من مرزوق إلى ويلسون: الصداقة في السينما
هناك صورة منتشرة عند تقديم الصديق على شاشات السينما، إما الصديق المُخلص أو الصديق الخائن، وفي الحالتين يكون مُجرد تابع، لا تتم دراسة شخصيته ولا نعرف الكثير عن مشاكله وحياته ودوافعه، لا يتمحور حوله شيء، وجوده إما لينتشل صديقه من الأزمات حتى لو انتهى الأمر بتضحيته بحياته، وإما يخونه ويصبح هو الأزمة ذاتها.
في فيلم (شمس الزناتي) يجمع عادل إمام رجاله لحماية أهل الواحة من ظلم (المارشال برعي)، رجال (شمس) هم أصدقاؤه في الأساس، في أحد المشاهد المهمة يتخلّى قرانص (أحمد ماهر) عن المجموعة بحجة أن شمس خالف الاتفاق وقرر العودة إلى الواحة رفقة الباقين.
في تلك اللحظات يتغير شعور المشاهد تجاه (عبده قرانص) رغم أنه لم يخالف اتفاقه مع (شمس) لكن لأنه خالف قانون الصداقة وتخلى عن رفاقه، وسرعان ما يتغير شعور المشاهد عند عودة (قرانص) إلى ساحة المعركة “جايلك يا زناتي” ويلقى حتفه بجوار صديقه (شمس).
في فيلم (سلام يا صاحبي) يتجلّى مفهوم الصديق المنقذ بشكل أكثر وضوحًا ومنذ لحظة البداية، يتعارك مرزوق (عادل إمام) مع رجال مشرقي (سعيد طرابيك) وحين تتأزم الأمور على مرزوق يظهر بركات (سعيد صالح) وينقذه، ورغم السرعة وبعض الافتعال في تطور العلاقة بينهما إلا أن المشاهد يتجاوزها لأنها علاقة محببة للقلب ولأن المنحنى الذي اتخذه بناء العلاقة كان مقبولا، اشتراكهما في الطموح وصعودهما معًا، بعدها تتوطد الصداقة بين الثنائي إلى الحد الذي يجعل مرزوق سعيدًا بزواج الفتاة التي أحبها من صديقه وكذلك انتقامه من حيتان السوق بعد قتلهم صديقه.
في Lord of the Rings الثلاثية الأشهر خلال الألفية الجديدة، كانت مهمة البطل (فرودو) أن يلقي بالخاتم في البركان في المكان الذي صُنع فيه حتى ينتهي الخطر المحيط بالبشرية، يقوم (فرودو) بالمهمة رفقة صديقه (سام)، وينجح المسخ (سميجول) في الايقاع بين الصديقين، يطرد فرودو سام، تشتد الأمور وتزداد صعوبة في وجهه، لكن الصديق المثالي يعود لينقذ رفيقه، يحمله على كتفيه ويصعد به أعلى الجبل وتتم المهمة.
صداقات غير عادية
لم تغفل السينما تقديم الصديق في صورة غير نمطية، صورة غياب الصديق حتى يُقدَّر وجوده، في Cast Away كمثال، يحكي لنا المخرج (روبرت زيمكس) قصّة تحطم طائرة خاصة لشركة نقل بضائع، ليجد (توم هانكس) نفسه وحيدَا عالقًا على جزيرة مهجورة، لا رفاق ولا حتى أعداء، لكن (تشاك) الذي سأم من الوحدة يعثر على صديقه الوحيد في رحلته، ويلسون.. الكرة الطائرة.
علاقة (تشاك) بـ (ويلسون) أنقذت حياته، لكن ليس بالمفهوم المادي، وإنما أنقذته من شعور الوحدة القاتل على مدار أربع سنوات، وعلى الرغم من أن ويلسون وهم، وتشاك يعلم هذا جيدًا “أفضل أن أجرب حظي في المحيط على البقاء هنا حتى الموت مقضيا بقية حياتي في الحديث مع كرة معتوهة” إلا أنه كان الوهم الذي يجعل الحياة تستمر، ويلسون كان صديق المغامرة والمعاناة والتخطيط لحل في الهروب والنجاة، رغم أن ويلسون نفسه استعصى على الإنقاذ وابتلعته الأمواج.
في 1982 قدّم ستيفن سبيلبيرج للسينما فيلمه E.T. the Extra-Terrestrial ونجح نجاحًا باهرًا، يحكي فيه الصبي إليوت الذي يعثر على مخلوق فضائي ضل طريقه ووصل إلى الأرض، يتخلّى اليوت عن خوفه ويحاول مساعدته للعودة إلى كوكبه دون أن يعلم أحد بهذا الأمر.
تأتي الكثير من التفسيرات بخصوص فيلم سبيلبيرج، هناك من قال إنه إعادة صياغة لقصّة المسيح وهناك من قال إنه أشبه بالسيرة الذاتية لسبيلبيرج نفسه أو حتى إعادة تقديم قصّة (بيتر بان) بشكل جديد، بينما شكله البسيط أنه يقدم براءة الأطفال، وقوة الحب الذي يحمله الأطفال لمن يحبون، اليوت وإي تي يجدا نفسهما في وحدتهما صديقين، يبدأ كل منهما في التعلم من الآخر، اليوت يكتسب الشجاعة ويتغلب على الوحدة التي واجهها في غياب والده وكذلك يساعد إي تي في العودة لعالمه.
صداقة وخيانة وحاجز لا يُرى بينهما
في آخر أفلامه ومأثرته الأعظم، يتتبع سيرجيو ليوني في Once Upon a Time in America قصة الفتى الصغير (نودلز) وعصابته الصغيرة في نيويورك، خمسة من الصبية تعاهدوا في صغرهم أن يموتوا من أجل بعضهم البعض، وفي كبرهم.. فعلوا ذلك.
منذ اللقاء الأول بين نودلز وماكس لا يستطيع المشاهد تجاوز نظرة الإعجاب في عيني نودلز تجاه الفتى ماكس، لأنه رأى فيه الصديق المُكمِّل لشخصيته، نودلز العاطفي المتسرع في مقابل ماكس الجريء الطموح والأقل عاطفية، عاطفية نودلز جعلته ينتقم من مقتل صديقه ويذهب إلى الاصلاحية لعشرة أعوام، وعقلانية ماكس جعلته يتوسّع في الأعمال الإجرامية حتى خروج صديقه من محبسه. قناعة نودلز ورضاه جعلته يسلك نفس الطريق الذي أضاع من عمره عشرة أعوام في الاصلاحية ويكمل عمله مع عصابتهم، وطموح ماكس جعله يتمادى ويفكر في سرقة المصرف الفيدرالي، وهو ما يجعل نودلز يحاول الوشاية به لإنقاذ حياته بدافع الحب والصداقة.
بعد 35 عامًا يكتشف نودلز أنه كان الضحية والفريسة لثلاثة عقود، في المشهد الختامي للفيلم يقف العجوز (نودلز) أمام (ماكس) / الوزير (بايلي)، يطلب بايلي من نودلز أن ينتقم ويقتله، بعدما تورّط في علاقات كثيرة تتطلب التضحية به «لقد سلبت منك كلّ شيء.. المال، وفتاتك، ولم أترك لك سوى 35 عامًا من الألم، اقتلني كرد لدينك». ينظر نودلز إلى القصر الذي كان من الممكن أن يكون له، ويستدعي في مخيلته لحظات الطفولة التي جمعته بصديقه ويخبره بقصته البسيطة «لدي قصة كذلك، إنها أبسط من قصتك، منذ سنوات كان لدي صديق ، صديق عزيز، وشيت به للشرطة لأنقذ حياته، لكنه قتل، لكن هذا ما أراده، كانت صداقة رائعة، ساءت أموره .. وساءت أموري كذلك».
اختبارات وتحوّلات
في 1989 قدم جون وو فيلمه الأهم The Killer، يحكي فيه قصة قاتل محترف يصيب مغنية بالعمى أثناء قيامه بعملية قتل، يحاول التكفير عن ذنبه في نفس الوقت الذي تتم مطاردته من قبل جميع الأطراف، بعيدًا عن غوص الفيلم في الفوارق بين الخير والشر والتوازن الكبير بين أصالته وتقديمه التحية لفيلم جان بيير ميلفيل الأهم Le Samourai، إلا أن الفيلم في مفاصل مهمة يغازل قيمة الصداقة وكيف يمكن أن تنشأ رغم رواسب العداء في البداية بين القاتل وبين الشرطي لتحقيق العدالة، وهو ما قام جون وو بتقديم نقيضه بعدها بعام في تحفته Bullet in the Head الذي يدور عن ثلاثة أصدقاء، بول وبن وفرانك، بن هو الأكثر مثالية وبساطة، بول هو أكثرهم مادية وسعيًا للحصول على المال والسلطة بينما فرانك يجد راحته مع صديقيه وبعيدًا عن والديه.
في بداية الفيلم يتابع المشاهد المواقف التي تؤكد من قوة الصداقة التي تجمع بينهم، التي سرعان ما تتعرض لاختبارات أكثر قسوة ووحشية في فيتنام وإلى أي مدى من الممكن أن تصمد علاقة الصداقة بين الثلاثي.
توتر العلاقة بين الأصدقاء الثلاثة عند مرورهم بما يشبه الموت وانقلاب بول على صديقيه وانتقام بن منه جعل الفيلم في عمقه ليس مجرد بحث في أثر الحروب على النفس البشرية، وإنما تحليل حقيقي وعميق عما إذا كانت علاقة الصداقة حقيقية أم لا.
خلف الشاشة
في 1972 ظهر إلى النور فيلم Aguirre, the Wrath of God للمخرج فيرنر هيرتزوج، أحد أهم رموز السينما الألمانية الجديدة، كان هذا الفيلم هو التعاون الأول له مع الممثل غريب الأطوار كلاوس كينسكي، كانا صديقين، أراد كلاوس كينسكي أن يغادر موقع التصوير لكن هيرتزوج أخرجه مسدسًا وأجبره على استكمال التصوير، لم يتأكد حتى الآن هل هدد هيرتزوج بالانتحار أم بقتل كلاوس نفسه، لكن الأمر المؤكد هو وجود مسدس حينها.
الآن وبعد أكثر من قرن على ظهور السينما، هل ترى أن السينما قدمت علاقة الصداقة بشكل واف، أم أنها لم تصل بعد إلى الجوهر؟