رفقاء الليل – الحلقة الأولى
اسمه إسماعيل
لو كانت هذه القصة بضمير المتكلم الأول، لبدا هذا كأنه أول سطر في رواية ملفيل «موبي ديك»: «سمّني إسماعيل»، لكنك بالطبع تعرف أن عم إسماعيل لا يملك القدرة على كتابة قصة، وهو يقرأ بصعوبة بالغة.
يمكنك بسهولة أن ترسم صورة ذهنية لعم إسماعيل، فهو نحيل.. أشيب الشعر .. له عين واحدة مغطاة بسحابة رمادية أتلفت القرنية.. له شارب كث يليق بطبقته التي تعتبر الشارب من علامات الفحولة. له طابع ريفي واضح، وبوسعك في أي لحظة أن تجرده في ذهنك من بذلته الميري لتتصوره بالجلباب والبُلغة في قريته، جالسًا على المصطبة يشرب الشاي الثقيل. الحقيقة أن هذه حقيقته طيلة اليوم باستثناء ساعات العمل في الحديقة. هل تحتاج للمسة أخرى؟ بالطبع. لن تكتمل الصورة بصريًا من دون لفافة تبغ خلف الأذن.
عم إسماعيل يقترب من سن التقاعد، وهو يتوق لذلك اليوم بعد عمر طويل حافل عانى فيه الكثير. لديه ابنتان تزوجت واحدة منهما، وعامة هو لا يحكي الكثير عن بيته. لا يحكي عن همومه ومشاكله.
يمكنك فقط أن تراه من حين لآخر جالسًا جوار قفص الضباع، يقرب فمه من السلك ويحكي.. يحكي عن كل شيء، لكنك لا تتبين ما يقوله. يذكرك هذا المشهد بحوذي تشيكوف الذي لم يجد من يحكي له عن تعاسته سوى الحصان.
الحياة تمضي رتيبة بلا أحداث
مملة هي حياة حارس قفص الضباع في حديقة الحيوان. هو كذلك يشرف على الطواويس وثعالب الفنك.. ومع الوقت يكتشف الحارس أن هذه الحيوانات أقرب له من زوجته وأهله جميعًا. يمكنه أن يرى نظرة معينة في عين الضبع الكبير فيعرف ما يمر به من مشاكل نفسية.
لكن المشكلة هي أن دخله ليس مجزيًا. أفضل شيء يمكن عمله هو أن يضع قطعة لحم على عصا ويناولها للطفل الذي يمررها في حذر لأحد الضباع عبر السلك. ثم يناوله أبو الصبي ورقة من العملة، عاصرها إسماعيل منذ كانت نصف جنيه حتى صارت خمسة جنيهات، لكنها لن تتجاوز ذلك أبدًا. من الطريف أن تلاحظ التفاوت الطبقي بين حراس الحديقة. حارس الفيل أو الأسد بادي النعمة أنيق الثياب. فهو ينال مبالغ كبيرة من المتفرجين، وكل طفل في العالم لابد أن يناول الفيل موزة أو قطعة من البطاطا، ثم يؤدي له الفيل (سلام حمادة).. أما حراس الحيوانات الحقيرة أو غير الشعبية على غرار الضباع أو القنافذ وأبي شوك فهم سيئو التغذية رثو الثياب.
لسوء الحظ لم يكن عم إسماعيل مسئولاً عن حيوانات ناجحة..
الحياة تمضي رتيبة بلا أحداث، إلى أن يأتي اليوم الذي تم تمزيق رشدي فيه..
***************
رشدي مسئول عن أقفاص القردة، وهو شاب قوي البنيان من سوهاج جاء إلى الحديقة منذ شهر.
لم يكن متزوجًا، وهو يقيم مع قريب له في الجيزة.. عامة هو شاب ظريف مقبل على الحياة، ويروق للفتيات كثيرًا. غراميات فظة لكنه مستمتع بها.
بدأ يكسب جيدًا .. فالقردة من الحيوانات ذات الشعبية التي يدفع لها الناس الكثير، وعندما يجد أنك متحمس فعلاً فهو يقتادك إلى المدخل الخلفي للقفص – الجزء الذي أطلق عليه كواليس القفص – حيث يمكنك أن ترى الشمبانزي العملاق الذي يحمل ملامح بشرية إلى درجة مرعبة. عندها تخرج الورقة ذات الجنيهات العشرة..
كان رشدي قد بدأ يعتاد المكان. ثم يأتي هنا موضوع السهر الليلي. الحقيقة أن إدارة الحديقة قررت أن توزع نوبتجيات ليلية على الحراس بدلاً من استخدام خفراء. وبالطبع كانت هناك زيادة لا بأس بها في الراتب. إلا أن أحدًا لم يكن راغبًا في قضاء الليلة وحيدًا في هذه الحديقة المتسعة المظلمة لا يؤنسك سوى زئير الأسود. مهما كانت المكافأة فهي لا تكفي لتعويضك عن حرمانك من البيت والأسرة ودفء الفراش. والنتيجة هي أن كثيرين اعتذروا أو لفقوا تقارير مرضية تعفيهم من السهر، ولكن الوحيد الذي تحمس وعرض أن يأخذ أربع نوبتجيات كل أسبوع هو عم إسماعيل. كثير من الرجال يفضلون الانهماك بالعمل لأنه يعفيهم من كآبة وهموم البيت. هذه متلازمة شهيرة.. في النهاية لن يوبخه أحد لأن عذره جاهز دائمًا: الرزق يحتاج إلى ما هو أكثر. هموم البيت ورعاية الأولاد ومدارسهم وأخلاقهم مسئولية الأم. لا تطلب شيئًا من الأب فليُعنْه الله..
هكذا اعتاد عم إسماعيل أن يمضي ليلته.. بالطبع كان يفتح غرفة الحراس التي فُرشت فيها بطانية على الأرض مع وسادة ومعدات الشاي. هناك جوزة أيضًا يبقيها مفككة في كيس ليجمعها ويشعلها عندما يحل الظلام. افتح المذياع على صوت أم كلثوم ولسوف تكتشف أن الحياة رائعة.
جاء رشدي ليعرض على إسماعيل أن يتولى نوبتجيتين أسبوعيتين. واحدة يمضيها معه والأخرى يمضيها مع حارس آخر هو بسيوني. وافق إسماعيل، فلا شك أن وجود رفيق لليل الطويل أمر محبب.
سارت الحياة على الوتيرة المعتادة لمدة أسبوعين، ثم استيقظت الحديقة على جثة ممزقة دامية غمر نصفها في بركة البط.. جثة رشدي طبعًا، وقد جاء رجال الشرطة وأجروا تحقيقًا. كان على رشدي أن يسهر تلك الليلة مع بسيوني، لكن هذا الأخير تغيب عن العمل، ولديه حجة غياب ممتازة.. لقد كان في المستشفى ومعه تقرير بذلك.
المشكلة التي حيرت رجال الشرطة هي أن جثة رشدي ممزقة بشكل حيواني. لا يوجد قاتل يقتل بهذه الطريقة حتى لو أراد ذلك. جروح قطعية بأداة حادة أقرب إلى الأنياب والمخالب، وبعض العظام مجرد من اللحم تمامًا.. هناك أعضاء اختفت تمامًا..
كل الأقفاص مغلقة.. لم يفر دب أو أسد أو ضبع من قفصه.. لا شيء يبرر منظر هذه الجثة.. إنها لغز حقيقي.
النظرية التي خطرت لرجال الشرطة هي أن أسدًا فر من قفصه بسبب الإهمال، ومزق الحارس، ثم قامت إدارة الحديقة بإعادته لقفصه بسرعة خشية المحاسبة.. لكنها نظرية غير قابلة للبرهنة عليها.
عندما استجوبوا عم إسماعيل قال:
-«أشياء غريبة تحدث في الليل يا بك..»
-«أشياء مثل ماذا؟»
حك عم إسماعيل رأسه وأصلح من وضع الطاقية وقال:
-«مساحة أشجار بهذا الاتساع .. الليل والظلام والوحدة وسط كل هذه الفدادين.. عواء الذئاب… زئير الأسود.. لو لم تجد العفاريت هذا المكان موضعًا فأين تقيم يا بك؟»
-«هل تريد القول إن العفاريت هي التي قتلت رشدي ؟»
-«لا أعرف شيئًا يا بك .. فقط أعرف أنني لم أقتل رشدي .. لا أنا ولا بسيوني..»
لكن عم إسماعيل كان يعرف ما هو أخطر بكثير. الأيام التالية برهنت على أنه يعرف الكثير فعلاً.