التدليس الذي يمارسه البعض: جائزة نوبل للطب نموذجًا
من الأشياء المؤسفة في عالمنا العربي ظاهرة الترقب السنوي لجوائز نوبل الشهيرة خوفًا من أن تذهب إحدى الجوائز، سواء في الطب أو الكيمياء، لأحد التطبيقات العملية لنظرية التطور، والسعار الذي يصيب بعض المعلقين لسبب لم أتبينه حقيقة، ومحاولاتهم الحثيثة هدم تلك النظرية الراسخة في عالمنا المعاصر منذ أكثر من قرن.
في الغالب يبدأ هؤلاء بمحاولات حثيثة لإثبات أن الاكتشاف/التطبيق العلمي الذي حاز على الجائزة لا علاقة له بالتطور، بل على العكس هو ينفيه، ثم نبدأ في سرد نفس منظومة الأكاذيب التي لم تتغير خلال العقدين الماضيين.
كان القدماء لديهم تفاسير لكل الظواهر، وكانت تفاسيرهم في الغالب خاطئة. فعلى سبيل المثال، الفيلسوف اليوناني الأشهر أرسطو كان يؤمن أن الرجال لديهم أسنان أكثر من النساء، ورغم أن تفنيد تلك الفرضية كان سهلًا جدًّا، فما عليه إلا القيام من فوق أريكته المريحة والذهاب لزوجته لعد أسنانها، فإن الفيلسوف الأعظم لم يفعلها.
اختلف العلم كثيرًا في زمننا الحالي عن أيام أرسطو وسقراط، ومما لا شك فيه أن القرن الحالي والماضي شهدا تقدمًا علميًّا مذهلًا لم تشهده البشرية خلال خمسة آلاف سنة من تاريخها المكتوب. ومن أجل الحفاظ على هذا المعدل من التقدم، قام المجتمع العلمي بوضع تصنفيات لقوة الأدلة، فلا يسمح بالطبع لأمثال أرسطو الجالسين على كراسيهم خلف شاشة الهاتف أن يكون لرأيهم قيمة.
تم تصنيف الأدلة حسب قوتها، فكما أن أدلة الأحكام الفقهية في الإسلام أربعة، فكذلك أدلة البحث العلمي هي خمسة أو ستة، أدناها رأي الخبير في المجال Expert opinion. أما آراء غير المختصين فلا محل لها من الإعراب.
ولكن صدق قول الفيلسوف والمؤرخ الإيطالي الشهير أمبرتو إيكو عن السوشيال ميديا أنها أعطت فيالق الحمقى الحق في الكلام وإبداء رأيهم، فأصبح الآن من حقهم الكلام مثلهم مثل الفائزين بجائزة نوبل. لذا نجد أننا مضطرون للرد على كتابات تنتشر بين القراء غير المختصين.
يقول أحد المعلقين، وهو حاصل ماجستير إدارة الأعمال ويعمل كمهندس ورائد أعمال كما يحب أن يوصف*، عن اكتشاف الدكتور السويدي سفانتي بابو ومعهد ماكس بلانك البحثي الشهير في ألمانيا، والحائز على جائزة نوبل في الطب لهذا العام:
هنا تكتشف أن البشمهندس لم يكلف نفسه عناء قراءة الأبحاث التي يعلق على نتائجها سلبًا وإيجابًا بكل ثقة. فالبحث يقول إن التشابه الجيني بين إنسان نياندرتال وبين الإنسان المعاصر 99.7%، وهذا مقارنة مع خمس عينات معاصرة من مناطق مختلفة في الصين وأفريقيا والأمريكيتين، في حين أن التشابه الجيني بين أفراد الجنس البشري المعاصر مع كل الاختلافات التي بينهم يبلغ 99.9%.
ورغم أن 0.2% قد لا تبدو رقمًا كبيرًا، لكنها في الواقع تعني ملايين الاختلافات داخل الجينوم، ولو راجعت حجم التشابه بين الجينوم البشري المعاصر وكائنات أخرى فستذهل من التشابه الشديد ووقتها لن تبدو 0.2% رقمًا صغيرًا.
يقول كذلك:
وهو هنا، على عكس كثير من متابعيه، يعي جيدًا المشكلة التي سيصطدم بها، فهو لن يدخل جدالًا بدائيًّا معتادًا، بل سيصطدم مباشرة بصاحب جائزة نوبل للطب/الفسيولوجيا لعام 2022 نفسه، لذا فهو يوحي لمتابعيه أنه لا يصطدم بالعلم عندما يدعي أن صاحب جائزة نوبل لم يقل إن الموضوع له علاقة بالتطور، هو فقط وضع نموذجًا لانتشار البشر الأوائل وتزاوجهم مع كائنات بشرية أخرى. وهذا غير صحيح. فالرجل صاحب جائزة نوبل يقول في بحثه الشهير عن إنسان دينسوفا، أحد أنواع الإنسان البدائي، وهو البحث الذي نشر في مجلة نيتشر المرموقة عام 2010:
دون الدخول في تفاصيل كثيرة، ولمن لا يجيد الإنجليزية، فالرجل يتحدث بصورة واضحة عن الفروق الجينية بين الإنسان المعاصر وإنسان نياندرتال وإنسان دينسوفا والشمبانزي والبنوبو.
إذا نظرت في المصادر التي يضعها الكاتب، تكتشف أنه إما لم يقرأ عناوينها حتى أو أنه قرأها ولكن قرر وضعها كنوع من أنواع الإبهار لمتابعيه الغلابة باعتبار أنه يضع مصادر إنجليزية فحسب، بل وصل الأمر حد أنه في معرض رده على صاحب جائزة نوبل 2022، جعل مصدرًا له رأي عالم حفريات، هو ريتشارد ليكي، من كتاب ألفه ليكي عام 1981، أي قبل نحو 40 عامًا.
ليس هذا فحسب، بل إن ليكي الذي يستشهد الكاتب بمقولته عن أن الخلافات في الشكل بين النوع البشري القديم (هومو إركتس) لا تختلف كثيرًا – على الأرجح – عن الخلافات بين الأعراق البشرية المعاصرة، هو نفسه مكتشف أشهر حفرية للهومو إركتس، حفرية صبي (توركانا)، وقد وضع عدة كتب عن تطور البشر في شرق أفريقيا من القردة، من بينها الكتاب الذي يستشهد به الكاتب على الفيسبوك، مما يدل على أنه على الأرجح لم يقرأ عنوان الكتاب إذ إنه لو قرأه لما وضعه على الأغلب بين مصادره. ففي المجمل، اسم ريتشارد ليكي يعني للمختصين تطور القردة الجنوبية في شرق أفريقيا للإنسان المعاصر.
نأتي للنقطة المهمة وهي قول الكاتب على الفيسبوك:
هذا التدليس قد يخيل على غير المختص البعيد عن دراسة الأحياء ولكن بالنسبة لأي دارس لعلم الأحياء الوضع مختلف.
فأولًا من أين أتى بكلمة «أشباه بشر»، فالمصطلح العلمي المعتبر هو Archaic humans، أي الإنسان البدائي أو القديم، والرجل بالطبع يتعمد ذكر مصطلح «أشباه بشر» كي يوحي لمتابعيه أن العلم في مأزق، فكيف لأشباه البشر أن يتزاوجوا مع البشر.
ثانيًا وهو الأهم، متى فسروا النوع الواحد على أنه مجموعة من الكائنات الحية التي يمكن أن تتكاثر مع بعضها البعض وتنتج نسلًا خصبًا؟ تفسير مصطلح النوع البيولوجي أمر معضل جدًّا، وهو معضل منذ أيام داروين حتى يومنا هذا. وإذا فتحت أي كتاب أحياء مختص، فستجده يناقش مشكلة النوع species problem. يمكنك الاطلاع على هذا الكتاب لتعلم أن الموضوع معضل فعلًا.
التعريف الذي ذكره الأستاذ أشرف هو تعريف واحد من ضمن بضعة وعشرين تعريف، ولهذا التعريف عدة مشاكل:
- هو يتحدث عن الأنواع التي تتكاثر جنسيًّا في حين أن هناك آلافًا وربما ملايين الأنواع التي تتكاثر بطرق أخرى لا جنسية.
- يتجاهل العوامل الجغرافية، فالتعريف يقول تكاثروا في الطبيعة، هب أن كلبًا على ضفة من نهر والثاني على الأخرى، بالتالي هما غير قادرين على التكاثر في الطبيعة، هل هذا يعني أننا أمام جنسين مختلفين؟!
- الأجناس الهجينة موجودة، سواء في الطبيعة أو بتدخل البشر والأمثلة عليها أكثر من أن تحصى، صحيح أن كثيرًا منها لا يكون خصبًا، ولكن الكثير يكون خصبًا، وفي بعض الأجناس المخاطة تكون الإناث خصبة والذكور هي العقيمة طبقًا لقانون العالم هالدين الذي وضعه في 1922.
أنا أعلم يا عزيزي القارئ أن أول ما يخطر ببالك في الأجناس الهجينة هو حيوان البغل، وأنه عقيم، وبالتالي الكلام صحيح، ولكن فكر للحظة:
– تم تسجيل تزاوج الدببة القطبية والدببة الشهباء أو البنية في الطبيعة أكثر من مرة مع ذوبان جليد القطب الشمالي واضطرار الكثير من الدببة القطبية للنزول جنوبًا وأنتجوا ذرية خصبة.
– في الولايات المتحدة الأمريكية تم إنشاء مزارع خاصة لحيوانات هجينة بين الأبقار والبايسون وكانت النتيجة هجينًا قادرًا على التكاثر.
– حيوان اللايجر وهو هجين بين الأسد والببر تكون إناثه قادرة على الإنجاب، في سي لايف بارك بهاوايي حدث تزاوج غير مقصود بين دولفين وحوت قاتل غير صحيح، وكانت النتيجة حيوان أطلق عليه اسم (وولفين)، وكانت أنثى وأنجبت حتى يومنا هذا ثلاث مرات.
وفي عالم النبات الموضوع أوضح، الكثير من أكلنا اليوم إما أنه ناتج بين تزاوج نوعين مختلفين من النباتات أو نتيجة سلسلة طويلة من الانتخاب (الصناعي) مش الطبيعي، والذي أنتج مأكولات لا علاقة على الإطلاق بينها وبين أصلها البري، مأكولات مثل البامية والكيوي والفول السوداني والذرة … إلخ.
بل إن العلماء حاليًّا بعد صعود نجم التحليل الجيني بدأوا في تغيير تصنيفات العديد من الحيوانات وجعلها أكثر، على سبيل المثال في بحث نشر في مجلة نايتشر عام 2016 أصبحت الزرافة الأفريقية أربعة أنواع منفصلة، هل تظن أن تلك الزرافات لو تزوجت فلن تنجب ذرية خصبة.
العام قبل الماضي، تم وصف حوت جديد في خليج المكسيك وإعطاؤه اسم حوت رايس، بناء على التحليل الجيني فقط فالحوت كان يشبه حوت برايد مع اختلافات طفيفة.
نقطة أخيرة حتى لا أطيل عليك، الرجل يقول في النهاية:
والحقيقة أنني لم أسمع عن هذا العالم من قبل، وذهبت للمصدر الذي ذكره وجدتها ورقة بحثية من عالم لغويات سويدي ليس هو المذكور، رغم أن الورقة البحثية لم تكن مفتوحة المصدر، وبالتالي أشك أنه قد قرأها، لكنني استطعت الحصول عليها، فوجدت عالم اللغويات يستشهد بتلك المقولة ويحاول تفنيدها.
ليس هذا فحسب، بل وجدت هذا العالم الذي يستشهد به الكاتب هو عالم آثار، فوجدت منطقًا عجيبًا بعض الشيء برأيي، الاستشهاد برأي عالم آثار في موضوع بيولوجي/طبي صرف.
وبغض النظر عن البنيان العلمي الضعيف لمقالات الأستاذ أشرف، وهو أمر واضح جدًّا لأي مختص، ولكن استشهاداته العلمية عجيبة بعض الشيء، وكثير منها قديم جدًّا، تلك عادته بالمناسبة، كما أن معظمها يصب في غير صالح المكان الذي يريد الذهاب إليه. وحينما يجد عالمًا يوافق رأيه بالبحث يكون عالم آثار!
* ورد تعليق من الأستاذ أشرف قطب يؤكد أنه حاصل على بكالريوس العلوم في الكيمياء الحيوية ودرجتي ماجستير في العلوم، وهو الآن باحث في الدكتوراه، لذا وجب التنويه بذلك.