«ظل ضفدع»: أصداء الحداثة السائلة
ربما يكون الإحساس الأول الذي ينتاب القارئ عندما يحصل على نسخة من ديوان «ظل ضفدع» للفنان «حسام السوّاح» هو الإحساس بالرهبة أمام هالة الفن. فالكتاب منشور في ورق فاخر، وغلاف أنيق، كما يشتمل الديوان على لوحات فنية، شارحة أحيانًا ومستغلقة أحيانًا أخرى، وسأحاول هنا أن أربط بين هذا الديوان ومصطلح «الحداثة السائلة» الذي سكّه «زيجمونت باومان».كان السوّاح حريصًا في لقائنا الأول على إرشادي إلى فكرة الديوان، فعلمت أنها مستوحاة من أعمال زيجمونت باومان، لاسيما كتابي «الحداثة السائلة»، و«الحياة السائلة»، ومن هنا جاءته فكرة «جُزرٌ ترقى للذوبان»، كما أنه شرح لي ارتباط قصائده النثرية في هذا الديوان بمراحله العمرية المختلفة، وكيف أن الطفولة تمثل مرحلة الصلابة، وأن المراهقة تمثل مرحلة السيولة.هكذا كان السوّاح يدفعني إلى قراءة الديوان من هذا المنظور وداخل هذا الإطار، فتوقعت في كل كلمة، وفي كل صورة مجازية، وفي كل شذرة، وفي كل فراغ، وفي كل لون، أن أجد صدى لفكرة زيجمونت باومان عن السيولة. قرأت الديوان وتأملت لوحاته خلال أربعين دقيقة، لم أفهم أشياء كثيرة في أثناء قراءتي، لكنني كنت أتوقع ذلك؛ فهذه هي سمة الحداثة الفنية (السائلة/المائعة) التي لا تعبأ بإرشاد القارئ إلى المعنى، بل تميل في أغلب الأحيان إلى الغموض والإبهام.إن الديوان بأسره، وربما كل سطر فيه، يفتقر إلى الوحدة العضوية، وربما كان الشاعر واعيًا بذلك، فلم يضع أرقامًا لصفحات ديوانه، بل وضعه في حالة من السيولة التي تمنح القارئ حرية قراءته من أوله أو من آخره أو من منتصفه كما يشاء. ولذلك فإن القراءة الأولى للديوان تستحضر على الفور استهلال «شارل بودليير» لديوانه «سأم باريس» عندما كتب إلى صديقه يقول:
لقد ارتبط الفن على مدى التاريخ بتوصيل معنى ما أو معانٍ متعددة عبر استراتيجيات شتى، ولكن الحداثة الفنية (المائعة/السائلة) تنصلت من مسئولية توصيل المعنى، وانتقلت من المعنى إلى اللامعنى، ومن التماسك إلى التشظي، ومن العقلانية إلى العبث، ومن التناغم والجمال إلى التنافر والقبح، ومن الأنساق الكبرى إلى الأنساق الصغرى، ومن السرديات الكبرى إلى السرديات الصغرى، ومن العام إلى الخاص، ومن الكل إلى الجزء، ومن الوحدة العضوية ومفهوم الكلية إلى الشذرات المتناثرة. ويبدو من ذلك أنها لا تعبأ بالمعنى العقلاني، ولا ببنائه، ولا بتوصيله للقارئ، فلا تعينه على الاستدلال ولا الاستنباط.في ديوان «ظل ضفدع»، لا يرتدي الشاعر قناع إنسان آخر، ولا حتى قناع حيوان ذي سمات محددة، بل هو قناع لظل ضفدع، وليس ضفدعًا كاملاً.إنه البطل الضد الذي يُصرح قبل بداية الديوان بأن «المادة المنشورة في هذا الكتاب تعبر عن آراء الضفدع ولا تعبر بالضرورة عن رأي الكاتب». لا شك أن هذه الجملة التقريرية تنطوي على حس ساخر ونقد لاذع لفكرة الرقابة، وحال القمع والاغتراب الذي آل إليه الإحساس بالخوف والعجز، ولكنها تكشف عن صورة البطل الضد، العاجز عن الإفصاح عن رأيه من دون خوف، وهذا القناع –ظل الضفدع- هو الذي سيسمح للشاعر بأن يقول ما يريد.إن التقليد السائد هو أن دار النشر هي التي تتبرأ من رأي الكاتب وتُحصن نفسها، وذلك بإلقاء المسئولية على عاتق الكاتب، ولكن في هذه المرة نجد أن الكاتب نفسه هو من يلقي المسئولية عن الكلمة على كاهل الضفدع، على كاهل صوت شعري نكرة لا وجود إلا لظله، وكأنه لا علاقة بين الشاعر الحقيقي بروحه وجسده والصوت الشعري الذي يتحدث إلينا في شذرات الديوان. وفي كل الأحوال، نستشعر قبضة الرقابة وضرورة الفكاك منها، وإن كان «حسام السواح» يضفي عليها لمسة فكاهية ساخرة. تسيطر حالة من الإبهام على الديوان، ويحتاج القارئ إلى قراءة كل شذرة أكثر من مرة حتى يفهم شيئًا مما يريد الصوت الشعري أن يقوله، لكن في الغالب الأعم تنتهي القراءات باستنطاق للنص، بتفسير أو إساءة تفسير، أو ربما من دون تفسير، ويشعر القارئ في كثير من الأحيان بالعجز والحاجة إلى وجود الشاعر إلى جواره حتى يدله على ما يقصده. والصوت الشعري نفسه –الضفدع- يعي ذلك، ويعبر عن ذلك في قصيدة بعنوان «جسد المؤقت»، قائلًا:
وهذا المقطع الشعري ينطبق على جميع شذرات الديوان، وقراءة الديوان هي محاولة للإنصات، ورغبة في الفهم، وإن كان هناك شك في أن القارئ قد يفهم شيئًا.إن القصيدة الأولى «ضفيرة الضمائر»، قد تبدو للوهلة الأولى منبتة الصلة بعنوانها، ولكن ما دام عنوان الديوان هو «ظل ضفدع»، فعلى القارئ أن يتوقع أن ظل الضفدع يمثل صوت الضمير والراوي العليم، فهو الصوت الشعري الرئيس الذي نسمعه ونرى الأمور من منظوره، وهو يقدم نفسه قائلًا: «أنا عديم الذيل لأني أحاول القراءة».
أما كل من حوله فيتسمون بالمكر والدهاء، والسعي إلى إخفاء الحقيقة ونشر الكسل والتلذذ بالجهل المميت، ولا سبيل إلى النجاة من كل ذلك إلا القراءة، فهي السبيل الوحيد للنجاة، وإن كانت نجاة فردية، تتمركز حول خلاص الـ«أنا» من دون خلاص المجتمع.فالحديث هنا عن الأنا (عن الخاص)، عن الشخص الفرد وما يعانيه من اغتراب، ووسيلة النجاة هي القراءة. وقد تكون هذه الحال دليلًا على الصلابة، لكنها صلابة فردية، أو لنكن أكثر دقة، فردية صلبة.يواجه القارئ صعوبة بالغة إذا استمسك بضرورة الوقوف على معنى القصيدة الثانية، وإن تبدى أنها استكمال للتعريف بالصوت الشعري، بالحديث عن أحد أعضائه –اللسان المعلق بسطح القمر- الذي يعينه على تجاوز الواقع المرير وحالة الحراج والموات والخوف، ومن ثم الأمل المستمر في الطفو المستمر عليه. ويظهر الماء في القصيدة في صور سلبية، ترتبط بالعكارة والقضاء على تنفس الهواء، وإمكانية الطفو المتواصل على سطح القمر.تعبر القصيدة أيضًا عن حالة من الاغتراب الممزوج بالأمل، والتطلع إلى العلو فوق الواقع المرير، ولكن كيف يتحقق العلو عبر وسيط مادي، أي اللسان؟ واقع الأمر أن اللسان في هذه القصيدة ليس مجرد عضو الجسد المادي، بل هو الوسيلة التي تشير مجازًا إلى القدرة على النطق، أي فعل القراءة، الذي هو وسيلة النجاة والعلو. وبذلك ربما تتحقق وحدة عضوية بين الشذرة الأولى والشذرة الثانية في هذا الديوان، لكنها ربما تتفكك سريعًا إذا ما ظهرت قراءة أو قراءات مغايرة.بعد الأمل في العلو، يأتي مرة أخرى واقع السقوط، فلا يلتقي العلو المتعلق بالقمر، بل سقوط السماء ومعها الدم البارد للصوت الشعري –الضفدع- وتتجلى الفكرة التي كانت غامضة، ألا وهي الاغتراب عن الواقع المعيش، وذلك عندما يكتشف القارئ أن الدم البارد الساقط إنما يجلس «تحت زيت الغربة».
ثم يظهر العلو عندما يمتنع الدم البارد عن مراقبة الأورام –الخبيثة- وينشغل بدلًا من ذلك بمراقبة السحابة –رمز العلو- بيد أن السحابة نفسها تعاني حالة مرضية تمنعها من العلو، فنعلم أنها «بالت على نفسها لاإراديًّا».وهذه صورة مجازية تمثل استعارة حيّة بالمعنى الذي حدده الفيلسوف الفرنسي «بول ريكور»، فهي صورة غير مستهلكة، فالتبول اللإرادي للسحابة يكشف أن الواقع المرير قد أصاب الطبيعة العليا، حتى أنها تخفي الماء العذب الجميل مصدر الحياة مثلما «تدفن الأوراق الحبر» مصدر الكتابة والقراءة –وسيلة النجاة- وهكذا تُظهر الشذرات الأولى من الديوان جدل الاغتراب والأمل، وجدل العلو والكمون. يقوم جدل الاغتراب والأمل في الديوان على مجموعة من المواد السائلة: الدم، والماء، والبول، والحبر، والدمع. وتتداخل هذه المواد السائلة في رسم غير مألوف لجدل الحياة والموت.يتضح هذا الجدل في قصيدة أخرى بعنوان «نزيف الرجاء»، والعنوان نفسه يعد استعارة حية، فالمعتاد أن الزيف يرتبط بحالة من الخطر الذي قد يودي بحياة الإنسان، لكن الصوت الشعري يجعل من الزيف أملًا ورجاءً بالعلو، لكن هذا الجدل الذي ينطوي عليه العنوان يختفي تمامًا ما أن يرسم لنا الصوت الشعري –ظل الضفدع- صورة كلب في وضع استرخاء، قائلًا: «لا يهم/أن يكون الدم، طازجًا أو بائتًا/إذا ارتوى الكلب، فإن الدم جيدٌ». هنا لا مجال للعلو، والمجال الوحيد هنا هو مجال الافتراس، عالم التعطش للدماء والارتواء بها. لكن ما يلبث أن يعود الأمل في العلو والنجاة مرة أخرى، ولكن الغريب أن شاعرنا يضع ذلك تحت قسم «السيولة»، ويقدم الصوت الشعري صورًا مجازية حية تبعث على التأمل والدهشة: «ترسم العين/خياشيم/على جانبيها/لتستطيع التنفس/عندما تغوص في قاع الدموع».وهذه استعارة حيّة، فالأنف هي وسيلة التنفس الأولى، لكنها معطلة وغير قادرة على أداء مهمتها، وثمة حاجة إلى وسيلة أخرى، إلى عضو جديد غير مألوف –الخياشيم- من أجل التكيف من البيئة السائلة الجديدة، لكن العجيب في الصورة المجازية هنا هو أن العين لا تأتي بالخياشيم، بل ترسمها، ومجرد الرسم يمنح القدرة على الحياة، وكأن ما يجري رسمه ليس خيالًا، بل وجود بديل.وهذه الشذرة من الديوان هي حالة صلبة قوية تؤمن بقدرة الإنسان على تجاوز الواقع، ولا تعبر بأي حال عن السيولة بالمعنى الذي حدده زيجمونت باومان، مع أن الشاعر يؤكد في نهاية الديوان أن قصائده ومشروعه مستوحى من أعمال باومان، لاسيما «الحداثة السائلة» و«الحياة السائلة».