الحرية بين التسالم والتغالب الاجتماعيين
عرفنا في مقالين سابقين –نشرهما موقع «إضاءات»- أهم أسباب العنف الاجتماعي وأهم طرق مواجهته. ومن المفيد أن نعرف كيفية تجنبه أصلًا، والوقاية منه ابتداءً؛ حيث إن تكاليف الوقاية أقل بكثير من تكاليف العلاج.
إن من أصول الاجتماع البشري بعامة، والإسلامي بخاصة «التشارك في المنافع العمومية»، بتعبير رفاعة الطهطاوي، ومن قبله ابن خلدون ومن سبقه من علماء الأمة. وإن أي نزعة احتكارية تظهر في ميدان المنافع العمومية والمصالح المشتركة لا بد أن تقابلها نزعة احترابية أو «عنيفة» من جانب الذين يتضررون من تلك النزعة الاحتكارية، وعنئذ يفقد «التسالم الاجتماعي» أساسه المادي الذي يستند إليه، ولا يلبث أيضًا أن يفقد أساسه المعنوي الذي يجعله مشروعًا؛ فإذا فقد أساسه المعنوي أصبح الحديث عن التسالم الاجتماعي كلامًا بلا معنى، وعندئذ يصعد «التغالب» بتعبير الفارابي، ويحل محل التسالم، ولا يكون التغالب إلا باللجوء إلى القوة الصلبة وما ينجم عنها من فظائع العنف الاجتماعي.
وما من سلطةٍ حاكمة إلا وترغبُ أن يسودَ الذين تحكمهم الأمن والتسالم الاجتماعيين، وأن يكون رضاهم عنها أكبر من سخطهم عليها، وتتوقع منهم أن يكون صلاحهم أقوى من فسادهم وفسادها، وتتمنى أن يكون غناهم أوسع من فقرهم، وإن كان أضيق من غناها، وأن يكون أمنهم غالبًا على خوفهم، وتسالمهم أقوى من تنازعهم، وأن يكون أملهم في المستقبل أقوى من يأسهم منه. وإلى هنا لا ينشأ اختلاف أو تنازع ذو شأن بين هكذا سلطة ومحكوميها؛ وإنما ينشأ هذا الاختلاف والتنازع عندما تتجاهل آراءهم، أو تطلب منهم ألّا يكون لهم رأي يخالفها أبدًا فيما يختص بتدبير المصالح المشتركة، أو في رسم سياسة المنافع العمومية، أو في وضع ضمانات الخير العام.
هنا يحدث الانفصال وينقطع الاتصال، ليس لأن المحكومين وذوي الرأي منهم بخاصة أذكى من أهل السلطة بالضرورة، ولا لأنهم يسعون لمنازعتهم في سلطتهم أو تعويقهم عن إنجاز برامجهم الإصلاحية بالضرورة، وإنما لأن «الانفراد» بالرأي في ما هو «مشترك» وعام ينقض هذا العام والمشترك من أساسه المادي، ويهدمه من جهة الوعي المعنوي به، ومن جهة وجوب التعاون الجماعي على إنجازه، ومن جهة وجوب تحمل المسئولية عنه في حالتي النجاح والفشل.
وإذا كان استبعاد الرأي الآخر في ما هو خاص وشخصي يودي بالفرد في مهاوي الخطأ والخسران والعزلة الاجتماعية، فإن الانفراد بالرأي واستبعاد الرأي الآخر في ما هو عام ومشترك عمل ضد المنطق وضد الرشد وضد سنن الحياة الاجتماعية على طول الخط، وهو يودي بالمصالح العامة والجماعية في مهاوي الإخفاق، ويفتح أبواب التغالب والعنف الاجتماعي على أوسع نطاق.
لهذا- ولأسباب أخرى- اقتضت أحكام الشريعة ومقاصدها أن النظر في: ضروريات الحياة، وحاجياتها، وتحسينياتها، وكل ما هو عام ومشترك منها، يجب أن يكون مبنيًا على المشاورة والشورى، وأن تكون قرارات إنجاز تلك المنافع والمصالح المشتركة مستندة إلى إجماع عام يشمل أكبر نسبة ممكنة من الذين يتشاركون تلك المنافع والمصالح.
وليس من سبيل إلى إجراء التشاور وإعمال الشورى والوصول لإجماع العدد الأكبر إلا بشرط توافر «الحرية»؛ إذ كيف يجري تشاور من أجل معرفة مختلف الآراء بعيدًا عن أنوار الحرية؟ وكيف يطمئن أكبر عدد ممكن من أبناء المجتمع إلى أن ما يقوم به أهل السلطة فيه المصلحة دون وعي بمختلف الآراء ودون القدرة على التمييز بين النافع والضار في أضواء الحرية والتسالم الاجتماعي؟
من مشكلات بناء الوعي في مجتمعات أمتنا المعاصرة: تجزئة المنظومات المفاهيمية الكبرى التي تبني الوعي الجماعي بأولوية الحرية ووجوب التشاور والتوافق لإدراك المصالح المشتركة؛ بل أحيانًا ما توضع مكونات هذه المنظومة بعضها في تضاد مع بعضها الآخر، كما توضع المصالح الخاصة في مواجهة المصالح العامة.
وهذا هو حال منظومة مفاهيم المنافع العامة والتسالم الاجتماعي؛ التي تشمل الحرية والشورى والإجماع والوئام العام؛ إذ نادرًا ما يطرحها الساسة -أو حتى العلماء- طرحًا يوضح شبكة العلاقات التي تربط بين أصول الحرية ومقاصدها من جهة، وأصول الشورى والإجماع ومقاصدهما من الجهة الأخرى. ولا نكاد نجد طرحًا تلتقي فيه «الحرية» و«عموم الرأي» في الخطاب السائد، مع معاني منظومة «الحرية والشورى والإجماع» بمعانيها الفقهية والأصولية. والأكثر ندرة- إلى حد الغياب- هو الربط بين هذه المفاهيم ومقصد «التسالم الاجتماعي» ونبذ العنف في العلاقات بين أبناء المجتمع وفئاته من جهة، وبين السلطة ومكونات المجتمع من جهة أخرى.
وإذا نَجت منظومةُ «الحرية والشورى والإجماع»- في بعض الأحوال- من التجزئة والتشتت في بناء الوعي الجمعي، فإنها لا تكاد تنجو من عطب الانفصال السلبي بين مضامينها الفقهية وصيغها التطبيقية رغم وحدة موضوعها.
في نظري أن «الحرية» هي روح تشريعات الإسلام وعصب أنظمته الاجتماعية والسياسية والاقتصادية (راجع مقالاتنا عن الحرية في موقع إضاءات). والحرية كذلك «مصلحةٌ» من المصالح الكبرى، أو «مقصد من المقاصد العامة» للأمة بجماعاتها وفي مجموعها، وللإنسانية بعامة.
أمّا «الإجماعُ» فهو مبحثٌ عريق من مباحث أصول الفقه. وقد يظن «الأصوليون» أنهم أشبعوا «الإجماع» بحثًا، أو أنهم استوعبوه معنىً ومبنىً. وأنا أظنُ غير ذلك، وأحاول هنا تعزيز هذا الظن ببعض الإشارات والتنبيهات.
وأمّا «الشورى» فهي أيضًا مبحثٌ عريق من مباحث «فقه المجال العام». ورغم الأهمية العظمى لمبدأ الشورى؛ فإن أحدًا لا يكاد يطرقه حتى يتركه، ولا يكاد يتذكر صلته بعملية صنع «الإجماع» بالمعنى آنفة الإشارة إليه؛ حتى يتناسى هذه الصلة نظريًا وعمليًا. وإذا نظرنا إلى «الحرية والشورى والإجماع» في نور المرجعية المعرفية الموحدة لهذه المنظومة؛ سيتبين أن الحريةَ هي القلب النابض لكل من الشورى والإجماع، ومن ثم هي الركن الركين لما نسميه «التسالم الاجتماعي» ونبذ العنف أيًا كان مصدره، وأيًا كان سببه.
ولكن ماذا عن الأغلبية صاحبة المصلحة المشتركة؟ أو: ماذا عن «الرأي العام»؟
إن مصطلح «الرأي العام» واحدٌ من مصطلحات الحداثة الأوروبية، وهو يندرج ضمن مفاهيم الحداثة السياسية بامتياز. ويصفه الحداثيون هناك بأنه «نبض الديمقراطية» في أنظمة الحكم الرشيدة. أمّا الحداثيون عندنا فيصفونه برأي الجهلاء أو الدهماء.
الحداثيون عندهم يقولون وعندهم الحق: إن الحرية هي شرط وجود الحكم الرشيد قولًا واحدًا. وأيًا كان الأمر؛ فإن الرأي العام هو أساس شرعية السلطة الحاكمة، وهو القيم على تصرفاتها وهو الرقيب عليها. وهذه المفاهيم: الإجماع، والشورى، والرأي العام، والحرية؛ تقع جميعها في الحقل الدلالي الواسع للمجال العام والمصالح المشتركة؛ أو أنها تقع في الحقل الدلالي لمعادله التراثي وهو مصطلح: «المشترك العام» بتعبير السادة الأحناف، أو مصطلح: «عموم مصالح الأمة» بتعبير الإمام القرافي بخاصة، والسادة المالكية في مدوناتهم الفقهية بعامة.
في تاريخ مجتمعات الأمة الإسلامية الحديث والمعاصر: يكادُ «المجال العام» أن يكون ساحة مفرغةً معظم الوقت من تفاعلات وثمرات: الشورى، والإجماع، أو الحرية، والرأي العام.
هذا الفراغ حاصل رغم ادعاء أغلبية أهل السلطة وأولياء الأمر في تاريخنا الحديث والمعاصر أنهم رعاة المصالح المشتركة والخير العمومي، وأنهم ينزلون على ما تكشف عنه استطلاعات الرأي وما تقوله الاستفتاءات والانتخابات، وأنهم لا يعملون عملًا إلا لمصلحة عموم المحكومين، وأنه لا شاغل يشغلهم إلا راحة محكوميهم ورضاهم. بينما مجريات الواقع تقول شيئًا آخر في أغلب الأوقاتِ.