تحت ظلال المدافع: الحملة الفرنسية وأساطير التنوير
تبنت جمهرة غفيرة من المؤرخين الفرنسيين والمثقفين الحداثيين في مصر، حدث دخول الجيش الفرنسي إلى الإسكندرية عام 1798، كنقطة بداية لتاريخ مصر الحديث والمعاصر، الذي بدأ على إثر صدمة الحداثة وانبهارا المصريين بنابليون بونابرت ومدافعه وجيشه الحديث؛ الذي كان مصدر إلهام محمد على باشا، الذي انطلق بدوره كما يذهب هؤلاء بتأثير من الثقافة والتنوير الفرانكفوني ليؤسس مصر الحديثة خلال القرن التاسع عشر.
في ظل الحضور الفرنسي المتنامي اليوم في المشهد الإقليمي، على نحو بلغ دعوة بعض المثقفين والجماهير اللبنانيين لعودة الانتداب الفرنسي لبلادهم مرة أخرى. نطرح التساؤل مرة أخرى عن حقيقة الإيجابيات المنسوبة للاستعمار الفرنسي في العالم العربي.
فهل ما قاله هؤلاء المؤرخون الفرنسيون وبعض المثقفين العرب، عن أنه لولا تلك الحملة لما تطورت البلاد ودخلت العصر الحديث، صحيح؟
تفند تلك المزاعم أستاذة الأدب والحضارة الفرنسية بجامعة الأزهر د. ليلي عنان، في كتابها «الحملة الفرنسية: تنوير أم تزوير؟» المكون من جزئين، والصادر عن دار الهلال في القاهرة عام 1998، من خلال الرجوع إلى سيل من المطبوعات والمراجع التي اختارت أن تكون فرنسية فقط، دون رجوع للمصادر العربية إلا للضرورة القصوى، حتى لا يكون هناك شك في موضوعية نتائج دراستها، كونها صادرة من خالقي تلك «الأسطورة» وأول المدافعين عنها بحسب تعبيرها.
فعلى أي أسس استندت تلك «الأسطورة» لدى الأدباء والمؤرخين الفرنسيين الكلاسيكيين؟ وعلى أي ركائز في المقابل تستند عنان في أطروحتها النقدية للتنوير والتحديث الفرنسي المزعوم لمصر؟
تفكيك الأسطورة
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، شب جيل جديد من الفرنسيين مختلف عن أسلافهم الذين عاشوا الحربين العالمية الأولى والثانية. تكونت خلفية الجيل القديم معرفيًا وثقافيًا في كنف مبادئ وأفكار الجمهورية الثالثة وأساطيرها المبهرة التي تغنت بالأمجاد الاستعمارية. في المقابل، عاصر الجيل الجديد تقلص الهيمنة الفرنسية بعد نهاية الحرب، فبدأ يمحص الروايات التاريخية السائدة، ويقدم تأريخه الخاص الجديد، الذي تخلى عن التهويمات النرجسية الشوفينية الكاذبة لأسلافهم.
من أبرز الأساطير التي فككها ما عرف في فرنسا بـ «المؤرخون الجدد»، كانت هي الحملة الفرنسية على مصر، التي صورت في أذهان الفرنسيين والطلاب المصريين في المدارس الفرنسية، وكأنها بعثة علمية ثقافية لمصر، وليست كحملة عسكرية غاشمة، شابتها القسوة والعنف الدموي كأي غزو استعماري.
كانت كتابات المؤرخ الفرنسي «فرانسو فوريه» في هذا السياق، وهو المؤرخ الأبرز في تلك المدرسة الجديدة كما تقول عنان، بمثابة « قنبلة نسفت معبدًا كان اليساريون والجمهوريون يتعبدون فيه».
في كتاب الثورة الفرنسية الذي ألفه فوريه بالمشاركة مع المؤرخ «ديني ريشيه»، يذكرنا الكتاب بأن أحد أسباب قيام الحملة هو التقارير التي قدمت للإدارة الفرنسية، كانت تؤكد أن المصريين سيتقبلون الفرنسيين بفرح بالغ، ويجزم الكاتبان أن بونابرت كان في حاجة إلى نصر باهر في الشرق، يزيد من فرصة استيلائه على السلطة في فرنسا.
ينتقد الكاتبان قضية «تمجيد سياسات بونابرت في مصر» لدى المؤرخين الفرنسيين، وتحولها إلى مسلمة لا تناقش لزمن طويل، ويقولان إن بونابرت الذي طالما تحدث هؤلاء عنه كخالق لمصر الحديثة، لم تدم بصمته في مصر من ناحية، ومن ناحية أخرى لم تكن سياساته هناك إلا إجابة تقليدية لمشاكل أزلية، كان رد الفعل عليها من جموع المصريين، هو الثورة في كل مكان، ولم يكن للحملة تأثير على مستقبل مصر، لكنه فقط أثر بعمق على جيل المهندسين «السان سيمونيين».
في السياق ذاته وصف الفرنسي جان تولار منجزات نابليون المزعومة بـ«أسطورة المنقذ» الكاذبة، فنابليون من وجهة نظره، لم يعد ذلك الإله الذي لا يخطئ ولا يجترح إلا المعجزات التي لا يقدر عليها إلا فذ وعبقري مثله، ولكنه مجرد إنسان اقترف من الأخطاء، ما هو كفيل بمحو كل إيحاء بذلك الانبهار الذي صنعته الكتابات الفرنسية التقليدية السابقة.
يقول «روجيه دوفريس» إن حملة نابليون على مصر على لم تكن سوى نتيجة لاستحالة غزو إنجلترا، حيث كان رأي الأخير عندما رأى ضعف البحرية الفرنسية، أن السبيل إلى ضرب إنجلترا هو في أرض حليفتها «هانوفر» أو ضربها في مصر، ولكن كان ضرب هانوفر الألمانية يمكن أن يشعل حربًا جديدة مع الدويلات الألمانية الأخرى، أما احتلال مصر فسيعوض خسائر فرنسا في مستعمراتها المفقودة.
بحسب دوفريس فإن مصر في طريق الهند، وفي الهند ثورة ضد الإنجليز يمكن مساعدتها إذا كانت مصر تحت السيطرة الفرنسية. وكان أول نابليون في هذا القرار، هو الجهل بمناخ الأرض التي سيغزوها، وهي المأساة التي تكررت في روسيا بعد ذلك، حيث نزلت قواته مرتدية ملابس الشتاء في شهر يوليو \ تموز في صحراء مصر الحارقة.
في عام 1802 صدر كتاب من جزئين للفرنسي «فيفان دينون» تحت عنوان «رحلة إلى مصر السفلى ومصر العليا»، وقد نال هذا الكتاب نصيبًا من الشهرة، في تعريف المثقفين الفرنسيين بنوع جديد من الجمال المعماري والفني تعرف عليه دينون من الآثار المصرية، وهو الجمال الذي استوحى منه الفنانون الفرنسيون نمطًا جديدًا في الفنون الجمالية عرف باسم «النمط الإمبير» -نمط الإمبراطورية- في العمارة والأثاث، وقد كان مستوحى بشكل كبير من الآثار المصرية. وفي ثنايا كتابه، يعرض دينون للعديد من أعمال السلب والنهب والحرق واغتصاب النساء الذي ارتكبه جنود الحملة في حق المصريين.
شاهد من أهلها
يطرح «باتريس بريه» في عدد من مجلة «لستوار» العلمية السؤال: «هل كانت الحملة الفرنسية مجرد حملة عسكرية استعمارية عادية؟ أم كانت غزوة ثقافية باهرة، أرست قواعد التحديث في مصر، على الرغم من فشلها العسكري؟» وسرعان ما تجيء الإجابة منذ الكلمات الأولى للمقال، فنقرأ التالي :«نزلنا على بلد لم يكن يفكر فينا، ننهب القرى، ونفقر الأهالي، ونغتصب النساء» مستندًا في ما ذكر على شهادة عالم نبات فرنسي جاء إلى مصر مع الحملة.
في عام 1991 نشر الباحث الفرنسي جان جويل بريجون، كتابًا تحت عنوان «مصر الفرنسية في حياتها اليومية: 1798 -1801»، في كتابه يتهم بريجون الفرنسيين بعدم إدراك حقيقة مشاعر عموم المصريين تجاه الحملة، وأن قلة قليلة من المصريين فقط هي التي كانت راضية بالوجود الفرنسي، ويروي في هذا السياق بعض المذابح والأعمال الوحشية التي ارتكبها الفرنسيون أثناء احتلالهم للبلاد، مثل عمليات تمشيط القرى وما جرى خلالها من سلب للمؤن وقتل للفلاحين، وما فعله الجنرال «لانوس» في مدينة دمنهور أثناء محاولة استعادتها بعد الثورة التي جرت هناك.
عصر الأساطير
بعد الاستيلاء السريع على مالطة وبعد الانتصارات المبهرة التي حققها الجيش الفرنسي في إيطاليا، جاءت الأخبار بمسير جيش نابليون نحو مصر، فالتهب الخيال، وتحمست النفوس في فرنسا، تجاه غزو نابليون لمصر بلد الأساطير، ثم انتصاره على أشهر فرسان العالم «المماليك»، الذي يوحي اسمهم الغريب كما تقول ليلي عنان بأنه قادم من قصص ألف ليلة وليلة.
إلا أن تلك الصورة الشاعرية الساحرة التي ارتسمت في نفوس الفرنسيين، لم تكن سوى مجرد نتاج غشاوات كاذبة نسجتها الدعاية السياسية، كما يظهر من رسائل الجنود والضباط الفرنسيين الذين كانوا يرسلون في خطاباتهم إلى ذويهم الحقائق المريرة عن موقفهم في مصر.
ظلت الرواية الأسطورية عن وقائع الحملة الفرنسية في مصر، هي سيدة الموقف طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين، نتيجة وقوع الأدباء والمؤرخين الفرنسيين فريسة لتلك السردية المضللة، فنجد على سبيل المثال الأديب الفرنسي الشهير بلزاك، يصور نابليون على لسان أحد جنود الحملة العائدين في رواية (طبيب الأرياف) على أنه ذلك القائد الذي ينزل إلى المعارك، فيتساقط ضحايا رصاص العدو من حوله بينما لا تمسه هو طلقة واحدة.
بعد هزيمة الفرنسيين على يد بسمارك في عام 1872، سعت الجمهورية الثالثة في فرنسا في سياساتها التعليمية، إلى التأكيد على التاريخ المجيد لفرنسا، لمؤازرة وإذكاء الروح القومية، ولذلك سعت إلى تأليه الأبطال القوميين وعلى رأسهم نابليون الذي أذل أوروبا كلها عسكريًا، وألمانيا بوجه خاص، وتجاوز ذلك صفحات كتب التاريخ المدرسية، إلى الكتابات التاريخية التي تناولت سيرة نابليون، وتحدثت عنه وكأنه من أنصاف الآلهة أو القديسين، وتناولت حملته إلى مصر وكأنها بعثة حضارية ثقافية وليس كحملة عسكرية، ودون اعتراف حتى بفشل الحملة بنهاية المطاف.
كما تقول عنان، عاشت أسطورة نابليون بونابرت في فرنسا، تتحدى أي عداء، حيث كان حتى الأمس القريب هو رمز مجد ذلك البلد، ومنقذه الذي انتشله من الهاوية، بينما نسي الجميع ذلك الثمن الباهظ الذي دفعته فرنسا من أجل بضع سنوات من المجد الحربي، ونسوا أن هذا الرجل ترك بلده مهزومة ومحتلة ومستنزفة لسنوات طويلة بعد أن فقدت من أراضيها أكثر مما كسبت في حروبها جميعًا، بعد هزيمته المدوية في معركة واترلو عام 1815 التي أنهت حياته السياسية والعسكرية معًا.