إذا أردت أن تقضي على هوية شعب فاقضِ على لغته.

بهذا المبدأ سعت فرنسا طيلة سنوات الاحتلال المريرة لجعل الجزائر مقاطعة فرنسية، اتبعت في ذلك سبلاً عديدة، فألغت التعليم بالعربية، وحرمت الكثير منه، أما القلة القليلة التي حالفها الحظ، فأُرغمت على التعلم بالفرنسية.

نجحت باريس إلى حد كبير في الحفاظ على ميراثها الثقافي إلى اليوم، واتخذت منه بوابة لها للاحتفاظ بعلاقاتها الخاصة مع مستعمراتها السابقة، لكن الحراك بالشارع الجزائري اليوم كان له رأي آخر بهذا الشأن، ففي بداية الحراك رفض الجزائريون موقف فرنسا وتصريحات مسئوليها واتهموها بدعم «المافيا» التي نهبت البلاد، والآن انطلقوا للقضاء على ميراثها الثقافي، فأعلنوا صراحة ضرورة إنهاء وصايتها الثقافية وأطلقوا حملة «اتركوها تسقط»؛ لإلغاء العمل باللغة الفرنسية داخل الجزائر، فهل سينجحون بهذا؟ وإلى أي مدى يمكن أن يصل إليه الأمر؟

لنلقِ نظرة إذن على القصة منذ البداية.


بعد الاستعمار: بوتفليقة يعيد المجد للفرنسية

إبان احتلال الجزائر، ألغت فرنسا التعليم بالعربية، ثم انتقلت إلى التضييق عليها بجميع مجالات الحياة، بما يُجبر الجميع على الفرنسية،فأتاحت فرص العمل للذين يجيدونها فقط، وجعلتها اللغة الرسمية بجميع الجهات الإدارية والإعلامية بالدولة وحتى الأماكن العامة، صارت الفرنسية لغة العمل والتواصل، وبحلول عام 1938، كانت العربية هي اللغة الأجنبية.

استمر الأمر طيلة 132 عامًا من الاحتلال، إلى أن حصلت الجزائر على استقلالها في 5 يوليو/تموز 1962، حيث كان البدء في إعادة بعث العربية من جديد، ففرض الرئيس هواري بومدين سياسات التعريب في السبعينيات، وقضى الرئيس اليمين زروال في التسعينيات بفرض العربية لغة رسمية وحيدة في البلاد، ومنع التعامل بغيرها في الإدارات والمراسلات الرسمية، ما اضطر العديد من الموظفين ممن كانت ثقافتهم فرنسية للعودة إلى مقاعد الدراسة مرة أخرى لتعلم العربية.

على الرغم من هذه الجهود، إلا أنها لم يُكتب لها الاستمرار، فبمجرد وصول الرئيس المستقيل عبد العزيز بوتفليقة للحكم عام 1999، عمل على إعادة الفرنسية من أوسع أبوابها، فألقى خطابًا بعد شهر من توليه الحكم شكّك فيه في كفاءة العربية في تعليم العلوم، واعتمد على الفرنسية في خطاباته بالمحافل الدولية، والندوات وبعض اللقاءات الصحفية مع وسائل إعلام دولية، حتى يُذكر أنه في أول زيارة رسمية لفرنسا بعد عام من توليه الحكم، ألقى خطابًا أمام البرلمان الفرنسي، وتصور البرلمانيون الفرنسيون أنه سيتحدث بالعربية، فوضعوا السماعات على آذانهم لكنهم فوجئوا أنه يخطب بالفرنسية، فابتسموا وهم يبعدون السماعات، في رسالة واضحة إلى فتح الأبواب للفرنسية على مصراعيها.

بهذا السياق، ألغى بوتفليقة قانون تعميم استعمال اللغة العربية الذي صدر أوائل التسعينيات (1991)، كما قضى على الجهات المختصة بسياسات التعريب كما هو الحال في مجمع اللغة العربية، الذي أصبح مكونًا من الرئيس فقط دون أي موظفين، ليصبح بذلك المَجمع الوحيد في العالم الذي يتكون من رئيسه فقط، دون برنامج أو نشاط أو إنتاج.

انتقلت سياسات بوتفليقة إلى الشارع، فجولة سريعة بشوارع العاصمة تبرز أزقة وأحياء تاريخية لا زالت تحتفظ بأسماء جنرالات فرنسيين، مثل «كلوزيل» الذي أُطلق اسمه على أزقة وسوق مغطى، وهو جنرال فرنسي أبدع في تعذيب الجزائريين آنذاك، و«لافيجري» الذي أُطلق على أكبر أحياء المحمدية، هذا فضلاً عن اللافتات بالأماكن العامة والمحلات التجارية ومحطات المترو المكتوبة بالفرنسية، والتي بموجبها إن كنت لا تجيد الفرنسية فعلى الأغلب لن تصل إلى وجهتك.

بالطبع لم يكن التعليم بمنأى عن تلك السياسات، فأصبحت الفرنسية لغة التعليم منذ الابتدائية، واللغة المعتمدة بالتخصصات العلمية بالجامعات مثل الطب والهندسة المدنية والمعمارية والبيطرة والميكانيكا، بدلاً من الإنجليزية. وجاء القرار الأكثر إثارة للجدل مع اعتلاء «نورية بن غبريط» منصب وزيرة التربية، إذ سعت لاستبدال العامية محل العربية الفصحى، تحت مبرر أن الأطفال في بدايات تعليمهم يجدون صعوبة في فهم الفصحى.

أثارت تلك الوزيرة جدلاً واسعًا كاد أن يتحول إلى أزمة في البلاد بين المعارضين للقرار والمدافعين عنه من التيار الفرنكفوني الذي تنتمي إليه، والذي يسعى لتكريس الفرنسية على حساب العربية، وتفاقم الوضع بعد استعانتها بباحثين وخبراء فرنسيين لصياغة الإصلاحات التربوية، ما دفع إلى إعلان إضراب عام شلّ المؤسسات التربوية، واتهمت حينها الطبقة السياسية والنقابات التعليمية الوزيرة بخيانة هوية الأمة، في محاولتها فرنسة المدرسة الجزائرية.


اتركوها تسقط: آخر الحملات ضد الفرنسية

لم تتوقف الاتهامات عند هذا الحد، إذ فتح الحراك المستمر منذ 22 فبراير/شباط الماضي، المجال مرة أخرى للمطالبة بإسقاط المناهج التي جاءت بها الوزيرة السابقة، وطالب المحتجون بـ «التغيير الجذري»، والاستقلال الثقافي عن فرنسا واستبدال اللغة الفرنسية بالإنجليزية.

وخرجت من رحم هذا الحراك أيضًا حملة «اتركوها تسقط»، التي دعت لمقاطعة الفرنسية بكل المجالات، خاصة بعد بعض المبادرات من الجهات الرسمية كوزارة الدفاع التي استبدلت لافتاتها إلى اللغة الإنجليزية، ووقف مجمع «سوناطراك» البترولي الحكومي، التعامل بالفرنسية، وقرار مؤسسة «بريد الجزائر» بإلغاء استعمال الفرنسية في الوثائق الرسمية وتعويضها بوثائق بالعربية.

ولم تكن هذه المرة الأولى التي تنطلق بها مثل هذه الحملات، إذ سبقتها حملات سابقة في 2016، حيث انطلقت حملة #الفرنسية_ليست_رمز_التقدم، التي انتقدت حضور اللغة الفرنسية وطالبت باستبدال اللغتين الرسميتين في الجزائر، أي العربية والأمازيغية، بالفرنسية، أو التوجه نحو الإنجليزية كلغة أجنبية أولى.

وفي عام 2017،انطلقت حملة أخرى تحمل شعار لا للغة الفرنسية في الوثائق الرسمية للدولة، والتي على إثرها أصدر رئيس أركان الجيش الفريق أحمد صالح قايد تعليمات تقضي بمنع استخدام الفرنسية في تحرير الوثائق في وزارة الدفاع، وإزالة كل اللافتات المحررة بالفرنسية من على واجهات الثكنات العسكرية وتعويضها باللغة العربية.

وإلى جانب هذه الحملات تم إنشاء العديد من الصفحات على «فيسبوك» حملت عناوين رافضة للفرنسية من قبيل «الشعب يريد الإنجليزية لغة أجنبية أولى في الجزائر»، «الشعب الجزائري يريد اللغة الإنجليزية كلغة ثانية بدل الفرنسية»، «أعداء اللغة الفرنسية في الجزائر» ، وغيرها الكثير من الصفحات التي عملت على إيضاح فظائع الاحتلال وطالبت بالتخلص من إرثه الثقافي.

وبالفعل نجحت هذه الحملات إلى حد كبير في خروج الرفض الشعبي لتوغل الفرنسية إلى العلن، كما كان لها بعض النتائج الإيجابية المباشرة، إذ أطلقت وزارة التعليم العالي الجزائرية في الـ 5 من يوليو/تموز الجاري استفتاءً إلكترونيًا لاستبدال لغة التدريس والمناهج الجامعية من الفرنسية إلى الإنجليزية، في سابقة هي الأولى من نوعها.


الفرنسية ترجع إلى الخلف

عوامل عديدة وقفت وراء النجاح النسبي الذي حققته تلك الحملات وغيرها، لعل أبرزها عدم توغل الفرنسية بجميع الأرجاء الجزائرية، فما زال الجنوب الجزائري يحتفظ بلغته العربية، وإذا كان وضع العربية متأزمًا جدًا في العاصمة والمدن الكبرى حولها، وقليل من يستخدمونها في تواصلهم وتفاعلهم مع الآخرين، فإنه أقل تأزمًا في الولايات الداخلية.

فعلى عكس الشائع، لا يتكلم الجزائريون جميعًا الفرنسية بطلاقة، ولكن الأمر يرتبط بطبيعة المنطقة، فالمناطق التي تنتشر فيها العربية بشكل كبير، هي المناطق الصحراوية وولايات الجنوب، مثل «ورقلة وتمنراست»، حيث يتكلم الناس لغة عربية سليمة ولهجة جزائرية مفهومة تقترب كثيرًا من العربية بشكل شبه كامل، ويكاد يكون استخدامهم الفرنسية شبه منعدم، مقارنة بالمدن الكبرى في الشمال.

وطبقًا للتقرير الدوري لمرصد اللغة الفرنسية التابع للمنظمة الدولية للفرنكوفونية، فنسبة الجزائريين الذين يتحدثون الفرنسية في حياتهم اليومية تبلغ نحو 33%، وهي أقل على أية حال من تونس التي وصلت النسبة بها إلى 52% أو المغرب التي بلغت بها نحو 35%.

وبشكل عام فانحسار الفرنسية لم يكن بالداخل الجزائري أو المغربي فقط، بل هو انحسار عالمي مقارنة باللغات الأخرى التي أخذت مساحاتٍ أوسع وفي مقدمتها الإنجليزية، ففي الداخل الفرنسي ذاته انطلقت الدعوات لتعلم الإنجليزية على لسان مسئولين سياسيين في مقدمتهم رئيس الوزراء الفرنسي «إدوارد فيليب»، حيث دعا -في تغريدة نشرها على تويتر- التلاميذ الفرنسيين إلى تعلم اللغة الإنجليزية، مؤكدًا أن باريس ستمول كل طالب فرنسي يريد اجتياز امتحانات اللغة الإنجليزية التي تعترف بها إنجلترا وأمريكا وكل دول العالم.

التصريح الفرنسي هذا وإن دلّ على شيء، فإنما يدل على تراجع الفرنسية في لغة البحث والتواصل العالمي وسوق العمل أيضًا، وهو أمر صحيح إلى حد كبير، فالفرنسية تأتي في المرتبة الـ 9 عالميًا، بعد الإنجليزية التي تحتل المرتبة الأولى، والصينية (المرتبة الثانية)، والهندية (المرتبة الثالثة)، وكذلك العربية التي تحتل المرتبة الرابعة عالميًا.


الحراك الشعبي والفرنسية: تحديات على الطريق

بالرغم من هذا التراجع، فإن إلغاء الفرنسية رسميًا بالداخل الجزائري أمر يعوقه عدد من العوامل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. فعلى الجانب الاقتصادي، ما زالت الفرنسية لغة العمل، فالهيئات والمؤسسات الاقتصادية التي تعطي رواتب معتدلة لموظفيها تشترط إتقان الفرنسية، حتى أنك إذا سألت جزائريًا حول تعلم الفرنسية أو عدم إتقان العربية تجد لسان حاله يقول «العربية ما توكلش خبز» فلا يمكن الحصول على وظيفة باللغة العربية.

وعلى الجانب الاجتماعي، ليست جميع الشرائح بالجزائر رافضة للفرنسية، فهناك الكثير من مؤيديها الذين يرون أنها ليست رمزًا للتقدم، لكنها أيضًا ليست رمزًا للتخلف، فهم يعتبرون أنه من الخطأ تشجيع شعب على العزوف عن تعلم أي لغة، ويشجعون على تغيير الأولويات بدلاً من استئصال الفرنسية.

وأخيرًا، على الجانب السياسي، ما زال الأمر يحتاج إلى سلطة سياسية حاسمة، لا تربطها مصالح وعلاقات متشابكة مع فرنسا تجعلها تبقى على الإرث الفرنسي لتحقيق مصالحها الشخصية، فالمشكلة التي وقعت بها الجزائر بحقبة بوتفليقة هي ارتباط المسئولين السياسيين بباريس، ما دفعهم تلقائيًا إلى الحفاظ على إرثها ولغتها حتى اليوم.

ولعل ما يدعم هذا ما كشفته وزارة الداخلية الفرنسية من حصول أكثر من 50 ألف شخصية جزائرية -كان لها نفوذ سياسي واقتصادي بعهد بوتفليقة- على الجنسية الفرنسية، الذين هربوا بموجبها إلى باريس مع اندلاع الاحتجاجات. فبينما كان هؤلاء ينتقدون ظاهريًا فرنسا، إذا بهم يُسارعون للحصول على جنسيتها، استعدادًا لأي خطر قد يهددهم، والآن يُهرّبون الأموال ويستثمرونها لصالح فرنسا.