الحرية مركز الدين
لم تعهد الإنسانية مثيلاً لعمق هذا الدين وتفسيره الكامل لكل من حقيقة الوجود، وطبيعة الكون، وحقيقة الإنسان ومآله. وبتحديد حقائق تلك المصطلحات يحدد الدين المنهج، والتصور الصحيح الذي من خلاله تدب حياة البشر في هذه الأرض.الدين الذي كذلك من خلاله تنسجم وتتماشى حياتهم مع فطرة الكون ولا تصادمها، ولا تقف ضدها، بل تواكب مجرياتها وأحداثها، فتستطيع البشرية عن طريق ذلك المنهج أن تتعامل مع مشكلات الوجود الذي من حولها.وبهذا التقديم البسيط لهذه الكليات؛ فإن ذلك المنهج الذي اختاره الله لهذه الإنسانية محوره الحرية والاختيار لا الإذلال والإجبار، بحيث أن هذا المحور يتكامل طبيعيًا مع عملية هبوط آدم إلى الأرض ومعه الشيطان، بحيث يبدأ الصراع.يتّسم ذلك الصراع بالمبادئ والدركات، وآدم وذريته من بعده يعيشون في منتصف هذه المعركة المدوية؛ أي أنهم بين طاعة الله وطاعة الشيطان، بكل حرية واختيار، فالطريق واضح المعالم ومحدد الوجهة، لا لبس فيه ولا غموض، فإن آخره الجنة والنار وطريقاهما مرسوما الخطوط في منهج الله تعالى.
لماذا الحرية مركز الدين؟!
ليس بتأمل شديد الدقة في طبيعة القرآن يمكننا إدراك هذه الحقيقة وهي الحرية. فمنذ أن نزل آدم إلى الأرض، وعقد الشيطان اللعين عهدًا مع الله بأن يغوي آدم عليه السلام وذريته من بعده؛ بدأت رحلة الحرية والاختيار.فموضع بني آدم بعد أن أقيمت عليهم الحجة البينة عبر تسلسل الرسل ختامًا برسالة الإسلام التي كانت متممة لتلك الحقب، موضعهم هو الحرية بين الهدى والضلال، بين الظلام والنور، بحيث يتحدد بهذا الاختيار الحر جزاؤهم في الآخرة وهو إما جنة وإما نار.بالتالي فقد بُني الإسلام كله على هذا الأساس من الاختيار. فعندما تختار الأمة منهج الله بإرادتها الحرة يتعين عليها أن تقيم شريعته، وما لم تنبع هذه الإقامة للدين من ضمير الأمة الجمعي الاختياري، فليست تلك بشريعة الله، ولا يقبل الله دينًا يشوبه الإكراه والإجبار. فاختلاط الدين بعنصر الضغط والجبر يفسد التدين، بل يمنع الدين عن أداء رسالته الاجتماعية والحضارية في الإصلاح والتقويم، ويحجبه عن القبول عند الله فلله الدين الخالص، كما في قوله تعالى (واعبد الله مخلصًا له الدين ألا لله الدين الخالص). ومن البديهي ألا يكون الدين خالصًا إلا إذا كان نابعًا عن إرادة حرة، والعبادة بمفهومها الشامل لا تعني فقط الصلاة أو الزكاة أو غيرها، بل تتعداها إلى الحياة العامة، وإقامة العدل، والحرية والشورى.فلأن العبادة بهذا المفهوم الشامل لا يقبلها الله إلا أن تكون خالصة من كل ما يشوبها من نفاق يولده الإكراه، لأجل ذلك كانت الحرية هي مركز الدين في كل جوانبه وشعابه وتفصيلاته، ولأجل ذلك العهد المعقود بين الله والشيطان والذي وضِع آدم وذريته من بعده في وسطه يتدافعون، لأجله كذلك كانت الحرية هي مركز الدين.إن الإسلام نظام إصلاحي ترميمي شامل، وغاية الإسلام ليس جعل الناس في شكل قوالب مادية أو أشكال هندسية ظاهرية، بل مهمته الإصلاح الاجتماعي والسياسي والثقافي. بالتالي فالحرية هي طريقه لذلك الإصلاح وهي مركزيته فيه، فكان بإمكان الإسلام إجبار الناس وتنميطهم ولكنه بذلك يصادم الفطرة ويخرّب الضمير ويولد النفاق ويفسد القلوب.فالإسلام هو دين الفطرة لا يصادمها بل يسعى للحفاظ عليها، وكل تدين يصادم الفطرة فهو مجرد مظهر لا يعالج حقيقة المرض، وكما يقول الشيخ محمد الغزالي (إن الإكراه على الفضيلة لا يصنع الإنسان الفاضل، كما أن الإكراه على الإيمان لا يصنع الإنسان المؤمن، فالحرية هي أساس الفضيلة).إن التزام الفرد الذاتي بقيم الدين هو طريق الهدى، وليس المؤمن من لا يخطئ بل من يخطئ ويصيب، وإن من أكبر مشاكل الأمة ذلك الفهم الخاطئ لطبيعة الدين، وكأن المتدين فرد ذو مثالية خارجة عن الإطار البشري أو كأنه فرد معصوم. والحقيقة أن المتدين فرد عادي ولا يقبل الإسلام هذا التقسيم المتعسف للمجتمع بين متدين وفاسق، صحيح أن الناس يختلفون ولكن الدعاة لا ينظرون للأمة وكأنهم في سمو عالٍ بل يجب أن يعفوا عنهم ويستغفروا لهم ويشاوروهم.
طبيعة الدعوة وإطار الحرية
لا تنفصل الحرية عن الدعوة إلى الله تعالى، فالحرية هي إطار ومركز وجوهر للدعوة الإسلامية، وبالتدبر في مسيرة الرسل عليهم السلام نجد أن الحرية وكيفية التعامل مع البشر حاضرة في كل وقت وفي كل حين. بل يطرق القرآن الآذان في قصص متتالية يمتلئ بها النص القرآني لكي لا يغيب هذا المبدأ النبيل عن طبيعة الدعوة، ولكي يكون لصيقًا بتربتها الممتدة عبر التاريخ، لتشكل طيفًا ممزوجًا بتجارب البشرية عبر العصور وتؤكد على اختلاف البشر وتنوعهم، واختلاف ألسنتهم وألوانهم.تمثل الحرية جوهرًا في الدعوة، فالقرآن يسرد طبيعة الصر%