الإخوة الأعداء: سر عودة الوفاق بين الإنجليز والإخوان
دلالات عدة يمكن استنتاجها من وراء تغير المزاج السياسي لحكومة بريطانيا تجاه جماعة الإخوان المسلمين، وتحولها المفاجئ للوقوف في مربع مجلس العموم البريطاني، الذي برأ الإخوان من انتهاج العنف قبل عام، وانتقد بشدة تصورات حكومة ديفيد كاميرون، رئيس الوزراء السابق، ضد الجماعة، بناء على تقرير للسير «جون جينكنز»، سفير بريطانيا السابق لدى المملكة العربية السعودية، الذي أكد أن الإخوان هي المفرخة الأم لتوليد الحركات الجهادية المتطرفة في العالم.
انقلاب في علاقات بريطانيا مع الإخوان
لم تكتف الخارجية بتضامنها مع «العموم البريطاني» في تبرئة الإخوان من تهمة التورط في العنف، ولكنها أكدت أن الجماعة تشكل «جدار حماية» في وجه التطرف، ولا ينبغي المساعدة في التنكيل بها، وطالبت بالتواصل مع أعضائها سواء كانوا في السلطة أو المعارضة، حسب تقرير للصحفي المخضرم، والخبير في شئون الشرق الأوسط «ديفيد هيرست»، بموقع «ميديل إيست آي».
ويجزم «ديفيد هيرست» أن الخارجية باتت ترى أن الأحداث التي جرت في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سببها ما أسمته «التدخل العسكري» في الأنظمة الديمقراطية، موضحا أنها باتت تعارض بشكل واضح النزاعات التي تنشأ من جراء غلق أبواب المشاركة السياسية، وتعتبرهما الأسباب الرئيسية في اتجاه بعض الجماعات الإسلامية لممارسة العنف.
وربما لأول مرة منذ أحداث 3 يوليو/ تموز 2013 وإقصاء الإخوان عن حكم مصر، تعترف وزارة الخارجية البريطانية بإجراء «تفاهمات» وليس مجرد استماع ــ مع الجماعات الإسلامية ــ وعلى رأسها الإخوان، وفتح حوار معهم حول قضايا حقوق الإنسان، وبشكل خاص حقوق المرأة والحريات الدينية، كما أنه يعد الاعتراف الأول أيضا لجهة رسمية بريطانية، وتؤكد فيه أن تواصلها مع تيارات الإسلام السياسي كان عنصرا مهما في التفاهم مع الأقطار المختلفة بالمنطقة.
حكومة كاميرون وتصدير أزمة الإخوان لـ«المملكة المتحدة»
كان «ديفيد كاميرون»، رئيس الوزاء السابق، والمقرب من الحكومات الخليجية، اعتمد في ديسمبر/ كانون 2015 على تقرير لجون جينكنز، سفير بريطانيا السابق بالسعودية، للتأكيد على أن الانضمام لجماعة الإخوان أو الارتباط أو حتى مجرد التأثر بأفكارها، يعد مؤشرا محتملا على التطرف، ما يجبر المملكة المتحدة على مراجعة الأفكار والأنشطة التى يروج لها الإخوان ومن يرتبط بهم على أراضيها، سواء كانت باللغة العربية أو الإنجليزية.
وشملت المراجعة البريطانية أنشطة وأفكار الإخوان، بالإضافة إلى إجراء بحث جوهري ومشاورات واسعة، مع ممثلين عن الإخوان في بريطانيا وخارجها، بجانب أطراف أخرى – لم يسمها وقتها – للوصول إلى استنتاجات نهائية، لما أشار إليه تقرير السفير الإنجليزي السابق بالمملكة العربية السعودية.
وتوصلت استنتاجات الحكومة البريطانية وقتها إلى أن النصوص التأسيسية لجماعة الإخوان تدعو إلى توحيد المجتمعات الإسلامية سياسيا تحت راية خلافة تطبق الشريعة الإسلامية، وأكدت أن الإخوان لا تزال حتى الآن تصف المجتمعات الغربية والمسلمين المتحررين بأنهم منحلون غير أخلاقيين.
المثير أن تقرير حكومة كاميرون لم يحظ بأي قبول داخل مجلس العموم، خاصة لجنة الشئون الخارجية، التي عملت على إصدار تقرير هي الأخرى لتفنيد ملاحظات «كاميرون»، بعد حوالي عام من الشد والجذب، واستدعاءات لم تلبها الأطراف المعنية أمام اللجنة، لتحسم أمرها برفض رؤية الحكومة البريطانية تجاه الإخوان، بل استنكرت اتهامها للجماعة بالمسئولية عن أحداث العنف الدائر في مصر، من جراء تشبعها بالتطرف الفكري والديني.
وأشارت اللجنة وقتها بشكل واضح إلى أن الحكومة الإنجليزية ربما أصدرت التقرير تأثرًا بضغوط خليجية، لتعلق بريطانيا موقفها الرسمي تجاه الإخوان، وحتى استقالة ديفيد كاميرون، إثر الموافقة على انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي، ثم جاءت حكومة «تيريزا ماري ماي» لتستند على أسس جديدة في تعاملها مع ملف الإسلام السياسي.
لماذا تغير الموقف الدولي من الجماعة؟
تورط النظام المصري في الكثير من الأخطاء، وظهر بجلاء مؤخرا من خلال التعسف مع حرية الرأي والتعبير، وإهدار حقوق الإنسان، ما جعل الموقف الدولي يتأرجح بين الموافقة والرفض على الانحياز للنظام، خلال توهج صراعه مع الإخوان في العامين الماضيين، لتتسبب التقارير السلبية المتكررة من غالبية منظمات المجتمع المدني، والانتقادات الشديدة للصحف ذائعة الصيت، في بريطانيا والولايات المتحدة وغالبية الدول الأوروبية، في مجاهرة دول كبيرة برفض إقصاء الإخوان، وإدراجها ضمن الجماعات الإرهابية، وآخر من رفض ذلك علانية كان السفير الألماني بالقاهرة، الذي أكد أن الجماعات التابعة للإخوان في ألمانيا لا تمارس العنف.
وذهب السفير الألماني إلى ما هو أبعد من ذلك، وقال خلال مؤتمر صحفي، عقد بمقر إقامته بالقاهرة، خلال زيارة المستشارة الألمانية لمصر في 3 مارس/ أذار الماضي، إنه لا توجد دولة بالاتحاد الأوروبي حتى الآن صنفت الإخوان على أنها جماعة إرهابية، موضحًا أن الحكومة الألمانية تراجع بشكل مستمر ودائم المنظمات الإسلامية، للتأكد من مدى استعدادها لاستخدام العنف، وذلك عبر التحري عنهم باجتهاد شديد من خلال السلطات المعنية.
ولم يعد هناك شك أن الدول الأوروبية لا تولي الاهتمام الكافي بحملات الضغظ الدبلوماسي والسياسي للحكومة المصرية وحلفائها، على الدول الحاضنة للجماعة، وعلى رأسها بريطانيا، لإدراج الإخوان على لائحة الجماعات الإرهابية، ويبدو أن تغيير حكومة كاميرون جاء هبة من السماء، لإعادة النظر في ملف الإخوان، بعد أن كانت الجماعة قاب قوسين أو أدنى من حظرها، لاسيما في ظل العلاقات المتميزة أو النفعية لكاميرون مع بعض دول الخليج، التي ذكرها تقرير لجنة الشئون الخارجية في مجلس العموم، وأكد دون مواربة أنها ربما مارست ضغوطا لإصدار تقرير حكومي من دولة أجنبية كبيرة، يُحمل الإخوان مسئولية الإرهاب في مصر.
وبالرغم من تغير المزاج السياسي للإدارة الأمريكية بتولي دونالد ترامب مقاليد الحكم، والإفصاح عن رؤيته في التعامل مع تيار الإسلام السياسي بشكل عام، وفي القلب منه الإخوان، فإن الغرب بات يرى بوضوح أن «الأصولية» لا تزال صاحبة شعبية كبيرة في بلدان الشرق الأوسط؛ ومن جذورها، تتولي حاليا حكومات ذات صبغة إسلامية، شئون الحكم في بعض الدول العربية والإسلامية، ما يعني أن معاداة التيار الإسلامي ربما تتسبب في اضطرابات سياسية ودبلوماسية وأمنية لا داعي لها.
كما يبدو واضحا التوقف المؤقت عن استخدام ضغوط المال السياسي الخليجي علي الدول الأوروبية، سواء بسبب الأزمات الاقتصادية التي حلّت بالكثير من البلدان الخليجية، من جراء انخفاض أسعار النفط، أو لتغير فسلفة الحكم السعودي تجاه الإخوان، منذ تولي الملك سلمان الحكم، فلا فراق أو مزيد من الضغوط، ولا مقاربة في نفس الوقت، من أجل الحفاظ على المكتسبات السياسية التي ربحتها السعودية من جراء حظر الإخوان في أكبر ثلاث دول عربية «مصر والسعودية والإمارات».
ويبدو أن الرؤية السعودية باتت محل بحث من الإمارات، فخفضت بشكل كبير من دعمها المادي لوسائل الإعلام والصحف المصرية، التي كانت تهاجم الجماعة ليل نهار، وانزوت مراكزها البحثية بشكل ملحوظ عن مهاجمة الإخوان، وربما أكثر ما يلفت الانتباه في ذلك تجاهل مركز المزماة، الناطق بلسان الحكومة الإماراتية، للإخوان، ولم يصدر تقريرا واحدا عنها منذ ثلاثة أشهر، وهو ليس بالأمر الهين للمتخصصين في شئون الجماعة، فالمركز وعلى مدى العامين الماضيين تحديدا كان يطلق مدافعه بقوة صوب الإخوان، وكانت أغلب تقاريره موجهة للهجوم على الجماعة لترمي بها إلى مسالك الجحيم.
تاريخ غامض بين الإخوان والإنجليز
يحيط الغموض بعلاقة جماعة الإخوان والإنجليز منذ نشأتها وحتى الآن، ويمكننا هنا اللجوء بعيدا عن تأويلات الاتجاهات المختلفة للصحافة والإعلام المصري، المؤيد والمعارض للجماعة، إلى شهادة الكاتب البريطاني الشهير «مارك كورتيس» الذي كشف المزيد عن علاقة بلاده بالإخوان، في صحيفة الجارديان، وأكد فيها قيام تحالف بين بريطانيا والجماعة ضد جمال عبد الناصر، تولت بموجبة تمويلها سرا.
وأكد «كورتيس» أن الإخوان كانت جزءًا من مخطط الإطاحة بـ«عبد الناصر» أثناء حرب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وهي التهمة التي ردت عليها الإخوان رسميا، من خلال موقعها الرسمي «ويكيبيديا الإخوان»، واعتبرت أنها تهمة لا يوجد عليها دليل، منذ زمن بعيد، ودللت على ذلك بتواري أعضائها خلف الأسوار خلال التاريخ المذكور بالسجون الحربية، وكل سجون مصر.
واستشهدت الإخوان، في معرض رفضها للدعاوى التي تنسب إليها التخطيط مع الإنجليز للإطاحة بعبد الناصر، تصديها لحملات التنصير في الملاجئ والمدارس، تحت رعاية إنجلترا، ما دفع المحتل وقتها إلى مطالبة حسين سري باشا، رئيس الوزراء، بإغلاق مجلتي التعارف، والمنار الناطقة بلسان بالإخوان، كما طلبت بريطانيا من الحكومة المصرية، نقل حسن البنا إلى الصعيد، وتم ذلك بالفعل في مايو/أيار 1941، كما نُقِل إلى قنا، حسب ما قاله محمد حسين هيكل، في كتابه الشهير «مذكرات في السياسة» .
وأكدت الإخوان في معرض ردها أن سفراء الإنجليز وأمريكا وفرنسا كانوا وراء إصدار النقراشي باشا قرارا بحل الجماعة، مستشهدين بوثيقة ممهورة بإمضاء الماجور «أوبريان ماجور» السكرتير السياسي للقائد العام للقوات البرية البريطانية في الشرق الأوسط، والتي أرسلها إلى رئيس إدارة المخابرات، يعلمه فيها باجتماع السفراء، واتخاذهم قرارا بحل جماعة الإخوان عن طريق السفارة البريطانية.