رفقاء الليل – الحلقة السادسة والأخيرة
لقراءة الحلقة الأولى – الحلقة الثانية – الحلقة الثالثة – الحلقة الرابعة – الحلقة الخامسة
من تقرير العقيد محمد السلاوي رئيس المباحث:
الحقيقة أن تفسير ما وجدناه في تلك الليلة يستعصي على التفسير. وكان يمكن للأمر أن يكون أسهل لو كانت هناك كاميرات مراقبة، أو أن الحارس المدعو إسماعيل المنوفي لم يمت، أو أن المدعو نجاتي زكريا احتفظ بقواه العقلية. هذه هي المشكلة لا يوجد شهود.
لا نعرف تفصيلاً ما حدث في تلك الليلة السوداء، لكن الأمر يذكرني تمامًا بمقتل حارس اسمه رشدي، وجدوه وقد غمر نصف جثته في بركة البط وسط الماء الآسن، وقد تمزق بشكل حيواني .. جروح قطعية بأداة حادة أقرب إلى الأنياب والمخالب، وبعض العظام مجرد من اللحم.. هناك أعضاء اختفت تمامًا.
لم تتكشف أسرار القضية، وإن كانت الإجابة الوحيدة الممكنة هي أن إدارة الحديقة تتستر على فرار وحش كاسر، ولم يقدم لنا الحارس إسماعيل أي إجابات مفيدة.
كان علينا أن ننتظر طويلاً حتى نجد إسماعيل نفسه ممزقًا جوار سور الحديقة، وقد أحاطت به أعشاب متفحمة. هناك من أشعل ستار نار في ذلك المكان ثم انطفأ.. وكان عنق الرجل ممزقًا كأن وحشًا أنشب أسنانه هناك.
الجرد أظهر أشياء غريبة.. ثمة أقفاص كثيرة جدًا قد انفتحت. لا توجد حيوانات .. الكثير منها قد فر. الأغرب أنه لا توجد بلاغات عن مشاهدة حيوانات فارة في المنطقة .. لقد ضاعفنا الدوريات حول الحديقة وقمنا ببحث مستفيض لكن لا يوجد شيء. الحيوانات المختفية تقدر باثني عشر حيوانًا؛ منها الأسود والضباع ووحيد القرن وأنثى شمبانزي وتمساح.
هل تمت سرقة هذه الوحوش؟ مستحيل أن يتمكن نفس الشخص أو الجهة من عمل الشيء ذاته في ليلة واحدة. هل هربت؟ إذن كيف حدث هذا ومن فتح الأقفاص؟ ولماذا لا نجد أثرًا لأي منها؟
حقًا لا نجد الحيوانات لكن آثارها موجودة.
مثلاً هناك سيارة كيا وجدناها مقلوبة وقد اصطدمت بجزيرة الطريق، وكانت في حال سيئة فعلاً لكنها لا تفسر وجود أربع جثث بالداخل .. ياسر وأكرم وأنيس وخالد أربعة من طلاب إحدى الكليات الخاصة، وجدنا جثثهم الممزقة في السيارة . لقد تم انتزاع أحشائهم بعناية وكفاءة.. ويبدو أن الذعر جعلهم يفقدون التحكم في السيارة فارتطمت بالجزيرة. لم يكن الحادث سبب الوفاة، لكنهم بالتأكيد عانوا كثيرًا وهم عاجزون عن الحركة بينما الوحش يلتهمهم واحدًا واحدًا..
عند شارع المغربي قرب الناصية وجدنا جثة رجل شرطة ممزقة تمامًا وقد اختفى نصفها. واضح أنه كان متجهًا لتسلم ورديته عندما هوجم.. ما الذي هاجمه؟ لا نعرف حقًا، لكن المنظر يذكرك بمشاهد الذين التهمتهم الأسود التي تراها في يوتيوب لو كانت أعصابك قوية.
كان هناك خيط واحد يمكن أن نمسك به: الحارس نجاتي الذي بدأ الأمسية ثم اختفى . لابد أنه يعرف ما حدث فعلاً. لم نجده في مسكنه وعرفنا أنه عاد مع أسرته لقريته المجاورة لكفر الشيخ. عندما ذهبت قوة من الشرطة لاستجوابه قابلتنا زوجته – وهي ابنة عمه كذلك – تصرخ دامعة العينين تطالبنا بأن نتركه وشأنه:
-«الرجل قد جن. لقد خرب بيتنا»
وعندما دخلنا رأينا الرجل مذعورًا جدًا . كان يلبس الجلباب البلدي ويقف عاري الرأس فوق حشية الفراش وهو يولول كالنساء. وقد راح يحاول أن يلتصق بالجدار في ركن الفراش البعيد ليفر منا، وهو يردد بلا توقف:
-«عم إسماعيل..!.. لقد تسببت في موته!»
في النهاية استطعنا أن نجلسه وقدمنا له لفافة تبغ، ووعدناه بألا نؤذيه لا هو ولا أسرته، فقال دامع العينين:
-«لقد انتقموا منه لأنني لم أذعن .. لو أنني لم أفقد أعصابي .. لو ظللت متماسكًا حتى الصباح لتركوه حيًا .. لربما مت أنا مثل رشدي.. لكنهم عرفوا أنهم لن يلحقوا بي فقرروا الانتقام من عم إسماعيل».
كان هذا هو الجنون مقطرًا مركزًا.. وقد طلبنا نقله لمستشفى أبي عيطة للصحة النفسية في دسوق، وبدا لنا أنه من المستحيل استخلاص شيء من كلامه.. كان يخطرف وليس لديه ما يقال عن اختفاء الحيوانات سوى أنها هربت. من الذي فتح الأقفاص كلها؟
لا يوجد متهمون كثيرون. أنت يا نجاتي أو إسماعيل يرحمه الله. وبما أنك في حالة لا تسمح بالاستجواب، فهو مستشفى الصحة النفسية إلى أن يقرر الطبيب أن بوسعنا استجوابك.
تابع تقرير العقيد محمد السلاوي رئيس المباحث:
يجب أن أضيف هذا الملحق لأؤكد أننا وجدنا الحيوانات المختفية مؤخرًا. القصة غريبة بعض الشيء ويصعب تصديقها، لكن الجرد حسب جداول الحديقة كامل. كلها ميتة.. الأسود والضباع والذئاب والفهود ووحيد القرن.. كلها وجدت في مواضع عدة من المدينة.
يقول لي أحد الشهود إنه وجد رجلاً فارع الطول يرتدي أسمالاً بالية، وكان يمشي وحيدًا في أحد الأزقة. ثم سقط على ركبته وراح يبكي. كان يعاني ألمًا رهيبًا لكن ما سببه وما مكانه؟ هرع إليه وربت على ظهره. هنا تدخل القصة إطار اللامعقول. يقسم الشاهد على أن الرجل سقط على الأرض وأسلم الروح، ثم بدأ أمام عينيه يتحول إلى فهد. فهد ناضج كامل النمو. الشاهد بالطبع افترض أن هذا نمر لكننا وجدنا جثة فهد حينما ذهبنا هناك.
هناك ثلاثة أسود وجدوها ميتة قرب مدرسة أطفال، وهناك عامل يقسم على أنهم كانوا ثلاثة رجال خشني المنظر ثم سقطوا على الأرض يتألمون.. وعندما دنا منهم وجد أنهم أسود ميتة.
-«إنهم بسم الله الرحمن الرحيم .. هذا شغل جان»
القصة محيرة وغريبة. هناك أنثى فهد وجدها شاب في فراشه وهو يقسم على أنه لا يعرف كيف جاءت .. شاب عزب هو سيئ السير والسلوك، لكن لا أتخيل أنه يضاجع الفهود.
مشاجرة عنيفة نشبت بين بعض الحمالين ورجل ضخم شديد الفظاظة قرب موقف الميكروباص، ثم سقط الرجل على الأرض. والحمالون يقسمون على أنه مات.. ثم بدأ يتحول إلى وحيد قرن !!
كل هذا الكلام الفارغ يؤسفني أن أكتبه في تقريري لكني مضطر لذكره، وعلى كل حال قد طلب السيد مدير الأمن أن نلتزم الصمت تمامًا وألا يتم نشر أي شيء عن هذه الواقعة. لا يوجد سوى هراء فما جدوى نشر الهراء سوى البلبلة؟ لن نسمح بأن يبدأ السيرك الإعلامي المعتاد في كل مرة. لا توجد حيوانات هاربة الآن.. سنعتبر أن المراهقين هلكوا في حادث السيارة، وأن ضبعًا هاربًا مزق الحارس إسماعيل .
لقد حان الوقت لنغلق هذه القضية…………….
***************
داروس إي بتراناخاك. فلتتبارك..
لقد عاد الهدوء للحديقة ..
أغادر البئر التي آوي لها أنا (ناخاك) الأعظم. لقد مرت أعوام منذ تحررت من سجني عندما أزال المهندسون من الفانين تلك الأحجار التي تسد عالم الظلام الجحيمي الذي لا أعرف لي سواه مهدًا ولا بيتًا ولا قبرًا. وعندما يزحف الظلام ليتوغل بين فروع الأشجار وحشاشات العشب وتسمع صوت خطواته المكتومة فوق الكلأ النادي، فالحين حين خروجي. إنه نداء الديجور.
كعادتهم يخطئ البشر الفانون عندما يحفرون بلا روية ولا تأن ولا حكمة، غير عالمين أنهم يزيلون الغطاء عن فتحات ما كان لها أن تُفتح، وككل الأبواب الجحيمية هي عسيرة الفتح من الجانب الجحيمي، هينة الفتح من جانب البشر.
كانت الحديقة المظلمة التي تفوح فيها روائح الحيوان والكواسر وترتج بصيحاتها وزئيرها، هي المكان الأمثل لعودة ناخاك.
ناخاك الأعظم قد منح الوحوش القدرة على أن تكون بشرًا ..
ناخاك الأعظم قد فتح الأقفاص لتخرج هذه الأرواح الظامئة للحرية.
ولساعات طويلة نعمت الكواسر بالحرية وبالقدرة على الاختيار، وامتلكت عقولاً دانية من عقول البشر. وعرفت كي تحفظ سرها وتغتال من يأبى أن يحفظه.
لكنها قارفت غلطة شنعاء عندما فرت من محبسها، وراودها الطمع في حياة مستقلة حرة، وما لم تدركه تلك الوحوش هو أن ابتعادها عن ناخاك الأعظم هو ابتعاد عن ينبوع الطاقة الذي يمنحها الحياة. صحيح أنها احتفظت بصورتها الجديدة لكنها ما كانت لتظل كذلك.
لقد هلكتْ جميعًا .. وعندما هلكتْ فإنها استعادت مظهرها السابق وزالت نفحة بشريتها..
ناخاك ما زال هنا، ولديه السرمدية زاد لا ينفد. ناخاك الأعظم سيجرب الكثير من ألعاب الشر لأنها تمنحه سرورًا شيطانيًا لا يقدر عقل فان على استيعابه.
فقط عندما يعود للحديقة هدوؤها مع الهزيع الأول من الليل، ينهض ناخاك من جديد ويفتح بابًا آخر من أبواب الرعب.
فلننتظر ولنر.