كوكب الفريلانس: اقتصاد المستقبل الذي يهمين على العالم
بعد أن استمع إلى الفتاة التي أخبرت رئيس الجمهورية بأنها حصلت على 10 آلاف دولار من عملها كـ freelancer، بحث على جوجل عن (كيف تتقن الفوتوشوب بدون معلم)، وبعد أن أنهى «كورس الفوتوشوب» أنشأ صفحة على فيسبوك بعنوان (art work – freelance graphic designer)، وبدأ الترويج لنفسه بصفته أحد المصممين المبدعين الذين يحملون لقب freelancer، لكن صدمته كانت شديدة حينما وجد عشرات الصفحات بالمسمى نفسه، فانتهت مسيرته العملية قبل أن تبدأ؛ لأنه يجهل أن «الفريلانس» شركة من فرد واحد قادر على التسويق والإدارة والإنتاج وخدمة العملاء.
الفريلانس
منذ ما يقرب من العقد ظهر مصطلح «freelance» في سوق العمل، وأصبح مرادفًا للعمل الحر أو المستقل، وحظي برواج بين الشباب للهروب من البطالة والحصول على فرصة عمل بمميزات أفضل من الوظيفة الثابتة. وقد بدأ بالكتابة والترجمة، والآن أصبحت خانة الوظيفة في الـ «CV» لمعظم الشباب تحمل عبارة «freelancer» بجانب العمل، وتحول الأمر من فرصة للربح إلى عمل دائم؛ مع توقعات بأن يمثل العمل الحر في المستقبل اقتصادًا عالميًا يهيمن على أسواق العمل في مختلف المجالات.
لماذا ينمو العمل الحر؟
يتميز العمل الحر بعدة أمور تجذب الشباب؛ أولها هو اقتصار العمل على شخصين: العامل والعميل، وكل منهما يجد عند الآخر ما يدفعه إلى العمل معه، فالعميل يريد الحصول على عمل مميز بسعر منخفض، بعيدًا عن الأسعار المرتفعة للشركات الخاصة؛ نظرًا لوجود موظفين، ومصروفات إدارية، في حين أن الـ «freelancer» شخص واحد بدون مصروفات زائدة يتحملها العميل، كما أن التعامل بعيدًا عن أوراق الشركات وفواتير الضرائب يوفر على العميل أموالاً ووقتًا هو في حاجة إليها، هذا بخلاف سهولة التعامل، وإمكانية التدخل وإجراء تعديلات على العمل.
على الجانب الآخر يُعد كسب المال ومرونة الجدول الزمني هما الدافعان الرئيسيان للعمل الحر؛ حيث يحدد الـ «freelancer» ساعات عمله بنفسه، ويتخلص من وجود مدير، ويقوم بأعمال من اختياره تتوافق مع اهتماماته، وتتميز بالتنوع والربحية، وتقدم له بدائل ومتنفسًا للتطوير والابتكار.
كذلك تلجأ الشركات والمؤسسات إلى خفض أعداد العاملين بها؛ لتقليل الإنفاق على الرواتب والتأمينات، مما يدفع العديدين إلى العمل الحر؛ هربًا من البطالة، إلى جانب أن الوظائف التقليدية لم تعد تتوافق مع عصر المعلومات؛ إذ إن الوتيرة المتسارعة للتكنولوجيا تهدد بتدمير عدد كبير من الوظائف، حيث يتوقع أن تصبح 47% من الوظائف آلية في العقد القادم.
عقبات في طريق النمو
أبرز خطر للعمل الحر هو الافتقار إلى الأمن المالي والوظيفي الذي يصيب الشخص بعدم الارتياح، وفي حين أن العمل الحر يوفر قدرًا أكبر من الحرية والمرونة، فإنه في الوقت نفسه يعرضك للضغوط؛ إذ يتميز بعدم الثبات، ويتطلب قدرًا أكبر من التركيز والسرعة والترويج، والقيام بالعديد من الأعمال في وقت واحد؛ من أجل اقتناص الفرص، والتعامل مع التغيرات والتطورات.
إلى جانب أن منصات العمل الحر الحالية غير فعالة، ولا تستهدف نشر ثقافة العمل الحر أو تحقيق نمو في هذا المجال، إنما تستهدف جذب أكبر عدد من المتابعين والمشتركين.
هذا إلى جانب العديد من الأسباب الأخرى، ومنها:
- المناهج الدراسية بالمدارس والجامعات معظمها أمور نظرية لا يتعلم منها الشاب كيفية العمل بصفة مستقلة.
- ضعف المهارات الذاتية، وعدم تنميتها، إلى جانب قلة الخبرة والتسرع؛ فالعمل الحر لا يعتمد فقط على القدرة على استخدام التقنيات، بل على خبرات يكون أغلبها تراكميًا من التعامل مع العملاء، والاحتكاك بسوق العمل ومستلزماته ومتطلباته.
- يجب أن يقوم الفرد بالعديد من الأدوار بجانب عمله، بأن يكون مندوب مبيعات، ورجل أعمال، ومسوّقًا، ومحاسبًا؛ ليستطيع إدارة عمله وتحقيق الربح منه.
- قد يتطلب الحصول على مشروع عدة أشهر من الترويج، والعمل بدون مقابل.
- عدم القدرة على إدارة الحسابات، والميزانيات، وتحمل الخسائر أو الربح غير المجزي أو عدم استقرار الدخل.
- قد يرغب العميل في إجراء تعديلات وفقًا لمنظوره الذي لا يُقدّر الإبداع، أو يكون مترددًا وغير قادر على التحديد، وغير قابل للإقناع، كما أنه يريد الحصول على أعلى جودة بأقل سعر.
- عدم وجود ضمانات لطرفي العمل، فقد يحصل العميل على ما يريد دون أن يدفع مقابلاً ماديًا، وقد يتأخر الـ «freelancer» عن موعد التسليم دون تعويض للعميل عن خسائر التأخير.
- من الصعب التوقف عن العمل؛ لعدم الثقة في توفير ما يكفي من المال لتأمين الحياة عند الكبر أو المرض.
معاناة الـ «freelancer» عربيًا
إلى جانب المشكلات السابقة يعاني الشباب العربي من أزمات اقتصادية واجتماعية، وصراعات سياسية، وتدهور للأحوال المعيشية، وتدنٍ لمستويات الدخل، وانتشار للبطالة، ورغم أن العمل الحر قد يمثل نافذة الأمل للشباب العربي لتحقيق طموحاته، إلا أنه لا يلقى تقديرًا من قبل النظم الحاكمة والمؤسسات والشركات، التي تقلل من كفاءة الـ «freelancers»، وتفضّل عليهم مؤسسات وشركات لا تقدم مستوى الاحترافية والجودة الذي يقدمونه.
وتعد دولة الإمارات هي الدولة العربية الوحيدة -تقريبًا– التي تدعم العمل الحر، من خلال (مؤسسة محمد بن راشد لدعم مشاريع الشباب)، التي تتعامل مع الـ «freelance» ببُعد استثماري لتأسيس بنية للمشروعات الصغيرة والمتوسطة، وذلك بإثراء النزعة الريادية للشباب الإماراتي، من أجل نشر ثقافة تقبُل المجتمع للعمل الحر، عبر مشاركة الأهالي في دعم مشاريع أبنائهم عمليًا.
وبخلاف الإمارات فإن بقية الدول العربية لا تهتم بالعمل الحر، والذي يجب أن يُنظر إليه كوسيلة مهمة لحل أزمات البطالة والاقتصاد، وذلك بأن يمثل العمل الحر أولوية لدى واضعي السياسات والمواطنين، وقد يتطلب الأمر كيانًا رسميًا تحت مُسمى نقابة أو اتحاد؛ لضمان حقوق العاملين بهذا المجال، دون أن تسعى الدولة للسيطرة عليه، وتفريغه من مضمونه، وتحويله إلى كيان تابع لها ينحصر اهتمامه بالعاملين بالمجال في الرعاية الصحية والنوادي والمصايف.
كما يجب ألا ينحصر العمل الحر في مصطلح (المشروعات الصغيرة والمتوسطة)، ذلك المصطلح القاصر الذي يحول العمل الحر إلى مجموعة مشروعات ضعيفة لا رابط بينها سوى تحقيق ربح بعيدًا عن الوظائف الرسمية، لكنها لا ترقى إلى درجة التخطيط الذي يُنتج اقتصادًا موازيًا يساعد الاقتصاد الرسمي ويتحمل معه الأعباء.
أعداد العاملين المستقلين في الولايات المتحدة
مستقبل العمل الحر
توضح الإحصائيات مدى ضخامة سوق العمل الحر، وتشير إلى أن نسبة كبيرة من أصحاب العمل الثابت يتجهون للعمل الحر؛ للعثور على فرص أفضل للعمل وجني المال، كما تتنبأ بأن العمل الحر سيصبح هو النمط الافتراضي للعمل والدخل لغالبية القوى العاملة العالمية.
وفي حين أن الإجماع اليوم على أن الوظائف الثابتة تعني الاستقرار والأمان، فإن التقدم التكنولوجي سيُضعف هذا الاعتقاد مستقبلاً، فإذا كنت تعمل في وظيفة واحدة ثابتة فأنت تضع كل وقتك ودخلك وحياتك في سلة واحدة، إلى جانب أن أصحاب الأعمال يسعون لتقليل العاملين من أجل تقليل الإنفاق، في ظل الأزمات الاقتصادية العالمية، وعدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي للعديد من الدول الجاذبة للمستثمرين.
ومع توسيع نطاق العمل الحر فإنه يُتوقع أن يصبح اقتصادًا عالميًا مستقلًا يتميز بالنمو واللامركزية، فالأمر لا يقف عند زيادة عدد المستقلين، إنما يتم –حاليًا- بناء اقتصاد جديد يعالج الأخطاء الاقتصادية القديمة، ويقوم بمعظم الأعمال بسهولة ومرونة، بحيث يمكن لأي شخص أن يصبح مستقلاً بغض النظر عن العمر أو البلد أو الخلفية أو المهارات، إنما يعتمد على الاهتمامات والشغف، ويسعى العامل فيه إلى اكتساب مهارات بقدر سعيه إلى اكتساب أموال.
إلى جانب أن وجود هذا الاقتصاد الحر من شأنه أن يُسفر عن فوائد اقتصادية وإنتاجية هائلة تساعد على تقدم البشرية، وتزيد من معدلات الإبداع والابتكار؛ وتحقق قوة عاملة عالمية مرنة، تحت مظلة اقتصاد شامل، يوفر لجميع العاملين أعمالاً متنوعة وممتعة ذات أجور تتناسب مع مهاراتهم، إلى جانب توفير الوقت للاستمتاع بالحياة ومتابعة الشغف.
المستقلون: قوة مجتمعية وسياسية واقتصادية
تكمن قوة المستقلين حاليًا في عدة نواحٍ، فمن الناحية المجتمعية تغيرت نظرة المجتمع قليلاً للعمل الحر، فبعد أن سيطرت لسنوات عديدة ثقافة «إن فاتك الميري اتمرّغ في ترابه» كثرت الدعوات حاليًا للبحث عن عمل غير حكومي.
وعلى المستوى السياسي لم يتوقف الأمر عند الإحصائيات والأرقام التي تشير إلى تنامي العمل الحر، كما لم يتوقف عند الدعوة إلى بناء اقتصاد حر، بل تعدى ذلك إلى التأثير المجتمعي والسياسي والاقتصادي للمستقلين، فالأرقام والإحصائيات تؤكد أنهم في المستقبل القريب سيمثلون قوة مجتمعية لها وجود ملحوظ وتأثير كبير على المجتمع والاقتصاد.
الأمر الذي سيترتب عليه -بالطبع- تأثير سياسي، فكتلة المستقلين قد تشارك سياسيًا؛ لما يتوفر لها من معارف وإدراك ووقت لممارسة أنشطة أخرى بجانب العمل، هذا بخلاف أن الاستقلال والحرية هي أمور رئيسية في العمل الحر وكذلك في السياسة، وقد يعتمد المرشحون في الانتخابات المختلفة على أصوات هذه الفئة التي تتزايد بصفة مستمرة، خاصة وأن تواجدهم أصبح واقعًا ملموسًا، إلى جانب تأثيرهم الإيجابي على الاقتصاد، من خلال رواج الأعمال وعائدات الضرائب التي يدفعونها.
كما أن العديد من المستقلين يعملون بمتوسط ساعات عمل يقارب ساعات العمل الاعتيادي، ويؤدون نفس مقدار العمل تقريبًا. وانطلاقًا من ذلك فقد يطالبون بأن تشملهم شبكة الأمان الاجتماعي التقليدية، مثل التأمين ضد البطالة والحصول على «المعاش» والرعاية الصحية، إلى جانب قوانين العمل والأجور.
وفي الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة أظهر مسح إحصائي أن العديد من العمال المستقلين سينتخبون المرشح الذي يُقر باحتياجاتهم، ويسعى لمصلحتهم، وذُكر أن 67٪ ممن شملهم المسح أنهم سيطالبون بالحصول على استحقاقات الصحة والتقاعد. وقد حظي الأمر بالاهتمام؛ في ظل أن المستقلين يمثلون ثلث القوى العاملة الأمريكية، إلى جانب أن 85٪ منهم قاموا بالتصويت في الانتخابات العامة.
قد لا يزال الأمر في طور البناء، وقد تعوقه بعض الأمور السياسية والاجتماعية، لكنها مسألة وقت حتى يتحول العمل الحر من مجرد خانة في وظيفة إلى اقتصاد عالمي ضخم يحظى بالاستثمار والتخطيط من أجل الاستفادة أو الاستغلال أو الاحتواء، فقد مثّل المستقلون وقود وقوام ثورات التغيير العربي، وثورات التقدم الغربي، فأصحاب «فيسبوك» و«جوجل» و«مايكروسوفت» و«آبل» يتحكمون في نتائج الانتخابات وبالتالي السياسات الحاكمة، ويوجهون الرأي العام، ويلقون الضوء على ما يريدون، ويتحكمون في عقول وجيوب مستخدميهم، وقبل ذلك يتحكمون ويحتوون ويشجعون ويدعمون المستقلين.
تُرى هل يخططون للحكم والهيمنة؟، إنها مسألة وقت.