الانتخابات الفرنسية: استمرار ماكرون أم فوز مؤجل للوبان؟
حسمت نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الفرنسية مساء أمس، حيث تصدر الرئيس المنتهية ولايته إيمانويل ماكرون النتائج بنسبة 27.84%، تليه المرشحة التاريخية مارين لوبان بنسبة 23.15%، متفوقين على منافسيهم العشرة، وأهمهم البرلماني اليساري جون لوك ميلانشون الذي حصد 21.95%، ومرشّح اليمين المتطرف إيريك زيمور الحاصل على 7.07% فقط من الأصوات.
تنقسم الآراء بين تنبؤات بحدوث قلاقل اجتماعية شبيهة بما حدث عام 2019 خلال احتجاجات السترات الصفراء، في حال فوز ماكرون الذي استطاع احتواء الأزمة خلال ولايته الأولى.
خريطة التحالفات السياسية
سيواجه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون منافسته مارين لوبان في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية في البلاد، في إطار مباراة الإعادة كما حدث في عام 2017. أيضًا تميزت الجولة الأولى من انتخابات 2022 باللا مبالاة بين الناخبين، حيث قدرت المشاركة بنسبة 73.3%، وفقًا لتحليل أجراه استطلاع Ifop-Fiducial للمذيعين الفرنسيين TF1 و LCI- وهو أدنى مستوى في الجولة الأولى منذ 20 عامًا.
رغم حصوله على غالبيّة الأصوات، لا يمكن إنكار تراجع شعبية الرئيس بشكل كبير التي تسببت فيها سياساته النيوليبرالية خلال ولايته الأولى. وخلال كلمة ألقاها بعد إغلاق مراكز الاقتراع وإعلان النتائج، حثّ الرئيس أنصاره وكل الفرنسيين على التصويت له في الجولة الثانية، متظاهرًا بأنه لم تتم تسويّة أي شيء، معتبرًا أنّ المناقشات السياسية الجارية حتى الجولة الثانية، حاسمة في مستقبل البلاد، بل ولكامل أوروبا، محذرًا من انتخاب اليمين المتطرف الذين يطلق عليهم «الشعبويون» الكارهون للأجانب، بينما يريد الرئيس فرنسا مخلصة للإنسانية، حاملة لروح التنوير.
بالنظر لنسب المرشحين يمكن قراءة التحالفات والاتجاهات التي تسير فرنسا نحوها بخطى متسارعة ومحبطة في الوقت ذاته.
ثمّ انهيار كبير في القاعدة الانتخابية للأحزاب التقليدية المشتغلة بالسياسية منذ عقود، توضحها نسبة أحزاب اليمين التقليدي التي حصلت على نسبة أقل من 5% من أصوات الناخبين، وكذلك الحزب الاشتراكي ونسبته الهزيله 1.7%، فيما وصلت أرقام رموز اليمين المتطرف مجتمعة إلى 30.2% عن زيمور ولو بان، كان من الممكن جدًا أن يدخل السياسي المخضرم ميلانشون إلى السباق النهائي، لكن رفض الحزب الشيوعي دعمه، وتقديم مرشح لم يحصل إلّا على نسبة 5% من الأصوات ما أضعف الفرصة القريبة للغاية.
على الصعيد «اليساري»، دعا الحزب الاشتراكي والحزب الشيوعي وحزب الخضر إلى انتخاب ماكرون في مواجهة صعود اليمين المتطرف خاصة بعد سطوع نجم إيريك زيمور اليميني المغرق في تطرفه ضد كل ما هو غير فرنسي، على الرغم من أنّه مهاجر يهودي جزائري. عكست دعوة هذه الأحزاب الهشاشة السياسية للأحزاب الفرنسية، الذين فضّلوا دعم رئيس يعتبره الكثير من الفرنسيين غير شرعي، ومنحه دعمًا غير مستند لبرنامج يتماشى مع الأهداف الاجتماعية لتلك الأحزاب، غاضّين الطرف عن برنامج مرشح اليسار ميلانشون، المتوافق بشكل كبير مع برامجهم الحزبية.
في المقابل، حثّ مرشحا اليمين المتطرف إيريك زيمور وديبان إينان، المستبعدان بعد الجولة الأولى أنصارهما، على التصويت لصالح مارين لوبان في الجولة الثانية، معلنين عن دعمهما لها في مواجهة ماكرون.
الإغراق في النيوليبرالية
يعيد فوز ماكرون في الجولة الأولى المخاوف الاقتصادية لدى شريحة عريضة من المجتمع تضررت من سياساته الاقتصادية، وفي نفس الوقت أملًا لكبار الرأسماليين المنتفعين من سياساته في تحقيق المزيد من المنافع. على الرغم من أنّ بعض الإجراءات التي اتخذها الرئيس خلال أزمة كورونا، جملّت صورته أمام بعض القوى السياسية، فإنّها لم ترقَ إلى ما قدمّه ماكرون لأصحاب رؤوس الأموال عبر خمس سنوات بداية من إصلاح قانون ISF الذي يهدف لتقديم 4 مليارات يورو لأغنى 1% من المجتمع المالكين لأكثر من 25% من الثروة، وكذلك خفض الضريبة على الدخل المالي وتخفيض ضرائب الشركات، ما يوازي 50 مليار يورو تخفيضات بحق الأغنياء، بينما لم تتجاوز خطة دعمه لمتضرري وباء كورونا 0.8% من خطة الدعم الحكومي بحسب المفكر الاقتصادي توماس بورشي.
يبرر البعض من مؤيدي الرئيس أنّ توقفه عن الإغراق في سياساته النيوليبرالية خلال فترة كورونا، ينفي ما يروجه معارضوه بأنّه يريد سلب الطبقات الأفقر مكتسباتها الاجتماعية، لكن هذا لا يعكس سوى أنّه ليبرالي براغماتي بحسب بورشيه، يعرف كيف يلتف على الأزمات ويديرها لصالحه، كما حدث مع أزمة الحرب الأوكرانية الروسية الأخيرة، التي منحته قبلة حياة سياسية جديدة، حيث أعاد تقديم نفسه من خلالها كرجل دولة وديبلوماسي يستطيع إدارة تأثيرات الأزمة في بلاده كما تظاهر خلال أزمة الوباء عام 2020.
القول بأّنّ التمهل في السياسات النيوليبرالية لماكرون ليس ادعاءً باطلًا، فقد أعلن بنفسه، أنّ تطبيق إصلاحات قانون التأمين ضد البطالة وقانون المعاشات وكذلك التأمين الصحي، سيتم بعد الانتخابات، وكلها إجراءات توقفّت بفعل التظاهرات المستمرة في الشارع الفرنسي، والأزمة الناجمة عن فيروس كورونا، وقد علقها خوفًا من الإطاحة به، التي كانت قاب قوسين أو أدنى على خلفية احتجاجات السترات الصفراء عام 2019، ورغم سعي ماكرون ليصبح أول رئيس يُعاد انتخابه مرتين بعد «جاك شيراك» عام 2002، غير أنّ كل التوقعات تعكس أن فوزه كارثة اقتصادية واجتماعية ستؤجج الصراع الطبقي في فرنسا، وتُعلي من رصيد اليمين المتطرف وتعليق أزمات البلاد على المهاجرين الذين يدفعون بدورهم الثمن الأكبر للانهيار الاجتماعي والاقتصادي الذي تمضي نحوه فرنسا منذ عقود.
انفجار اجتماعي وشيك
المفترض نظريًا أن يؤدي الجنوح الرسمي إلى السياسات النيوليبرالية في فرنسا إلى النظر يسارًا، وتوفير بيئة خصبة لليسار الفرنسي بما له من تاريخ وجذور اجتماعية قوية في البلاد، للعمل والتنظيم الجيد لمواجهة هذا القطار الرأسمالي الجامح، لكن للأسف لم يحدث هذا، بل يحدث عكسه، أن تتفتت أصوات اليسار، وتتفرق بين مرشحين من تيارات مختلفة، لم تجلب سوى سخرية الشارع الفرنسي واليمين المتطرف الآخذ نجمه في الصعود.
لا يمكن الاستهانة بالنسبة التي حصدها ميلانشون هذه المرّة، واستخدامها لصالح الحشد للانتخابات البرلمانية خلال يونيو المقبل، كحالة استعداد لمواجهة السياسات القادمة لماكرون والتي لا تخفى على أحد. على صعيد الحشد دعت مارين لوبان الجماهير للتصويت لها في الجولة القادمة لمواجهة سياسات ماكرون المرفوضة بحق الجمهورية، بينما حذر ميلانشون أتباعه من انتخاب لوبان، بينما لم يتحدث عن ماكرون ما يعني ضمنيًا ذهاب أنصاره إلى انتخاب ماكرون، كما سيذهب أنصار الأحزاب اليسارية الأخرى لمواجهة اليمين المتطرف.
عندما أعلن ماكرون قبيل وقوع أزمة فيروس كورونا عن إصلاحات في قوانين المعاشات وبدل البطالة والتأمين الصحي، دعت القوى السياسية إلى تظاهرات عمّت البلاد لم تواجه بنفس القدر من العنف الذي حدث مع السترات الصفراء، لكنها أرجأت القرار النهائي قليلًا، سيتم تمريره حتمًا بعد الفوز المحتمل، في نفس الوقت يؤكد توقعات المحللين بحدوث انفجار اجتماعي حتمي ضد الانقضاض على ما تبقى من فتات دولة الرفاه من قبل الرئيس، ونتوقع نحن أن مواجهة ماكرون يمكن أن تبدأ ليلة تنصيبه رئيسًا، حيث لن ينتظر الفرنسيون أكثر، لسلب ما تبقى من حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية، أمام رئيس تلقبه بعض القوى بـ«صبي المصارف».