقامها درويش بين فلسطين والأندلس، عبر جدلية الحضور والغياب. أما المحوران الثاني والثالث: فيسلطان الضوء على الأفق الذي انتقل إليهِ شعر درويش، باعتبارهِ منعطفًا آخر منَ المنعطفات التي سلكها شعر درويش، خصوصًا المحور الثالث، حيث الشعر هو التجلي الوميض للغة، ومن ثم؛ فإنّ الشعر يقودُ نحو تخوم الوجود ويخلق أطرًا جمالية للحياة، تستعصي عن أي قبضةٍ تكبحُ ماهيتهُ الأولى، وأداتنا في ذلك المنهج التحليلي، واللغة كأسلوب يعكسُ انتماء المنهجِ وسلطته.
بين الأندلس وفلسطين: مسافة شبر!
كيف يمكنُ جسر المسافة بينَ أندلس الغياب، وفلسطين الحضور؟ أو ما الصيغة التي تحضر فيها الأندلس وتغيبُ فيها فلسطينُ في قصيدة أحد عشر كوكبًا؟ أليسَ الولع بالشيء دليل على تماهي المرءِ فيه؟ وما معنى فلسطين إن لم تكن ولعًا ووجعًا في قصائدِ درويش؟ إنّ الحضور والغياب، جدليتان يَعقلُ بينهما درويشُ فلسطين والأندلس، كي يُشبّبَ من نصه ملحمةً تذكي لهيبَ المقاومة، فتسترجعُ بذلكَ صورة الماضي – الحاضر، الذي يتكرر بزخمٍ في ديوان أحد عشر كوكبًا؛ لأن رمزية الأندلس في المخيال العربي ارتبطت بزمانٍ أسطوري ملحمي، تتكاثف أبعاده بترابط الوقائع المعاشة بالغابرة؛ لذا كان استدعاء الأندلس في نص درويش، استثمارًا ذكيًا بالموازاة مع ما تعيشه المنطقة العربية آنذاك، حيث التحضير لمؤتمر السلام بينَ إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية، وما أعقبهُ من اتفاقية أوسلو، وبناءً على هذه الاتفاقية، استقال درويش من منظمة التحرير الفلسطينية، بسبب بنودها الظالمة في حق شعبه، وهو ما أعطى لديوان «أحد عشر كوكبًا» سنة 1992، صيغةً ملحمية كنفس مقاوماتي، يؤسس فضاء القصيدة على مستوى البصر والبصيرة، ومن ثمّ فكتابة الملحمة على هذا النحو، لا يعني سوى كتابة ملحمة شعرية تُخلِّد صوتَ الشعبِ الفلسطيني المنكوب والمرّحل قسرًا من أرضهِ وزيتونهِ، يفتتحُ درويش قصيدتهُ بهذا المشهد (أحد عشر كوكبًا: ص: 271 ):
يشد درويش التاريخ، بضفيرتين الأولى من الماضي، والثانية من الحاضر، حتّى إذا ما تراخت إحدى جدائله، شدّهُ بمقبض الذاكرة، كي يعيد للإنسان العربي والفلسطيني بالخصوص مشهد الاجتثاث والنزوح، من الأرضين الإندلس وفلسطين، إنّه مشهدٌ مأساوي لشعبٍ رُحّل وقد حكم أرضهُ لثمانية قرون، ولشعبٍ يُرَّحل عن أرضه التي نبتت فيها جذور أجداده منذ الغابرِ من الزمان. يؤكد هذا الربط على مآل الوضع الفلسطيني الذي جاوزَ حدودًا لا إنسانية من حيث معاناتهِ، التي شملت حياته كلها وحولتها إلى كتلة من اليأسِ والمعناة. ولعل هذا المشهد من القصيدة، يصور حجم هذا اليأس والقنوط:
كلمات (النهاية\ الشتاء الأخير\ زفرة) تطبق على الوعي وتنضغطُ على النفس، كصورة قاتمة مُبتئسة، تتجرعُ مَرَارة الظلمِ والقسوة التي تكابدها الذات الفلسطينية. فحضور هذه الكلمات ضمن القصيدة، يؤسسُ لصوتٍ سرعان ما سيتغير إيقاعهُ كلما توغلنا في القصيدةِ. إعلان هذه الحالة هو إعلانٌ عن تجاوزها، بل توظيف الملحمة في هذي القصيدة، يحقق سيكولوجية يريدُ درويش أنْ يبثها عبر استعادة الماضي بصوره الممجدة في المِخيال العربي، وبالتالي يُسفر هذا التوظيف على صورةِ الانتصار التي يجبُ أن تَعلق في ذاكرة الإنسان الفلسطيني، وربما تكمن أهميةُ هذا التوظيف الملحمي في وظيفتين: إيمان درويش بأهمية الملحمة في تأجيج سيكولوجية المقاومة والممانعة عند الذات الفلسطينية. وقدرة الشعر على خلق المعنى وإبراز قيم المقاومة.
تتشكل هذي الملحمة من 892 بيتًا وزعها درويش، على طول القصائد الست (في المساء الأخير على هذه الأرض/ خطبةُ الهندي الأحمر – ما قبل الأخيرة- أمامَ الرجل الأبيض/ حجر كنعاني في البحر الميت/ سنختار سوفوكليس/ شتاءُ ريتا/ فرسٌ للغريب [1])، التي أتت متأرجحة بين الماضي والحاضر، وصور المقاومة والبطولة، والهوية والحرية والحب… إنها أشبه بنشيد تاريخي، تتداخل فيه صور شتى من بنيات مستعارة، انصهرت في مجموع القصيدة؛ لتكونَ في النهاية ملحمة وذاكرة للعقل الجمعي الفلسطيني (أحد عشر كوكبًا: ص 314):
في هذه الأبياتِ أو غيرها التي تجري على طول القصيدة، يعودُ فيها درويش إلى زمن الكنعانيين، الذين عمروا أرضَ فلسطين، وعاشوا فيها صانعين بها/ فيها، إرثهم وثقافتهم. وهو بهذا يربط الشعب الفلسطيني بماضيهِ وبثقافتهِ وهويتهِ، وبالتالي أحقية الشعب الفلسطيني في هذه الأرض.
يربطُ درويش شعبَ فلسطين على طول امتداد القصيدة، فهو في قصيدة «سنختار سوفوكليس»، يرحل بنا إلى أرض كنعان القديمةِ؛ إلى فلسطين الحاضرة، ليروي مأساة النكبة سنة 1948، مستعينًا بشخصيتين الأولى «سوفوكليس» أحد أشهر كتاب التراجيديا الإغريقية، والذي أسس للذاكرة الإغريقية، عبر ملحميات شعرية، جعلت منها أفقًا كونيًا ومشتركًا إنسانيًا. وشخصية «امرئ القيس» الذي خرج ثائرًا لاسترداد مُلك أبيهِ مستعينًا «بجوستنيان» الأجنبي عنه، لكنهُ ماتَ غريبًا خارج أرضه وموطنهِ (أحد عشر كوكبًا: ص 326).
يختار درويش «سوفوكل»؛ لأنه خلّد شعبهُ في العالمين عن طريق الملحمة، وبالتالي؛ صارت الذاكرة الجمعية الإغريقية رمزًا إنسانيًا. كذلكَ يفعلُ درويش حينما يجعلُ من نصهِ ملحمةً، تُخلد قضية فلسطين، وتجعل من الأرض الفلسطينية رمزًا إنسانيًا مشتركًا. إذن؛ توظيف الملحمة كان بدافع إبراز المقاومة والهوية والعروبة، في نص أحد عشر كوكبًا، لدفع المظلومية التاريخية-الإنسانية، التي يعانيها الشعب الفلسطيني، ولعل العنوان [2]، هو إحدى المشيرات المهمة على هذا، كما أنهُ يضطلع بدورٍ آخر يتمثل في نوعية الخطاب الدرويشي والعلاقة التي يقيمها بين رمزية الأحد عشر كوكبًا والمشهد الأندلسي الأخير، بارتباط المشهدين بصورة حميمية ونوستالجيا في مخيال الذاكرة الجمعية العربية. من هنا أمكننا الانزياحُ نحو أفقٍ آخر في نصوص درويش الشّعرية، وهو أفق يخرج من التاريخي الهوياتي بخصائصه الكلية، إلى أفق إنساني وجودي يحمل القضية الفلسطينية، من جغرافيتها إلى سعة الوجود والكينونة.
من التاريخ إلى الوجود
تَفاجئك جداريةُ درويش بقلقٍ وجودي، يعيدُ الذات إلى براءة السؤال الأنطولوجي من أنا؟ أين أنا؟ ولمَ أنا هنا؟ هي أسئلة متضمنة في قصيدة «الجدارية»، احترقت بها ذات الشاعر، حيث تمخضت عن تجربة فردية خالصة، عانقت الموت وحاورتهُ، إنها محاورة تتجاوز الندية والتضاد، أو بالأحرى محاورة الذات لذاتها في الاقتراب – الابتعاد، من البداية/ النهاية، إنها تجربةُ درويش وحده المعانقة للموت، ولكن في نفس الآن تجربتنا جميعًا، لوعةُ الرحيل ومعانة الإحساس بقربِ النهاية، تمزّق وجودي يهدهدُ الذات في لحظةِ القلق، ولاشك أنّ هذي القصيدة حبلى بمعاني هذا القلق، وذلك لسبب رئيس هو اتكاء الشاعر على موضوعه الموت، كتيمةٍ رئيسة في قصيدته، إذن؛ ما تجربة درويش مع الموت؟ وما القيم الفنية والجمالية التي تعكسها هذه القصيدة؟ ومن سيهزم من، درويشُ أم الموت؟
تبتدأ قصيدة درويش برسم الفضاء المكاني لِغنائيته الوجودية، «الممر اللولبي»، الذي يوحي بولوج درويش عوالم ما ورائية (حلم/ رؤية/ برزخ)، سرعان ما سيتشكل على طول القصيدة حواران: حوار ذاتي/ مونولوجي/ بيذاتي، وحوار خارج الذات، بين درويش والموت، والملاحظ في الصيغة الأولى من الحوار المونولوجي/ البيذاتي intersubjectivity العودة إلى التشكيل الآني الذي يعيشه درويش، والحيرة التي داهمته وهو في رحلته إلى عالم آخر، إنه سؤال الذات لذاتها، استفزازٌ لبداهتها، أمام الواقعي – الخيالي: (الجدارية: ص 8 و9):
أما الصيغة الثانية: من الحوار، فهي تأخذ صيغة مرتابة متوترة، متطلعة نحو معانقة كنهَ الموتِ وماهيتهِ. بل تكرار كلمة (كن) في القصيدة، (كن قويًا/ كن كالحب/ كن معنى) تعكس تشخيص الموت ككائن، يمكن محاورته وأمرهُ، والسخرية منه، ورثاءِ حالهِ … من وظيفتهِ الوجودية: (جدارية: ص 49 و50 و52 و55 و56). تتقاطع في هذه المقاطع التي أشرنا إليها بصفحاتها، نبرة الطموح الدرويشي، لهزيمة الموت وهو ما يعطي معنى جماليًا للقصيدة، فهزيمة الموت لم تكن سوى تخليد الإنسان فنيًا بحضارته القديمة: (الجدارية، ص:52):
هكذا ينتصرُ درويش على الموت بتأبيدِ الإنسان عبر الفن، وبالتالي فهو يكشف عن قيمٍ جمالية وفنية تتمثل في: «الحوار الشفيف الذي أقامه الشاعر مع الموت، حيث يأتي الحوار مؤكدًا لجدلية الحياة والموت التي قدمها درويش في صور عديدة ومشاهد متنوعة يحاول من خلالها القبض على متخيل الموت باستثمار القدرة التعبيرية والطاقة التشخيصية التي تنطوي عليها اللغة الشعرية. ولعل تشخيص الموت عن طريق إنشاء وضعية تحاورية بينَ الذات التي تستشعرُ قربَ نهايتها وبينَ الموت الذي يتأهب لإنجاز مهمتهِ أن يمثلَ بعدًا جماليًا في قصيدة الجدارية، التي تطمح إلى تعيين الموت ورسم أطيافهِ وأشباحهِ عبرَ تشييد متخيله [3]». هذي القيم الفنية التي تعكسها القصيدة، يدعمها درويش بشخصياتٍ من الماضي، (المعري/ هيدغر/ ريني شار/ طرفة بن العبد) ليضفوا شرعيةً وجودية على تجربتهِ، وليغنوا مساحة القصيدة بتقاطع التجارب، فالماضي والحاضر هنا والآن، يتقمصان عباءة الوجود والتأمل. وهو ما يعكس قدرات درويش لتوليد دلالات مكثفة لا حصر لها، تؤدي وظائف شتى. إذن استطاع درويش أن يخنق الموت عبر الفن، الذي يخلد الإنسان، بل والسخرية منهُ وشخصنتهِ، محققًا عبر تجربته الفردية تجربة جماعية، تتداخل فيها أصوات وحوارات ودلالات، في ضفيرة واحدة اسمها جدارية.
من الوجود إلى الذات
الشعر مرآة الذات في مرآويتها، في جدليتها بأناه، في أسئلتها الوجدانية، في تحقق شروط الانسية في القصيدة، بتحويل قضية سياسية إلى معاناةٍ إنسانية. إنّ الشعرالدرويشي في مجموعه هو تمثيل لخطوط شتى، في خطٍ واحدٍ، وهو أنسنة القضية الفلسطينية، وتحويلها لذاكرة رمزية إنسانية، تتجاوز أفق الذات والهوية والقومية. وبالتالي النأي بماهية الشعر والأدب عن الاستعارات والتوظيفات الهووية والسياسية، واستقراره عند الخلق والإبداع الإنساني، ونحنُ بهذا نجسر العلاقة التي ميزت أعمال درويش بين الأرض كوجع إنساني، والموت كأفق رمزي.
تعيدنا أعمال درويش كلما قرأناها لاعتصار الذاكرة كرمةً، حتى يسيل ماؤها فيصير نبيذًا، فيسري في خلايا الجسد كي نستذكر درويش الذكرى والذاكرة، التي خلقت أشكالاً قوية للمقاومة، ابتدأ من فلسطين والعروبة، إلى أشكال الوجود والموت، الموت الذي كلما قلبنا صفحات «الجدارية» يذكّرنا بهِ وكأنه يعيدُ إلينا صدى الأناشيد والتراتيل والمزامير المقدسة بأنَ كل أشكال الحياة ما هي إلا لهو ولعب ومرح … لنسيان الموت، الموت كذبتنا الصادقة، التي ننساها أو نتناساها إلى حين يفجئنا ويفجعنا، حكمةٌ درويشيةٌ، في فص جِداري!
[1] استفدنا من هذا التقسيم والعد من المقالة المنشورة في موقع المفتاح، التي نشرتها الأستاذة رابعة حمو، حول كتابها عن محمود درويش، وهو في الأصل أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه، والتي حصلت عليها فعلًا من جامعة السوربون بعنوان «الهوية والغيرية في ديوان أحد عشر كوكبًا للشاعر محمود درويش». http://www.almoofta7.com/vb/showthread.php?t=157895#.WEWAaPl942w[2] «العنوان يشكل خطابًا موحدًا على الرغم من التفاعل الأحادي في القصائد المنتشرة في متنه، إذ إنّ العنوان بؤرة الدخول إليها لإنتاجها؛ لأنّه يمثل تجارب تعدّ ركائز تصف جانباً فكرياً ينقل عبر بوابة هذا الأثر الفني الذي لا ينتج عن التجربة العملية فقط، وإنّما هو نتيجة ما في الفنان من تباين وفردية وذاتية، الأمر الذي يؤسس لعلائقية واضحة بين موضوع الخطاب ومرسله، وكل عنوان هو نص يتآزر مع متنه الذي يشكل نصًا آخر لدعم متن البنية الكبرى، أو ما يمكن أن نسميه خطابًا سواء على المستوى الدلالي أو التداولي، وبطريقة الترابط أو التداعي الحر، والبنائية الموضوعية في هذا الخطاب الشعري ترتكز على مبدأ المشاركة أي تبادل الأدوار فيها من قبل المبدع والمتلقي، وموضوع الخطاب من دون افتراض أحادية لهذا الموضوع، بل إن تفرعات جزئية تكوّن موضوعًا، فالخطاب يحوي مجموعة من العلاقات المتلازمة التي تحتاج إلى أن نصل إليها عبر علاقات لغوية وسياقية، عبر برهنة من قصائد درويش المنتشرة التي تشكّل كلًا موحدًا على الرّغم من اختلاف صورها، وتباين أفكارها المطروحة»، ذكر في الخليج، فتحي، الخوالدي، الملحق الثقافي الخليجي، قراءة في أحد عشر كوكبا، مقالة منشورة سنة 03/04/2010. www.alkhaleej.ae/supplements/page/dc978676-5002-442a-9276-7701d405511d[3] نزوى، الغرافي، مصطفى، خطاب الموت في جدارية محمود درويش، http://www.nizwa.com/%D8%AE%D8%B7%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%88%D8%AA-%D9%81%D9%80%D9%8A-%D8%AC%D8%AF%D8%A7%D8%B1%D9%8A%D8%A9-%D9%85%D8%AD%D9%85%D9%88%D8%AF-%D8%AF%D8%B1%D9%88%D9%8A%D8%B4-%D8%B1%D8%AB%D8%A7/