صحوة الأفارقة: الانسحاب الفرنسي من بوركينا فاسو
أتى إعلان جيش بوركينا فاسو إخراج الجيش الفرنسي من بلاده كأحدث مثال على تراجع نفوذ باريس التقليدي في منطقة غرب أفريقيا التي خضعت لها زمنًا طويلاً.
ونظمت هيئة أركان الجيش البوركيني حفلًا في معسكر بأطراف العاصمة واجادوجو بمشاركة قوة «سابر» العسكرية الفرنسية في 18 شباط/فبراير 2023، للإعلان رسميًا عن إنهاء عمل القوة التي تضم 400 عنصر.
أقنعة الاستعمار
كانت فرنسا من أبرز القوى الاستعمارية التي غزت القارة السمراء واستباحت شعوبها وأذاقت الملايين منهم الويلات فاستعبدتهم وارتكبت المذابح الجماعية والاعتقالات والتعذيب والاغتصاب الوحشي ونهب الممتلكات وحرق المزارع، وهدم المنازل وتشريد وتهجير السكان واستخدمت الأفارقة كفئران تجارب للأسلحة النووية وجندت أبناءهم ودفعت بهم بدلًا من مواطنيها في ساحات الحروب لتُزهق أرواحهم دفاعًا عن جلاديهم.
وبعد الحرب العالمية الثانية التي أخرجت القوى الاستعمارية من مستعمراتها القديمة، لجأت باريس في عهد الرئيس شارل ديجول إلى تأسيس علاقة استعمارية جديدة مع البلدان الأفريقية؛ فعندما عاد ديجول إلى السلطة عام 1958، ضغطت حركات التحرر والقوى الدولية على باريس لتتخلى عن مستعمراتها في أفريقيا فكلف ديجول كبير مستشاري الحكومة الفرنسية للشئون الأفريقية، جاك فوكار، بإدامة التبعية الواقعية لهذه الدول مع السماح بتحررها شكليًا وقانونيًا.
وظل فوكار في منصبه من 1960 إلى 1974، وأعيد اختياره عام 1986 في حكومة رئيس الوزراء جاك شيراك، لمدة سنتين، وعندما تولى شيراك الرئاسة عام 1995، أعاده إلى قصر الإليزيه كمستشار، وحتى وفاته عام 1997.
فالاحتلال الفرنسي استمر قبل وبعد إعلان استقلال الجمهوريات الأفريقية تحت شعار المهمة الحضارية المزعومة حيث تم فرض استخدام اللغة والثقافة الفرنسية كأداة لممارسة النفوذ والتأثير وتكريس الهيمنة لضمان استمرار وجود الفرنسيين في أفريقيا من خلال النخب المرتبطة بهم في مستعمراتهم القديمة، وكذلك تدبير الانقلابات والمؤامرات ضد الوطنيين.
ونجحت فرنسا في تعميق الولاء من جانب هذه الدول وأقامت معها علاقات اقتصادية غير متكافئة، وتم تعزيز هذا الدور من خلال المنظمة الفرانكفونية عام 1986 التي تضم 58 دولة.
وهدفت فرنسا عن طريق هذه الرابطة للحفاظ على وضعيتها كقوة عالمية مدعومة بشبكة من بلدان حليفة تدعم الموقف الفرنسي في المنظمات الدولية كالأمم المتحدة وغيرها.
وظلت القارة السمراء إحدى أبرز مناطق الاهتمام في السياسة الخارجية الفرنسية، واعتبرت الحكومات المتتالية أن الدفاع عن «الفناء الخلفي» الأفريقي إحدى ركائز السياسة الخارجية للبلاد (Emmanuel Navon, French Foreign Policy since 1945: An Introduction, Israel Journal of Foreign Affairs, 2017)، وحققت أهدافًا اقتصادية عديدة كالحصول على المواد الخام وتوفير فرص استثمار للشركات الفرنسية الكبرى.
ومع تراجع الوجود العسكري لفرنسا في أفريقيا بمرور الوقت بسبب موجة التحرر وارتفاع التكلفة تمت تصفية هذه القواعد؛ فقد كانت تملك في سنة 1960 حوالي 100 قاعدة عسكرية في القارة لكنها وصلت إلي ست فقط، فلجأت فرنسا في سنة 1993 إلى اعتماد خطة حديثة تقوم على فكرة إنشاء قوة طوارئ عسكرية تستطيع أن تتدخل في وقت قصير في كل أنحاء القارة.
فرغم انتهاء احتلال فرنسا لمعظم المستعمرات، استمر وجودها العسكري خصوصًا في غرب القارة تحت شعارات مثل محاربة الإرهاب وتدريب الجيوش المحلية؛ فالتدخل الفرنسي أخذ أشكالًا أخرى غير العمل العسكري التقليدي وفقًا لتغير الظروف.
وعلى الصعيد الاقتصادي، ظلت الدول الأفريقية المستقلة رسميًا تدور في فلك التبعية لفرنسا، فالفرنك الأفريقي ظل العملة المتداولة في عديد من هذه الدول مثل بوركينا فاسو التي تضطر لدفع أغلب الاحتياطي النقدي للخزينة الفرنسية، مما يديم علاقة التبعية لباريس ويحول دون انتهاج سياسة نقدية مستقلة، وتستخدم باريس هذه الأموال في تقوية نفوذها في المنطقة.
بوركينا فاسو تطرد الفرنسيين
رغم إعلان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون استعداده لإصلاح الفرنك الأفريقي واعترافه بخطايا بلاده لأول مرة في خطاب رفيع المستوى بأفريقيا، بجامعة واغادوغو في بوركينا فاسو في نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2017، فإن هذه الملاطفة الخطابية لم تُترجم إلى سياسات حقيقية.
وصعدت مشاعر الكراهية لفرنسا حتى بين النخبة في بوركينا فاسو ذات الأغلبية المسلمة مع تصاعد الاتهامات للقوات الفرنسية بوجود علاقة تخادم بينها وبين الجماعات الإرهابية التي تزعم محاربتها.
ومنذ وصول النظام الحالي للسلطة في واجادوجو بدا جليًا أن أيام فرنسا باتت معدودة في هذا البلد، نظرًا لقربه من الجانب الروسي ومناهضته للفرنسيين، وأعلن الرئيس البوركيني، إبراهيم تراوري، صراحة بدأ «النضال من أجل السيادة».
وقد استولى تراوري على السلطة بانقلاب عسكري في 30 سبتمبر/أيلول 2022 حيث أطاح بالرئيس المؤقت بول هنري سانداوغو داميبا الذي وصل إلى السلطة بانقلاب عسكري أيضًا في 23 يناير/كانون الثاني 2022.
وفور تنفيذ تراوري للانقلاب اتهم سلفه المخلوع، بول، بالاحتماء في قاعدة عسكرية فرنسية، ونفي بول ذلك ونفت باريس ذلك رسميًا أيضًا، لكن مئات المؤيدين لتراوري نظموا احتجاجات أمام السفارة الفرنسية، ورشقوا مركزًا ثقافيًا فرنسيًا الحجارة.
واتهم قائد الانقلاب سلفه بالفشل في التصدي للجماعات التي تسيطر على نحو 40 في المائة من البلاد، وقرر طرد القوات الفرنسية التي فشلت في تلك المهمة أيضًا؛ ففي 18 كانون الثاني/يناير، نددت واجادوجو بالاتفاق الذي منح القوات الفرنسية حق الوجود في البلاد بزعم مكافحة الإرهاب، وأمهلت القوات شهرا للمغادرة.
وألغت بوركينا فاسو اتفاق 17 ديسمبر/كانون الأول 2018 المتعلق بوضع القوات المسلحة الفرنسية، الذي نص على «فترة إشعار مسبق مدتها شهر واحد»، وبالفعل تم إعلان إنهاء الوجود الفرنسي بشكل رسمي في الشهر التالي.
أزمة النفوذ الفرنسي في أفريقيا
منذ حصول بوركينا فاسو على الاستقلال عام 1961- كانت تحمل اسم «فولتا العليا»- ظلت فرنسا تهيمن على الدولة عبر عملائها واختلقت الذرائع لإبقاء قواتها العسكرية على أراضيها.
واليوم صارت بوركينا فاسو أحدث دولة أفريقية تطرد الفرنسيين لكنها لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة؛ فاليوم يواجه النفوذ الفرنسي أزمة غير مسبوقة في أفريقيا، فخلال زيارة ماكرون الأخيرة لجمهورية الكونغو الديمقراطية سبقه السكان الغاضبون بمظاهرات واحتجاجات، وأينما حط في القارة السمراء لاحقته الانتقادات والاتهامات.
ويُنظر لما حدث ببوركينا فاسو كتكرار لنموذج دولة مالي المجاورة التي شهدت أيضًا انقلابين متتاليين عام 2020 أوصلا إلى السلطة عسكريين معادين للحضور الفرنسي أجبروا باريس على الانسحاب من أراضيهم، وإنهاء عملية القوة الفرنسية «برخان» لمحاربة الإرهاب رسميًا العام الماضي، مما أسدل الستار على حملة عسكرية امتدت لسنوات طويلة.
وتشهد الدول الأخرى بالمنطقة كالنيجر والسنغال حراكًا مضادًا للفرنسيين، فالشعوب الأفريقية خاصة في غرب القارة باتت معبأة نفسيًا ضد المحتل الذي جعلهم من أفقر الأمم في العالم رغم غنى بلادهم بالثروات.
ومؤخرًا ازداد الدور الروسي بشكل ملحوظ وشجعت موسكو الأفارقة على طرد الفرنسيين ووفرت لهم بدائل وشجعتهم بكل السبل، كما نشطت قوى أخرى كتركيا في هذا المجال وناوأت نفوذ باريس مما جعل الأخيرة في موقف ضعيف نسبيًا، فالوقت يمضي في غير صالحها، والقوى الدولية الأخرى تتمدد على حسابها وتطردها من دول القارة واحدة تلو الأخرى.