جزيرة غويانا: منطلق تلسكوب جيمس ويب وأكثر سجون فرنسا رعبًا
سنوات من العمل تكللت بإطلاق تلسكوب جيمس ويب الفضائي، وآتت تلك السنوات ثمارها حين وصل للبشر أول صور التقطها التلسكوب العملاق لمجرّات تشكلت قبل 13 مليار عام من لحظة تصويرها. لمحة هائلة عن ماضي الأرض يهديها لنا التلسكوب.
لكن مكان انطلاق التلسكوب يعطينا لمحة هائلة أخرى عن ماضي الإنسان، وبخاصة السيد الفرنسي الأبيض. فقد انطلق الصاروخ آريان 5، الذي حمل التلسكوب جيمس ويب، من محطة الفضاء الأوروبية في غويانا الفرنسية.
مياه نقية كالكريستال. هواء يمنحك السكينة مثلما تفعل يد طفل حديث الولادة تقبض على أصابعك. الأشجار تملك لونًا أخضر كأنما هبطت من الجنةِ لتوّها. آلاف الجثث تحيط بك رماها التيّار بعد أن فرغت أسماك القرش من أكلها. ومئات البشر ذوي اللون الأسود يمزق السوط الفرنسي جلدهم يحثهم على العمل لبناء مستعمرة أو تمهيد طريق للسيد الفرنسي. حتى عُرفت بالمقصلة الجافة، فوجودك فيها حكم بالإعدام، لكن من دون قطع رأسك.
بعد أن كانت جزيرة غويانا، المكونة من 3 جزر متجاورة، مكانًا لقصادي الاسترخاء والاستشفاء، صارت جزيرة الموت والشيطان. ما دمت وصلت إليها فستموت. إما من الجوع أو الأمراض الاستوائية أو المعاملة الوحشية.
تسع محاولات للحياة
لكن هنري تشايير قرر أن يموت وهو يحاول الهرب. فبمجرد دخوله للجزيرة عام 1931، بعد أن حُكم عليه بالسجن مدى الحياة في غويانا الفرنسية، بدأ بالتخطيط للهرب.
بعد 3 سنوات نجحت محاولته الأولى، وابتعد الرجل عن الجزيرة لمسافة كبيرة. صعوبة الفرار من غويانا تأتي من كون الجزيرة بالكامل عبارة عن صخرة واحدة مساحتها 35 فدانًا، وترتفع 19 مترًا فوق سطح البحر. لكن السلطات الفرنسية أعادته، وحكمت عليه بعامين كاملين في السجن الانفرادي، لا شمس ولا هواء، ولا مساحة كافية ليتمدد.
حاول تشاريير الهرب بعد العامين، لكنه فشل. واستمر في المحاولات مرة بعد الأخرى، حتى بلغت محاولاته ثمانية. الثامنة هي الناجحة، فركب على طوفِ بناه من ثمار جوز الهند، وأسلم نفسه للتيار. ألقاه التيار على ضفاف فنزويلا. استقر هناك وأنشأ عائلته، وألف روايته التي تحكي ما حدث له هناك تحت اسم بابليون، للرواية اسم مشهور آخر، الفراشة. عام 1970 أصدرت الحكومة الفرنسية عفوًا عن تشاريير.
بعد 3 سنوات أنتجت هوليود فيلمًا بنفس العنوان يحكي القصة بطول ستيف ماكوين وداستن هوفمان. القصة شديدة الإغراء للعقل الإنتاجي في هوليود، لهذا تم إنتاج فيلم آخر يحمل نفس الاسم عام 2017، بطولة تشارلي هونام ورامي مالك.
جزيرة الشيطان والذهب
غويانا تقع على الساحل الشمالي لأمريكا الجنوبية. لها حدود مع البرازيل وسورينام. مساحتها الإجمالية لا تتعدى 84 ألف كيلومتر، وكثافتها السكانية قليلة. يسكنها 270 ألف فرد يتركزون في العاصمة كاين، أو في كورو حيث مركز الأبحاث الفضائية.
حين اكتشف كولومبوس ساحل غويانا عام 1484 بدأت الأطماع الفرنسية فيها. وجعلتها فرنسا مستعمرة تابعةً لها. استمر الأمر قرابة 100 عام، إذ تنازلت عنها فرنسا للبرتغال. التنازل جاء جراء معاهدة توردسيلاش التي اقتسمت البرتغال وإسبانيا بموجبها أراضي أمريكا الجنوبية. واعتبرت البرتغال أن وجود مستعمرة فرنسية في تلك الأراضي أمر غير شرعي، لهذا طالبت بها وحصلت عليها.
بالطبع حين انهارت الإمبراطورية البرتغالية في القرن السابع عشر عاد الفرنسيون لها. أنشأوا فيها العديد من المزارع والمستعمرات، لكنهم عانوا العديد من ويلّات الهجمات التي قادها ونفذها السكان الأصليون الجزيرة الذين رفضوا هذا الاحتلال. خرج منها الفرنسيون، لتقع في يد الهولنديين. ثم طُرد الهولنديون ليحتلها البريطانيون. واستمرت غويانا ككرة التنس، تارة في قبضة هولندا، وتارة أخرى في قبضة بريطانيا.
لكن معاهدة بريدا عام 1667 أعادت جميع تلك الأراضي لفرنسا. ثم وفق معاهدة باريس عام 1763 تم انتزاع كافة المستعمرات الفرنسية من فرنسا، عدا غويانا وبضع جزر أخرى. وبناءً على ذلك أرسل الملك لويس 10 آلاف فرد ليسكنوا غويانا، وليبدأو في جمع الذهب. تمسك الفرنسيين بغويانا تحديدًا يأتي من اقتناعهم أنها مليئة بالذهب.
بعد أعوام في غويانا أدرك الفرنسيون أنه لا وجود للذهب في غويانا. لا شيء سوى المناخ شديد الحرارة، والأمراض الاستوائية، والسكان الأصليون الغاضبون. تآزر الثلاثة على إبادة تلك الآلاف التي توافدت من فرنسا، ولم ينج منهم سوى مئات معددوة. فرّت تلك المئات لجزر قريبة من غويانا، أطلقوا عليها جزر الخلاص، ولاحقًا سافروا إلى فرنسا مرة أخرى.
تلك الضربة القاصمة أقنعت الفرنسيين أنهم لن يستطيعوا السكن في غويانا. لكن بدلًا من الانسحاب وترك البلد لأهله، قرر الفرنسيون أن يُغيّروا من طبيعة البشر الذين يرسلونهم إليها. فبدلًا من الفرنسيين قرروا إرسال العبيد لبناء المستوطنات، ومحاربة السكان الأصليين، وتعبيد الطرق تمهيدًا لسُكنى الإنسان الفرنسي. وكنتيجة لذلك تحولت السنغال وكوت ديفوار وبنين إلى مراكز لتجارة العبيد.
فرنسا تُنعش تجارة العبيد
وبمباركة الملك لويس الرابع عشر نشطت تجارة الرقيق الوافدين لغويانا. فكان يمنح التاجر 13 جنيهًا على كل عبد يأتي للجزيرة. وأصدر مرسومًا بحرمان العبيد من كافة حقوقهم القانونية، ومعاملتهم كممتلكات منقولة، يمكن للسيد بيعها أو استبدالها كما يشاء. وفي الطريق لغويانا كان العبيد يُحشرون في سفن تحمل الواحدة منهم قرابة ألف فرد. يموت ربعهم غالبًا من قسوة النقل والزحام والعطش، والقتل أثناء محاولات التمرد.
سواعد العبيد التي ألهبها السوط الفرنسي جعلت غويانا مستعمرة مرموقة في أمريكا اللاتينية. لكن ظلت ظروفها المناخية القاسية طاردة للفرنسيين، فقرروا جعلها مستعمرة عقابية. فاعتاد الفرنسيون على أن يرسلوا إليها المعارضين السياسيين، والمدانيين بالأشغال الشاقة. فقد قرر نابليون الثالث، عام 1852، إرسال عدد معين من المُدانين سنويًا إلى غويانا. بسبب التناقص المستمر في أعداد العبيد بفعل الموت من الظروف القاسية والمعاملة الوحشية.
واستطاع الفرنسيون في الوقت نفسه جعل الجزر المجاورة لغويانا، والتي عُرفت بجزر الخلاص سابقًا، معسكرات سجن انفرادية. وبالطبع حولوا غويانا إلى جزيرة بشعة عُرفت في الأوساط المحلية، والعالمية لاحقًا، باسم جزيرة الشيطان. وكانت السلطات الفرنسية تجعل السفر من غويانا إلى فرنسا أمرًا شديد الصعوبة وباهظ التكلفة حتى تضطر السجناء الذين قضوا فترة عقوبتهم للبقاء في غويانا لعدم قدرتهم على تحمل تكاليف السفر.
تناقص عدد الموجودين على الجزيرة بفعل الموت، فبدأت فرنسا تزيد في عدد من ترسلهم إليها. فمثلًا عام 1885 أصدر البرلمان الفرنسي قانونًا ينص على أن من يُدان بأكثر من 3 عقوبات تزيد عقوبتهم على 3 شهور فيجب نبذه إلى غويانا. هدف القانون هو التخلص من المجرمين القابعين في السجون في فرنسا، بجانب زيادة الوجود الفرنسي على الجزيرة.
المسجون والسجّان منسيّان
لهذا كان هؤلاء المنبوذون تحديدًا يقضون فترة سجن عادية بشكل آدمي، ثم يُطلق سراحهم ليصبحوا مواطنين عاديين في غويانا. بموجب ذلك القانون تم ترحيل 70 ألف فرد حتى عام1939 . ومن غير المضافيين للأعداد موظفي السجون، رغم أنهم نظريًا أبناء النظام الفرنسي ويتقاضون راتبًا، لكن الواقع كان أنه يتم نسيانهم بمجرد إرسالهم إليها. ويُتركون ليموتوا بفعل الأمراض والمناخ الحار.
لم يعد معظمهم إلا بعد إغلاق معسكرات وسجون غويانا في عام 1945. وكانت الحكومة الفرنسية قد توقفت عن إرسال سجناء إلى الجزيرة منذ عام 1938، بعد أن وصل إجمالي المسجونين فيها إلى 80 ألفًا. وحال اندلاع الحرب العالمية الثانية دون التفكير في إغلاقها بالكامل، وبدأ إرسال عدد من السجناء مرة أخرى عام 1946، رغم أنه تم الإعلان عام 1945 أنها أُغلقت. آخر معتقل في تلك الجزيرة رحل عنها فعليًا عام 1953.
كل من سُجنوا على تلك الجزيرة لهم قصص تستحق أن تُروى لكن بعض القصص وصلت إلينا، والبعض الآخر لم يصل. من الأسماء التي وصلت إليها ألفيس دريفوس. ففي عام 1894 أدانت الحكومة ضابط الجيش ألفيس بالخيانة. فتم تمزيق ملابسه ونزع أوسمته في محفل علني، وساروا به هاتفين الموت ليهوذا، الموت لليهودي. يهودية دريفوس كانت هي سبب إدانته، فكل من لم يكن يقتنع الكاثوليكية في تلك الحقبة الزمنية صار خائنًا.
كان دريفوس من الأسماء التي نقلت للعالم معاناة ساكني جزيرة الشيطان، كون سجنه استمر 4 سنوات، لكن كانت الأصوات الغاضبة المطالبة بعودته ترتفع. حتى إن الكاتب إيميل زولا اتهم الحكومة الفرنسية بتدليس التهمة. فاضطرت الحكومة لإعادته ومنحه البراءة. نقل دريفوس للفرنسيين ويلات الجزيرة التي لم تستطع الحكومة أن تخفيها خصوصًا بعد رواية بابليون أو الفراشة.
وفتحت الجزيرة حاليًا أمام الزوار والسياح، لكن ظلّت آثار السجون الفرنسية حاضرة شاهدة على سنوات العذاب والعبودية التي عاشها أكثر من 80 ألف إنسان.